قرأت مقال الناقد الكبير الأستاذ حسين بافقيه في صحيفة مكة الأليكترونية، يوم الأربعاء 26 يونيو 2024، بعنوان: (عبدُ العزيزِ الصُّوَيِّغُ.. المُخْتَلِفُ جِدًّا؟) بكثير من التوجس والخشية أدركت فيه معنى استخدام العرب الكناية التي جاءت على صورة تشبيه “كـأن على رؤوسهم الطير” لوصف حالة السكون والترّقب والخَشية التي تنتاب البعض عندما ينصتون لمتحدث ذو مقام، ومكانة.
ودعني أعترف بداية أنه بقدر استيعابي لمجمل المقال وكلماته، إلا أنني أستعنت بمعاجم اللغة العربية لسبر كثير من الجمل والكلمات، وأبيات الشعر التي وردت فيه. فقد استعصى علىّ بعضها، وخشيت أن أفهمهما بغير ما قصد كاتبها. خاصة وأنه من متابعة ما يكتبه بين حين وآخر، كنت أشعر في بعض تناولاته لبعض الموضوعات وكأنه يكتب بحد السكين. لكنه يكتب ما يؤمن به دون تجن أو مجاملة. وهو جذبني في أسلوبه وكتاباته.
❖ يقول الكاتب بداية في وصف إستقباله لكتاب خارج الصندوق بأنه “فَرَحٌ مَّشُوبٌ بالْحُزْنِ، وإعجابٌ لَّا ينتهي بِكاتِبٍ أَفْلَحَ إذْ أرادَ لِمَا يُنْشِئُهُ أن يَكُونَ “خارِجَ الصُّنْدُوقِ”، مُلائِمًا لِّعُنْوَانِهِ الَّذي اصطَنَعَهُ”.
❖ ويستعرض حسين مجالات التميز بين مذكراتي ومذكرات “جَمْهَرَةٍ مِّنْ ذوِي الهَيْئَاتِ، مِمَّنْ أَذاعُوا في النَّاسِ مُذَكِّراتِهِمْ وما كَتَبُوهُ في شُؤُونِ أَنْفُسِهِمْ” ويقول أن أغلب أصحاب السير الذاتية، أو المُذَكِّراتِ “لَمْ يَطَّرِحُوا عَبَاءَةَ المسؤولِ، مَهْما أُوْهِمْنا أنَّ ما يُنْشِئُونَهُ إنَّما هُوَ في شأْنٍ مِّنْ شُؤونِ أَنْفُسِهِمْ، فلا يزالُونَ مُتَحَفِّظِينَ مُتَزَمِّتِينَ، يَتَلَفَّتُونَ، يَمْنَةً ويَسْرَةً، وما هكذا عبدُ العزيزِ، وما هكذا كِتابُهُ الفاتِنُ الْجَمِيلُ!” ..
▪ وهو إطناب أنحنى له شكراً.
❖ أما أكبر فضل أسبغه على فتشبيهي بأستاذي ومُعلمي و”قدوتي” د.غازي القصيبي – رحمه الله – إذ يقول: “وكأنَّما أَشْبَهَ الصُّوَيِّغُ فيهِ أستاذَهُ في الْجامِعةِ الشَّاعِرَ والكاتِبَ والرِّوائيَّ ورَجُلَ الدَّولةِ غازي القُصَيْبِيَّ، فتَسَرَّبَ أَثَرٌ مِّنَ الأستاذِ كبيرٌ في التِّلميذِ، فكانَ هذا مِنْ ذاكَ، بَلْ إنَّنا لَنَجِدُ ما بَيْنَ الأستاذِ والتِّلميذِ مِنْ وُجُوهِ الشَّبَهِ ما يَجُوزُ التَّخَصُّصَ الْجامِعِيَّ، فما كُلُّ المُخْتَصِّينَ في العُلُومِ السِّياسيَّةِ كُتَّابًا ولا أُدَباءَ، إنَّما هُوَ ذلكَ الرُّوحُ الفَكِهُ السَّاخِرُ الَّذي يستخفي في شِعْرِ غازي ويَستعلِنُ في نَثْرِهِ، ولا تُخْطِئُهُ العَيْنُ فيما يُنْشِئُهُ عبدُ العزيزِ في كُتُبِهِ الَّتي أَذَاعَها، أوْ فُصُولِهِ الَّتي اخْتَصَّ بِها الصُّحُفَ”؟
❖ وأحمد المولي الكريم أن الأستاذ حسين في قرأته لكتابي خرج علي قواعد “ابْنِ الصَّنْعَةِ” وفكر “خارِجَ القواعِدِ”، مثلما كتبت أنا “خارِجَ الصُّنْدُوقِ”، وأقبل حسين – القارِئُ – على الكتاب “بِقَلْبِهِ وعَقْلِهِ، وأَلْفَى فيها لَذَّةً ومَتَاعًا، وإنَّهُ جَعَلَ يُفَكِّرُ، حِينَ أَتَمَّ قِراءَتَها، في مَبْعَثِ الْجَمَالِ الَّذي فيها، والرَّوعةَ الَّتي استجْمَعَتْها، ما يَكُونانِ؟ وهَدَاهُ التَّأَمُّلُ إلى شَيْءٍ قارٍّ فيها، يُوْشِكُ أن يُلَخِّصَهُ العُنْوَانُ خارِج الصُّنْدُوقِ، فهُوَ، كَمَا مَرَّ بِنا، مُطَابِقٌ لِّمُحْتَوَاها” … لأنه لو إلتزم بالقواعِدُ الَّتي أَقَرَّها كِبارُ النُّقَّادِ ووَصَايَاهُمْ، لوجد في الكتاب من الهنات والعنات اللغوية التي يحملها كتابي ما قد يثنيه عن المتابعة.
❖ ويكفي تأكيده “علَى أنَّ الْجُرْأَةَ الَّتي عايَنْتُها في خارِجِ الصُّنْدُوقِ عَسَاها أنْ تَكُونَ لَوْنًا جديدًا طريفًا أَدْعُوهُ “كَشْفَ الْمُخَبَّأِ” في ما دارَ في دوائِرِ صُنْعِ القَرَارِ، حَيْثُ عَمِلَ عبدُ العزيزِ الصُّوَيِّغُ”. وهي سِّمَةَ عزيزةَ في شخصيَّةِ عبدِ العزيزِ، كما يقول، ” نلقاها في كُلِّ أطوارِ حياتِهِ؛ نَلْقاها في الْجامِعةِ لَمَّا عادَ إليها بشهادتِهِ العالِيَةِ لِيَكُونَ أُستاذًا فيها، وفي وزارةِ الإعلامِ، وفي ديوانِ وزارةِ الخارجيَّةِ، وحيثُ عَمِلَ قُنْصُلًا، وسفيرًا، ومديرًا عامًّا، وعُضْوَ مَجْلِسِ شُورَى، ونَلْقاها، كذلكَ، في فُصُولِهِ الَّتي أَذَاعَها في الصِّحافةِ”.
❖ وأسعدني وصف الأساذ حسين بافقيه لشخصي بأني “عَلَى مَبْدَأٍ في الحياةِ، وفي الوظيفةِ، لَمْ يَتَزَحْزَحْ عَنْهُ”، وهُوَ ما رأي فيه “مَزِيَّةٌ، وحَسَنَةٌ مِّنْ حَسَنَاتِ الكاتِبِ الَّذي كانَ مسؤولًا”.. وإن اعتبرها آخرين “تَهَوُّرًا”، كَمَا كانَ نَفَرٌ مِّن رُّؤَسائِهِ وأقرانِهِ يَصِفُونَهُ.
❖ ويمضي الأستاذ حسين بافقيه فيؤكد أنه مهما كان وصف حَيَاةِ عبدِ العزيزِ الصُّوَيِّغِ في الإدارةِ .. فـ “إنَّ صاحِبَنا لَيْسَ بالمُفْتَقِرِ إلى ما تُمْلِيهِ الوظيفةُ الكبيرةُ عَلَيْهِ مِنْ تَوْقِيرِ الرَّئيسِ، ومُرَاعاةِ مُقْتَضَى الْحَالِ، وإنَّهُ لَيَلْبَسُ لِكُلِّ حالَةٍ لَّبُوسَها”، و”يَقْتَفِيَ خُطَا أَهْلِ مَكَّةَ المُكَرَّمةِ”(أصهاره)، ، لِيَكُونَ مِثْلَهُمْ، كَمَا يَقُولُ، “مَكَّاوِي يِجْرَح ويداوِي”!
❖ واُنهي بتقويم الأستاذ حسين بافقيه وحكمه على مسيرتي في الحياة، حين يقول: ” لَكِنَّ عبدَالعزيزِ الصُّوَيِّغَ الَّذي ما هادَنَ ولا استنامَ إلى ما بَلَغَهُ = كانَ، حَيْثُ تَقَلَّبَ في الوظيفةِ، رابِحًا، إنْ قِسْنا تاريخَهُ بِمِيزانِ الرِّبْحِ والْخَسَارَةِ، تُسْلِمُهُ الوظيفةُ الكبيرةُ إلى أُخْتِها، مَهْما نَقَدَ ومَهْما جَبَهَ رُؤَساءَهُ بِمَا لا يُحِبُّونَ، وما اطُّرِحَ ولَمْ يُصْرَفْ عَنْها، حتَّى أَتَمَّ حَيَاتَهُ في الإدارةِ، أوْ ما يَدْعُوهُ مَسِيرتَهُ في الحياةِ،”.. “لَّكِنَّكَ تَعُودُ فتَتَذَكَّرُ أنَّ شَهَادَتَهُ في “الدُّكْتُورِيَّةِ”، وعَهْدُهُ باحْتِيَازِها قَدِيمٌ، لَّمْ تَشْفَعْ لَهُ بأن يَبْلُغَ كُرْسِيَّ الوِزَارةِ، كما هُوَ شأْنُ أُستاذِهِ غازي القُصَيْبِيِّ، ولَبِثَ في “مِنْطَقَةٍ وُسْطَى” لمْ تَرْفَعْهُ إلى أَعْلَى، ولَمْ تُطِحْ بِهِ إلى الحَضِيضِ”.
أعرف أنني ربما قد أعدت في مراجعتي مقال حسين بافقيه كثيرا من طروحاته حول كتابي (خارج الصندوق)، لكنها إعادة كاتب مُنتشي بما كُتب، حتى لو أدرك بعض ما بين السطور هنا وهناك في ثنايا المقال. ويكفي كلمات حسين الختامية التي رأي فيها :
“إنَّ عبدَ العزيزِ ما كانَ عابِثًا، وإنْ كانَ ساخِرًا، وإنَّكَ لَنْ تَسْلُبَهُ خِلَالًا كريمةً أَعَزُّهُنَّ الثَّبَاتُ عَلَى المَبْدَأِ، والمُجَاهَرَةُ بِمَا يَعْتَقِدُهُ هُوَ الحَقَّ، أمَّا نَفْسُهُ فجُبِلَتْ عَلَى اتِّقَاءِ الضَّيْمِ، وأَحْبِبْ بِهَا مِنْ خَلَّةٍ وأَكْرِمْ بِها مِنْ صِفَةٍ!
وقَدْ طالَما أَذْكَرَتْنِي هذهِ السِّيرةُ البديعةُ، بَقُولِ المُتَلَمِّسِ [مِنَ البسيطِ]:
وَلَا يُقِيمُ عَلَى خَسْفٍ يُرَادُ بِهِ إِلَّا الأَذَلَّانِ عَيْرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ
هّذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطُ بِرُمَّتِهِ وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثِي لَهُ أَحَدُ.
وأنهي بما قلته في تغريدة نشرتها في #منصة_إكس، والفيسبووك:
“شكرا ناقدنا الرائع الأستاذ حسين بافقيه.. فقد بدأت أقرأ بخشية وتوجس كمن على رأسه الطير.. لكنك يا سيدي أكرمتني بهذا المقال المُنصف ..