[مِنَ الطَّوِيلِ]
وَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي
وَبَيْنَ بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَّا
المُقَنَّعُ الكِنْدِيُّ
– 1 –
لَمْ أستطِعْ أنْ أَفْصِلَ ما بيني وبَيْنَ كِتابِ خارِج الصَّنْدُوقِ للدُّكتور عبد العزيز حسين الصُّوَيِّغِ، وما إنْ بَلَغْتُ آخِرَ صفحةٍ مِّنْهُ – وهُوَ كِتابٌ كثيرُ عَدَدِ الصَّفَحَاتِ، كبيرُ القَطْعِ – حتَّى مَسَّنِي شُعُورٌ لَّا سبيلَ إلى وَصْفِهِ وتعيينِهِ، هُوَ ضَرْبٌ مِّنَ الفَرَحِ الَّذي يُدَاخِلُنِي كُلَّما ظَفِرْتُ بِكِتابٍ مُمْتازٍ، أوْ كأنَّما انتهَى إلَيَّ شيْءٌ مِمَّا فيهِ، يُوْشِكُ أن يَكُونَ “عَدْوَى”، هِيَ، كذلكَ، أَثَرٌ مِّنْ آثارِ الكُتُبِ المُمْتازةِ والمُؤَلِّفِينَ المُمْتازِينَ، وإذا بي، وأنا في قَهْوةٍ مِّنَ القَهْوَاتِ الَّتي يَطِيبُ لي أنْ أَخْتَلِفَ إليهِنَّ قُبَيْلَ الفَجْرِ أوْ بُعَيْدَهُ = في حالٍ لَّا يُشْبِهُ حالِي الَّذي كُنْتُ عَلَيْهِ، قَبْلَ اختلافي إلى القَهْوَةِ، فَرَحٌ مَّشُوبٌ بالْحُزْنِ، وإعجابٌ لَّا ينتهي بِكاتِبٍ أَفْلَحَ إذْ أرادَ لِمَا يُنْشِئُهُ أن يَكُونَ “خارِجَ الصُّنْدُوقِ”، مُلائِمًا لِّعُنْوَانِهِ الَّذي اصطَنَعَهُ، ومُخَالِفًا لِّمَا أَخَذَ بِهِ نَفَرٌ مِّنْ مُؤَلِّفِي هذا اللَّوْنِ مِنَ الكُتُبِ الَّتي اصطَلَحْنا عَلَى تَسْمِيَتِها “سِيرةً ذاتِيَّةً”، مَهْما تَكُنِ التَّسْمِيَةُ، في كثيرٍ مِّنَ الأحيانِ، مُجافِيَةً لِّهذا النَّوْعِ الأدبيِّ الْجَمِيلِ؛ فصاحِبُنا عبدُ العزيزِ يُخالِفُ عَنْهُمْ ولا يَجْمَعُهُ وإيَّاهُمْ طريقٌ، مَّهما بَلَغَ، في سُلَّمِ الوظيفةِ، مَرْتَبَةَ وكيلِ الوِزارةِ، والسَّفِيرِ، وعُضْوِ مَجْلِسِ الشُّورى، لِسَبَبٍ يسيرٍ دَلَّنا عَلَيْهِ كِتابُهُ كثيرُ عَدَدِ الصَّفَحَاتِ، كبيرُ القَطْعِ، إنَّهُ مُخْتَلِفٌ عَنْهُمْ لِلَّذي مَضَى، ولأنَّ أصحابَ تِلْكَ المُذَكِّراتِ لَمْ يَطَّرِحُوا عَبَاءَةَ المسؤولِ، مَهْما أُوْهِمْنا أنَّ ما يُنْشِئُونَهُ إنَّما هُوَ في شأْنٍ مِّنْ شُؤونِ أَنْفُسِهِمْ، فلا يزالُونَ مُتَحَفِّظِينَ مُتَزَمِّتِينَ، يَتَلَفَّتُونَ، يَمْنَةً ويَسْرَةً، وما هكذا عبدُ العزيزِ، وما هكذا كِتابُهُ الفاتِنُ الْجَمِيلُ!
– 2 –
وعَسَانا نُمَيِّزُ ما بَيْنَ عبدِ العزيزِ حسين الصُوَيِّغِ وجَمْهَرَةٍ مِّنْ ذوِي الهَيْئَاتِ، مِمَّنْ أَذاعُوا في النَّاسِ مُذَكِّراتِهِمْ وما كَتَبُوهُ في شُؤُونِ أَنْفُسِهِمْ؛ فصاحِبُ خارِجِ الصُّنْدُوقِ كاتِبٌ استهوَتْهُ الكِتابَةُ مُنْذُ فَجْرِ شَبَابِهِ، ولَيْسَتِ الكِتابةُ الَّتي أَعْنِيها هِيَ ما عَكَفَ عَلَيْهِ لِيَظْفَرَ بشهادَتِيْهِ العالِيَتِينِ في العُلُومِ السِّياسيَّةِ، ولا ما تَكَبَّدَهُ يَوْمَ أَقْبَلَ عَلَى أُطْرُوحَتِهِ فنَقَلَها إلى لِسَانِ العَرَبِ، فقَرَأَها، مِنْ أَهْلِ الاختصاصِ، مَن لَّهُ تَعَلُّقٌ بالنَّفْطِ والسِّياسةِ، فهذا الضَّرْبُ مِنَ الكِتابةِ هُوَ أَشْبَهُ بالواجِبَ المَدْرَسِيِّ، مَهْما أَحَطْناهُ بِهالاتِ المَجْدِ = إنَّما الَّذي أَعْنِيهِ هُوَ ذلكَ اللَّوْنُ مِنَ الكِتابةِ الَّتي عُرِفَ بها عبدُ العزيزِ، في الصِّحافةِ اليَوْمِيَّةِ، ذلكَ اللَّوْنُ الَّذي هُوَ أَلْصَقُ بِما يُنْشِئُهُ الأُدباءُ والصَّحفيُّونَ، ولا يُحْسِنُهُ مِنْ أساتِذَةِ الْجامِعةِ إلَّا ثُلَّةٌ مِّنْهُمْ، وكأنَّما أَشْبَهَ الصُّوَيِّغُ فيهِ أستاذَهُ في الْجامِعةِ الشَّاعِرَ والكاتِبَ والرِّوائيَّ ورَجُلَ الدَّولةِ غازي القُصَيْبِيَّ، فتَسَرَّبَ أَثَرٌ مِّنَ الأستاذِ كبيرٌ في التِّلميذِ، فكانَ هذا مِنْ ذاكَ، بَلْ إنَّنا لَنَجِدُ ما بَيْنَ الأستاذِ والتِّلميذِ مِنْ وُجُوهِ الشَّبَهِ ما يَجُوزُ التَّخَصُّصَ الْجامِعِيَّ، فما كُلُّ المُخْتَصِّينَ في العُلُومِ السِّياسيَّةِ كُتَّابًا ولا أُدَباءَ، إنَّما هُوَ ذلكَ الرُّوحُ الفَكِهُ السَّاخِرُ الَّذي يستخفي في شِعْرِ غازي ويَستعلِنُ في نَثْرِهِ، ولا تُخْطِئُهُ العَيْنُ فيما يُنْشِئُهُ عبدُ العزيزِ في كُتُبِهِ الَّتي أَذَاعَها، أوْ فُصُولِهِ الَّتي اخْتَصَّ بِها الصُّحُفَ، أَمَّا ما اتَّسَعَ لَهُ خارِجُ الصُّنْدُوقِ مِنْ صُنُوفِ المعرفةِ، فدليلٌ عَلَى أنَّ أستاذَ العُلُومِ السِّياسيَّةِ، وكيلَ الوِزارةِ، السَّفِيرَ، عُضْوَ مَجْلِسِ الشُّورَى = قارِئُ مُّمْتازٌ لِّلأدبِ، وصَيَّادٌ مَّاهِرٌ لِّلشَّوَاهِدِ والأمثلةِ، فُسِحَ لَهُ مِنْ ألوانِ المعرفةِ ما لا يَسْتَبْهِمُ عَلَى قارِئِ سِيرتِهِ، كُلَّما مَضَى فيها.
– 3 –
وكُنْتُ، كُلَّما مَضَيْتُ في المُذَكِّراتِ، أُقابِلُ ما بَيْنَ مَوْضِعَيْنِ؛ مَوْضِعِ القارِئِ الَّذي لا يَعْنِيهِ مِمَّا يَقْرَأُ إلَّا أن يَلْقَى فيهِ لَذَّةً ومَتَاعًا = ومَوْضِعِ ابْنِ الصَّنْعَةِ الَّذي اجتمعَ لَهُ، مِنْ طُولِ القِرَاءَةِ في كُتُبِ نَقْدِ الأدبِ، جُمْلَةٌ مِّنَ القواعِدِ والوصايا الَّتي استخرجَهَا نَقَدَةُ السِّيرةِ الذَّاتِيَّةِ مِن مَّجْمُوعِ ما استخْلَصُوهُ مِنْها، عَلَى أنَّني لا أنْكِرُ ما لِكُتُبِ النُّقَّادِ الَّتي يُوْشِكُ غَيْرُ قليلٍ مِّنْها أن يُشْبِهَ “مُتُونَ” العِلْمِ = مِنْ فوائِدَ هِيَ أَثَرٌ مِّنْ آثارِ التَّتَبُّعِ والتَّقَصِّي والتَّأَمُّلِ = لَكِنَّني لا أُحِبُّ أنْ أَعْنُوَ لَهَا؛ فالأديبُ الْحَقُّ يَخْرُجُ عَلَى القواعِدَ، وإنْ عَرَفَها، والنَّاقِدُ الْحَقُّ هُوَ مَن يستأنِسُ بِها، ولا يَستقِيدُ لَهَا، وإنَّ فِيَّ لَخَلَّةً تُشْبِهُ ما نَزَعَ إليهِ صاحِبُنا عبدُ العزيزِ؛ فأنا أُفَكِّرُ “خارِجَ القواعِدِ”، مِثْلَما يَكْتُبُ هُوَ “خارِجَ الصُّنْدُوقِ”، وإنَّهُ، لَوِ استقَى أفكارَهُ مِنَ الصُّنْدُوقِ، لَمْ يَكُن لِّيَخْتَلِفَ عَنْ أولئكَ “الكاتِبِينَ” المُتَحَفِّظِينَ المُتَزَمِّتِينَ مِمَّنْ عَرَفَ مِنْ ذَوِي الهَيْئَاتِ!
لماذا أقولُ ذلكَ؟
لأنَّ عبدَ العزيزِ الصُوَيِّغَ كأنَّما امتشقَ قَلَمَهُ وهَجَمَ عَلَى موضوعِهِ، دُونَ أن يَعْنِيَهُ ما تَوَاضَعَ عَلَيْهِ الكُتَّابُ والنُّقَّادُ في ما تَكُونُ عَلَيْهِ الكِتابةُ “سِيرةً ذاتيَّةً”، وإنَّ في ما تَكَلَّفَهُ ما يُخالِفُ تِلْكَ القواعِدَ الَّتي تُعُورِفَ عَلَيْها، حتَّى لَيَجُوزُ القَوْلُ: إنَّ هذهِ المُذَكِّراتِ الَّتي كانَ مِنْ أَثَرِها فِيَّ ما كانَ، تكادُ أنْ تَكُونَ بريئَةً مِّنْ شِيَاتِ الفَنِّ، وألوانِ التَّصَنُّعِ في الكتابةِ، وإنَّ ناقِدَ الأدبِ؛ ذلكَ الَّذي رَأْسُ مالِهِ القواعِدُ الَّتي أَقَرَّها كِبارُ النُّقَّادِ ووَصَايَاهُمْ، أَغْلَبُ الظَّنِّ أنْ تَتَسَلَّطَ الْحَيْرَةُ عَلَيْهِ؛ فما يَصْطَنِعُهُ الكاتِبُ مُبَايِنٌ لِّما تُقَرِّرُهُ القواعِدُ، وسيَشُقُّ عَلَيْهِ، إنْ تَعَبَّدَ للشَّكْلِ والبِنَاءِ، أن يستخرِجَ مِنْها ما يُرْضِي الكُتُبَ الَّتي تَلْمَذَ لها، والقواعِدَ الَّتي سَهِرَ اللَّيالِي في إحصائِها واستظهارِها، فإذا أَقْبَلَ عَلَى صاحِبِنا عبدِ العزيزِ ألْفَاهُ كأُستاذِهِ غازي القُصَيْبِيِّ، لا يَعْنُو لِوَصَايا النُّقَّادِ، بَلْ إنَّ هذا الأخِيرَ لَيُبَالِغُ في تَبْكِيتِهِمْ والسُّخْرِ بِهِمْ.
– 4 –
وفي خارِجِ الصُّنْدُوقِ جَمَالٌ يَجُوزُ قَوَاعِدَ النَّقْدِ، مَهْما بَرِئَتْ مِنَ الشِّيَاتِ؛ فلا تخييلَ، ولا احتفالٌ مُّبَالَغٌ فيهِ بالأُسلوبِ، ولا ما يَتَكَلَّفُهُ النُّقَّادُ الَّذينَ لا رَأْيَ لَهُمْ إلَّا ما تَقُولُهُ المُتُونُ! لَكِنَّ القارِئَ – وأنا ذلكَ القارِئُ – أَقْبَلَ عَلَيْها بِقَلْبِهِ وعَقْلِهِ، وأَلْفَى فيها لَذَّةً ومَتَاعًا، وإنَّهُ جَعَلَ يُفَكِّرُ، حِينَ أَتَمَّ قِراءَتَها، في مَبْعَثِ الْجَمَالِ الَّذي فيها، والرَّوعةَ الَّتي استجْمَعَتْها، ما يَكُونانِ؟ وهَدَاهُ التَّأَمُّلُ إلى شَيْءٍ قارٍّ فيها، يُوْشِكُ أن يُلَخِّصَهُ العُنْوَانُ خارِج الصُّنْدُوقِ، فهُوَ، كَمَا مَرَّ بِنا، مُطَابِقٌ لِّمُحْتَوَاها، ودَعْكَ مِنْ هذهِ العِبَارَةِ الَّتي شاعَتِ، اليَوْمَ، في كلامِ النَّاسِ، وحَقِّقْ مَعْناها، في طُولِ الكِتابِ وعَرْضِهِ، أَقْرَبُ الظَّنِّ أنْ سيَبْرُزُ لَكَ أنَّ الكاتِبَ لا يكادُ يَعْرِفُ التَّحَفُّظَ فيما كَتَبَ وأَنْشَأَ، وأنَّ آدابَ التَّحَفُّظِ، وتَصَنُّعَ الرَّزَانَةِ والوَقَارِ والإسرافَ فيهما، لمْ يحتفِلْ لَّها عبدُ العزيزِ الصُّوَيِّغُ، حِينَ وُسِّدَ مِنَ المسؤولِيَّةِ ما يُوْجِبُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظَ والتَّزَمُّتَ، ولا حِينَ أَنْشَأَ يَكْتُبُ ما استذكَرَهُ مِنْ سَنَوَاتِ العُمْرِ الَّتي تَقَلَّبَ فيها ما بَيْنَ الْجامِعةِ، والإعلامِ، والسِّياسةِ والدِّبلوماسِيَّةِ.
ولَعَلَّ نُقَّادَ الأدبِ الَّذينَ يَسْتَقِيدُونَ للقواعِدِ يتذكَّرُونَ أنَّهُ مَرَّ بِهِمْ في المُتُونِ الَّتي استظهرُوها، أنَّ السِّيرةَ الذَّاتِيَّةَ الَّتي تستهوي القُرَّاءَ هِيَ تِلْكَ الَّتي تَطَّرِحُ التَّحَفُّظَ، وتستخرِجُ مِنْ بِئْرِ الذَّاكِرَةِ ما هُوَ حَقِيقٌ بالسَّتْرِ والكِتْمانِ، فإذا عُدْنا إلى كاتِبِنا أَلْفَيْنا أنَّ مِنْ أسرارِ الْجَمَالِ في ما أَنْشَأَ، هذهِ الخَصْلَةَ الَّتي هِيَ لَوْنٌ طريفٌ مِّنْ ألوانِ المُكاشَفَةِ، الَّتي ما اعْتِيدَ مِثالُها في ذلكَ اللَّوْنِ الفاتِرِ البارِدِ الَّذي يُنْشِئُهُ نَفَرٌ مِّنْ ذوِي الهَيْئَاتِ في شُؤُونِ أَنْفُسِهِمْ، عَلَى أنَّ الْجُرْأَةَ الَّتي عايَنْتُها في خارِجِ الصُّنْدُوقِ عَسَاها أنْ تَكُونَ لَوْنًا جديدًا طريفًا أَدْعُوهُ “كَشْفَ الْمُخَبَّأِ” في ما دارَ في دوائِرِ صُنْعِ القَرَارِ، حَيْثُ عَمِلَ عبدُ العزيزِ الصُّوَيِّغُ، وعَلَيَّ أنْ أَحْتَرِزَ في ما ذَهَبْتُ إليهِ، وأَقُولَ: إنَّ هذهِ المُعَالَنَةَ الَّتي هِيَ خَصِيصةٌ في الفَنِّ والصَّنْعَةِ، لَيْسَتْ تُشْبِهُ ما يَدْعُوهُ سلامة موسَى “تَصْفِيَةَ حِسابِهِ مَعَ التَّاريخِ”، وإن لَّمْ أستبعِدْهُ، فهُوَ مِنْ دَوَافِعِ الكِتابةِ في شأْنِ أَنْفُسِنا ومِن مُّسَوِّغاتِها = هِيَ لَيْسَتْ بِتِلْكَ، وحَسْبُ، وإنَّما هِيَ أَصْلٌ أَصِيلٌ في تَكْوِينِ عبدِ العزيزِ الصُّوَيِّغِ؛ فحياتُهُ الَّتي عاشَها في الوظيفةِ، وتَرَقِّيهِ في سُلَّمِ المسؤولِيَّةِ، وضَرْبُهُ في الأرضِ، دلائِلُ عَلَى ما ذَهَبْتُ إليهِ.
والْجُرْأَةُ في المُعَالَنَةِ هِيَ، عِنْدَ نَفَرِّ مِّنَّا، مَزِيَّةٌ نَّادِرَةٌ امتازَ بِها المسؤولُ والكاتِبُ، وهِيَ مَثْلَبَةٌ عِنْدَ آخَرِينَ، مِنْ أولئكَ الَّذينَ يُحِبُّونَ أن يَنْزِلُوا عَلَى شَرْطِ الوظيفةِ، وأن يَتَحَوَّلَ المُوَظَّفُ إلى تابِعٍ، ولَوْ كانَ مسؤولًا، وإنَّهُ لَيَصْعُبُ عَلَيَّ أنْ أَضَعَ بَيْنَ يَدَيْكَ ما يُقَوِّي ذلكَ مِنَ الشَّاهِدِ والمَثَلِ، فهُوَ وافِرٌ، وحَسْبِي أنْ أَقُولَ: إنَّ هذهِ السِّمَةَ العزيزةَ في شخصيَّةِ عبدِ العزيزِ نلقاها في كُلِّ أطوارِ حياتِهِ؛ نَلْقاها في الْجامِعةِ لَمَّا عادَ إليها بشهادتِهِ العالِيَةِ لِيَكُونَ أُستاذًا فيها، وفي وزارةِ الإعلامِ، وفي ديوانِ وزارةِ الخارجيَّةِ، وحيثُ عَمِلَ قُنْصُلًا، وسفيرًا، ومديرًا عامًّا، وعُضْوَ مَجْلِسِ شُورَى، ونَلْقاها، كذلكَ، في فُصُولِهِ الَّتي أَذَاعَها في الصِّحافةِ، وفي هذهِ وفي أُخَرَ يُفْصِحُ عَنْها الكِتابُ، ومِنْها ما يَرْقَى إلى أن يَكُونَ نَقْدًا قَوِيًّا وجديدًا لِّوُزراءَ ومسؤولِينَ ما اعتادَ النَّاسُ في بِلادِنا أن يَلْحَقَهُمْ نَقْدٌ أوْ مُكاشَفَةٌ، ودُونَكَ صَفَحاتٍ في مُذَكِّراتِهِ انْطَوَتْ عَلَى نَقْدٍ جَرِيءٍ لِّلوزيرِ عَلَيِّ الشَّاعِرِ، وهُوَ هُوَ، وفِقْرَةً قَوِيَّةً عنيفةً لَّمْ تُوَفِّرِ الوزيرَ عَلِيَّ بْنَ طلال الْجُهُنِيَّ، لَمْ يَسْتَطِعْ عبدُ العزيزِ الصُّوَيِّغِ أن يُخْلِيَها مِن رُّوحِهِ الفَكِهِ، ولا مِنْ أُسْلُوبِهِ السَّاخِرِ النَّاقِدِ النَّاقِمِ! وكانَ صاحِبُنا عَلَى مَبْدَأٍ في الحياةِ، وفي الوظيفةِ، لَمْ يَتَزَحْزَحْ عَنْهُ، هُوَ مَزِيَّةٌ، عِنْدِي، وحَسَنَةٌ مِّنْ حَسَنَاتِ الكاتِبِ الَّذي كانَ مسؤولًا، ولَعَلَّهُ، عِنْدَ آخَرِينَ، مَثْلَبَةٌ تَرْقَى إلى أنْ تَكُونَ “تَهَوُّرًا”، كَمَا كانَ نَفَرٌ مِّن رُّؤَسائِهِ وأقرانِهِ يَصِفُونَهُ.
وأُحِبُّ أنْ أُظْهِرَكَ عَلَى كَلِمةٍ تُصَوِّرُ ما طُبِعَتْ عَلَيْهِ شخصِيَّتُهُ، وإنْ ساقَهَا في صُورةٍ ساخِرَةٍ مَّرِحَةٍ
وَجَدْتُّ نَفْسي، مُنْذُ بدايةِ طريقي الوظيفيِّ، عِنْدَ مُفْتَرَقِ طُرُقٍ، فإمَّا أَكُونُ “عِقالًا” يُوْضَعُ عَلَى الرَّأْسِ، أوْ مُجَرَّدَ “مَدَاسٍ” عِنْدَ بابِ الخُرُوجِ يستعمِلُهُ مَنْ هَبَّ ودَبَّ. كُنْتُ أمامَ خِيَارَيْنِ: إمَّا أنْ أَكُونَ “صَوْتَ سَيِّدِهِ”، كَمَا يَقُولُونَ باللُّغةِ الإنكليزيَّةِ His Master’s Voice (HMV)، أوْ أنْ أَستقِلَّ بعقلي وشخصيَّتي وأَفْعَلَ ما أؤمنُ بِهِ، طالَما (كذا) كُنْتُ أعتقِدُ أنَّني عَلَى دَرْبِ الْحَقِّ، مِنْ دُونِ أنْ أَضَعَ قِنَاعًا زائِفًا، أوْ أستبدِلَ لِكُلِّ مَوْقِفٍ قِنَاع (كذا)، فكانَ أنِ اخْتَرْتُ ما يَتَمَاهَى مَعَ شَخْصِيَّتِي وطبيعتي ونشأتِي (ص 366)
– 5 –
ورُبَّما أَدَّاكَ ما في هذهِ السِّيرةِ مِنْ جَرَاءَةٍ هِيَ مِصْدَاقٌ لِّحَيَاةِ عبدِ العزيزِ الصُّوَيِّغِ في الإدارةِ = إلى شيْءٍ مِّنَ الحَيْرَةِ؛ فتَصِفُ أُستاذَ العُلُومِ السِّياسيَّةِ، رَجُلَ الإعلامِ والإدارةِ والسِّفَارةِ والدِّبْلُوماسِيَّةِ بِـ “التَّهَوُّرِ”، والافتقارِ إلى “مُرَاعاةِ المَقَامِ”، فإذا اصْطَنَعْتَ لُغَةَ الرَّئيسِ والمرؤوسِ عَدَدْتَّهُ مِنَ “المُوَظَّفِينَ” الَّذينَ يَعْصُونَ الرُّؤَساءَ، ويَرْكَبُونَ رُؤُوسَهُمْ! لا! إنَّ صاحِبَنا لَيْسَ بالمُفْتَقِرِ إلى ما تُمْلِيهِ الوظيفةُ الكبيرةُ عَلَيْهِ مِنْ تَوْقِيرِ الرَّئيسِ، ومُرَاعاةِ مُقْتَضَى الْحَالِ، وإنَّهُ لَيَلْبَسُ لِكُلِّ حالَةٍ لَّبُوسَها، وبَيْنَما يُصْبِحُ صَعْبًا، يَتَعَشَّقُ مُنَازَلَةَ الْخُصُومِ، ويَصُكُّهُمْ في وُجُوهِهِمْ بِكلامٍ قاسٍ، غَيْرَ وَجِلٍ ولا هَيَّابٍ = إذا بِنَا نَلْقَاهُ يَلُوذُ بِطَبْعِهِ الشَّعْبِيِّ السَّاخِرِ، وثقافتِهِ الَّتي تَبْدَأُ مِنْ أمثالِ العَوَامِّ في الْحِجَازِ أولئكَ الَّذينَ يُصَوِّرُونَ ما لا يُرْضِيهِمْ بالنُّكْتَةِ السَّاخِرَةِ، والقِصَّةِ المُعَبِّرَةِ، والعِبَارَاتِ المَسْكُوكَةِ، ويَرْقَى بها فإذا نَحْنُ إزاءَ عَقْلٍ لَّا يستنكِفُ أن يَصِلَ “حِكْمَةَ العَوَامِّ” بثقافةٍ واسِعَةٍ مُّحِيطَةٍ في الأدبِ، والفلسفةِ، والاجتماعِ، لَكِنَّ تِلْمِيذَ كُلِّيَّةِ فيكتوريا الَّذي نُشِّئَ عَلَى ضَرْبٍ مُّرْهَفٍ مِّنْ لُغَةِ الآدابِ والسُّلُوكِ = يأْبَى إلَّا أن يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ الحَارَةِ، يَسُوقُهُ، حِينًا، صريحًا مَّكْشُوفًا، ويَسُوقُهُ، حِينًا آخَرَ، وفيهِ مِنَ الْحَارَةِ رُوحُهُ السَّاخِرُ، ومِنْ ذَوِي الهَيْئَاتِ ما لا يُخالِفُ شارَاتِهِمْ وكَرَاسِيَّهُمْ، وتُسْعِفُهُ قِرَاءَتُهُ الواسِعَةُ الفسيحةُ، فإذا نَقْدُهُ السَّاخِرُ الْقاسِي يُؤَدِّيهِ إلى قارِئِهِ مُنْتَزَعًا مِّنْ “حِكَايَةٍ خُرَافِيَّةٍ”، أوْ بَيْتِ شِعْرٍ، أوْ رِوَايَةٍ، يَتَوَسَّلُ بِهِنَّ إلى رَأْيٍ يَصْدَعُ بِهِ، يَسْتَوِي، في ذلكَ، أكانَ المَنْقُودُ مَجْلِسَ الشُّورَى، لَمَّا كانَ عُضْوًا فيهِ، أوْ وِزارةَ الإعلامِ ووِزارةَ الْخارِجِيَّةِ، وكانَ في كِلْتَيْهِما مُوَظَّفًا كبيرًا ومسؤُولًا خطيرًا، عَلَى أنَّ رُوحَهُ السَّاخِرَ – الَّذي يُذْكِرُنا بأسلافِهِ مِنْ ظُرَفَاءِ الْحِجَازِ! – يَرُدُّهُ إلى مُعْجَمِ الْحَارَةِ، أَوَلَا يَكْفِي أن يَقْتَفِيَ خُطَا أَهْلِ مَكَّةَ المُكَرَّمةِ، ولَهُمْ عَلَيْهِ حَقُّ المُصَاهَرَةِ والْجِوَارِ، لِيَكُونَ مِثْلَهُمْ، كَمَا يَقُولُ، “مَكَّاوِي يِجْرَح ويداوِي”! عَلَى أن لَّا نَجُورَ عَلَى لُغَةِ العامَّةِ فنُجْرِيَ عَلَى المَثَلِ أحكامَ الإعرابِ!
– 6 –
وأُرِيدُ أنْ أَقُولَ، قَبْلَ أنْ أُتِمُّ هذا الفَصْلَ: لَكِنَّ عبدَ العزيزِ الصُّوَيِّغَ الَّذي ما هادَنَ ولا استنامَ إلى ما بَلَغَهُ = كانَ، حَيْثُ تَقَلَّبَ في الوظيفةِ، رابِحًا، إنْ قِسْنا تاريخَهُ بِمِيزانِ الرِّبْحِ والْخَسَارَةِ، تُسْلِمُهُ الوظيفةُ الكبيرةُ إلى أُخْتِها، مَهْما نَقَدَ ومَهْما جَبَهَ رُؤَساءَهُ بِمَا لا يُحِبُّونَ، وما اطُّرِحَ ولَمْ يُصْرَفْ عَنْها، حتَّى أَتَمَّ حَيَاتَهُ في الإدارةِ، أوْ ما يَدْعُوهُ مَسِيرتَهُ في الحياةِ، ولَنَا أن نَّرُدَّ ذلكَ – ما دُمْنا نَتَحَدَّثُ عَن مُّوَظَّفٍ مَّسؤُولٍ – إلى “مُعْجَمِ المُوَظَّفِينَ” الَّذي مِن مُّفْرَدَاتِهِ “تَكْوِينُ أُسْرَتِهِ”، وما لها مِن مَّقَامٍ، لَّكِنَّكَ تَعُودُ فتَتَذَكَّرُ أنَّ شَهَادَتَهُ في “الدُّكْتُورِيَّةِ”، وعَهْدُهُ باحْتِيَازِها قَدِيمٌ، لَّمْ تَشْفَعْ لَهُ بأن يَبْلُغَ كُرْسِيَّ الوِزَارةِ، كما هُوَ شأْنُ أُستاذِهِ غازي القُصَيْبِيِّ، ولَبِثَ في “مِنْطَقَةٍ وُسْطَى” لمْ تَرْفَعْهُ إلى أَعْلَى، ولَمْ تُطِحْ بِهِ إلى الحَضِيضِ. وقَدْ تَرُدُّهُ إلى هذهِ العِلَّةِ أوْ تِلْكَ، عَلَى أنَّني أَرُدُّ ذلكَ كُلَّهُ إلى مَبْدَأٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ عبدُ العزيزِ، مُنْذُ اتَّصَلَ بالوظيفةِ، يُصَوِّرُهُ حديثُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وأَكْرِمْ بِهِ مِنْ مَّبْدَأٍ:
عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُما – قالَ: كُنْتُ خَلْفَ رسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَوْمًا فقالَ:
يا غُلامُ إنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ: اِحْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ. اِحْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ. إذا سَأَلْتَ فاسْأَلِ اللهَ، وإذا استعَنْتَ فاستعِنْ باللهِ، واعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أن يَنْفَعُوكَ بشيءٍ لَّمْ يَنْفَعُوكَ إلَّا بشيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، ولَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أن يَضُرُّوكَ بشيْءٍ لَّمْ يَضُرُّوكَ إلَّا بشيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ (ص 375)
وفي المُذَكِّراتِ ما يَدُلُّ عَلَى أنَّ اللهَ – تَبَارَكَ وتَعَالَى – قَدْ نَفَعَ عبدَ العزيزِ بهذا المَبْدَأِ الَّذي آمَنَ بِهِ، ورَاقَنِي أنَّ الصُّوَيِّغَ في الفَجْرِ مِنْ شَبَابِهِ صَدَرَ عَنْهُ وأَدْرَكَهُ الفَلَاحُ، وهاكَ كلامَهُ الفَذَّ الشُّجَاعَ:
أَعْتَقِدُ أنَّني وَضَعْتُ هذا الخِيَارَ أمامي، مُنْذُ الخُطْوَةِ الأُولَى الَّتي خَطَوْتُها في العَمَلِ الحُكُومِيِّ حَتَّى آخِرِ خُطْوَةٍ فيهِ. فقدْ تَّقَدَّمْتُ، بَعْدَ تَخَرُّجي مِنْ جامِعةِ المَلِكِ سُعُودٍ، عامَ 1389هـ / 1969م، إلى وِزارةِ الخارِجِيَّةِ لِشَغْلِ وظيفةِ مُلْحَقٍ سِياسِيٍّ. وكانَتْ آنَذَاكَ في مكانِها القديمِ في جُدَّةَ. وكانَ التَّعيينُ يعتمِدُ عَلَى اجتيازِ امتحانٍ تحريريٍّ ومُقَابَلاتٍ شخصيَّةٍ. وبَعْدَ انتهاءِ الْجانِبِ التَّحريريِّ أَذْكُرُ أنَّني سُئِلْتُ في المُقَابَلَةِ الشَّخصِيَّةِ في اللَّجْنَةِ الَّتي كانَتْ تقومُ بالاختبارِ الشَّفَهِيِّ للمُتَقَدِّمِينَ = سُؤَالًا كانَتْ إجابتُهُ سببًا في تَرَدُّدِ أعضاءِ اللَّجْنةِ في اتِّخاذِ قَرَارِ قَبُولِي في الوِزارةِ لبعضِ الوَقْتِ، كَمَا أَبْلَغَنِي لاحِقًا أَحَدُ أعضاءِ اللَّجْنَةِ.
كانَ السُّؤالُ بسيطًا لَّا ألغازَ فيهِ ولا صُعُوبةٌ، وهُوَ: ماذا يَعْنِي لكَ المَثَلُ الَّذي يَقُولُ: “يَدٌ واحِدةٌ لَّا تُصَفِّقُ؟!”، لَكِنْ أعترِفُ أنَّ إجابتي كانَتْ غريبةً، وغَيْرَ مطلوبةٍ في تِلْكَ المرحلةِ الزَّمنيَّةِ!!
قُلْتُ: المِثَالُ البارِزُ الَّذي يُمْكِنُ أن يَشْرَحَ مَعْنَى المَثَلِ هُوَ حَرْبُ حزيران / يونيو 1967؛ فقدْ حارَبَ الرَّئيسُ جَمَال عبد النَّاصِر بِلا عَوْنٍ مِّنْ أيٍّ مِّنَ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ، ولَوْ كانَ بَقِيَّةُ العَرَبِ مَدُّوا أيديَهُمْ إليهِ لَصَفَّقَ الْجَمِيعُ، وتَغَيَّرَتْ نتيجةُ الْحَرْبِ.
لَمْ تَكُنْ، وَقْتَها، العَلَاقاتُ بَيْنَ المَلِكِ فيصلٍ والرَّئيسِ عبدِ النَّاصِرِ عَلَى ما يُرَامُ، وكانَتِ الإجابةُ، رُغْمَ أنَّها أَعْطَتِ المَعْنَى المطلوبَ، قدْ حَمَلَتْ مِنَ الحَسَاسِيَّةِ، آنَذَاكَ، ما جَعَلَ أعضاءَ اللَّجْنَةِ يتحسَّسُونَ مِنْ إعلانِ اجتيازي الاختبارَ الشَّفَوِيَّ، أوِ المُقَابَلَةَ الشَّخصيَّةَ للمُتَقَدِّمِينَ لوِزارةِ الخارجيَّةِ، ثُمَّ اتَّفقُوا، فيما بَيْنَهُمْ، عَلَى أنَّ الأمرَ لا يَخْرُجُ عنْ كَوْنِهِ حَمَاسَ شَبَابٍ، ومَرَّ الأمرُ بسلامٍ، ونَجَحَتِ المُقَابَلَةُ الشَّخصيَّةُ وعُيِّنْتُ مُلْحَقًا سِياسِيًا بِوِزارةِ الخارجيَّةِ (ص ص 375-376)
– 7 –
وأُحِبُّ أنْ أَخْتِمَ حديثي بالقَوْلِ: إنَّ خارِجَ الصُّنْدُوقِ عَسِيَّةٌ أن نَّسْتَخْرِجَ مِنْها ضُرُوبًا مِّنَ الحَوَادِثِ، وأن يَحْمِلَنا ما فيها مِنْ سُخْرٍ علَى أن نَّسْتَغْرِبَ في الضَّحِكِ، ساعةَ يَجِبُ الضَّحِكُ، لَكِنَّكَ ستَقُولُ: إنَّ عبدَ العزيزِ ما كانَ عابِثًا، وإنْ كانَ ساخِرًا، وإنَّكَ لَنْ تَسْلُبَهُ خِلَالًا كريمةً أَعَزُّهُنَّ الثَّبَاتُ عَلَى المَبْدَأِ، والمُجَاهَرَةُ بِمَا يَعْتَقِدُهُ هُوَ الحَقَّ، أمَّا نَفْسُهُ فجُبِلَتْ عَلَى اتِّقَاءِ الضَّيْمِ، وأَحْبِبْ بِهَا مِنْ خَلَّةٍ وأَكْرِمْ بِها مِنْ صِفَةٍ! وقَدْ طالَما أَذْكَرَتْنِي هذهِ السِّيرةُ البديعةُ، كُلَّما مَضَيْتُ فيها، شِعْرًا استظْهَرْتُهُ، في أيَّامِ الطَّلَبِ، أَرَاهُ خَيْرَ ما أَخْتِمُ بِهِ كلامي.
يَقُولُ المُتَلَمِّسِ [مِنَ البسيطِ]:
وَلَا يُقِيمُ عَلَى خَسْفٍ يُرَادُ بِهِ إِلَّا الأَذَلَّانِ عَيْرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ
هّذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطُ بِرُمَّتِهِ وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثِي لَهُ أَحَدُ.