المقالات

قصيدةٌ في كِتابٍ مَّدْرَسِيٍّ

يُعَاوِدُني الحنينُ إلى زمنٍ ساذجٍ حُلْوٍ كُلَّما عُدْتُّ إلى ديوانِ وَحْيِ الحِرْمانِ للأميرِ الشَّاعِرِ عبد الله الفيصل.
كان الأميرُ الشَّاعِرُ مِنْ أوائِلِ الشُّعراءِ الَّذِينَ عَرَّفَني بِهِمُ الكِتابُ المَدْرَسِيُّ، وكُنْتُ قدِ اجتزْتُ المرحلةَ الابتدائيَّةَ وكِتابَ الأناشيدِ، وها أَنَذَا في المَرْحَلَةِ المُتَوَسَّطَةِ أَقْرَأُ وأَسْتَظْهِرُ شِعْرًا مُّخْتَلِفًا لَّا يُشْبِهُ الأناشيدَ الصَّغيرةَ الَّتي كُنَّا نَتَفَنَّنُ في إنشادِها، وغارَ في ذاكرتي، فَلَسْتُ أنساهُ، قصيدتانِ؛ أَمَّا الأُولَى فبائِيَّةُ عبدِ اللهِ الفيصل في الشَّبابِ:
مَرْحَى! فَقَدْ وَضَحَ الصَّوَابْ وَهَفَا إِلَى المَجْدِ الشَّبَابْ
وأَمَّا الأُخْرَى ففائِيَّةُ حَسَن عبد الله القُرَشِيِّ في الطَّائِفِ المَأْنُوسِ:
طِبُّ الْعَلِيلِ وَبَهْجَةُ الْمُصْطَافِ وَرُؤَى الرَّبِيعِ وَنَهْجِهِ الْوَصَّافِ
ويُداخِلُني إحساسٌ حُلْوٌ عَذْبٌ كُلَّما تَذَكَّرْتُ هاتَيْنِ القصيدَتَيْنِ – ويا طُولَ ما تَذَكَّرْتُهُما – يَرجِعُ بِي بعيدًا إلى الوراءِ، فأستعِيدُ عُمْرًا حُلْوًا، وكِتابًا مَّدْرَسِيًّا، وشاعِرَيْنِ كانا، ولا يزالانِ، يَسْكُنانِ القَلْبَ والرُّوحَ.
وأنا أُعِيدُ شيئًا مِّنْ شَغَفِي بهاتينِ القصيدتينِ إلى بُدَاءَةِ اتِّصالِي، آنَئِذٍ، بالأدبِ والشِّعْرِ، وحَسْبي أنْ جَعَلْتُ أُكَوِّن مكتبتي الأُولَى، وفيها ديوانُ النَّابِغةِ الذُّبيانِيِّ، وكِتابُ الأدبِ الصَّغيرِ والأدبِ الكبيرِ لِابْنِ المُقَفَّعِ، وجواهرِ الأدبِ في أدبيَّاتِ وإنشاءِ لُغَةِ العَرَبِ للسَّيِّد أحمد الهاشميِّ = لِأَعُدَّ نَفْسِي تِلميذًا يستهويهِ الأدبُ والشِّعْرُ، وأن يَلَذَّ لِي الكِتابُ المَدْرَسِيُّ وما انْطَوَى عَلَيْهِ مِنْ شِعْرٍ ونَثْرٍ.. ولَعَلِّي، في ذلكَ العَهْدِ، أَسْمَعُ لِلْمَرَّةِ الأُولَى بِاسْمِ الشَّاعِرِ حَسَن عبدِ الله القُرَشِيِّ، عَلَى أنَّني لَمْ أَنْسَهُ بَعْدَها، وكانَ مِمَّا زادَ في تَعَلُّقي بقصيدتِه أنَّها عنِ “الطَّائِفِ” وأنا مشغوفٌ بذلكَ المَصِيفِ البديعِ، أمَّا عبدُ الله الفيصل فلا أَحْسَبُ أَحَدًا مِّنْ جِيلِي لِيَجْهلَهُ! كُنَّا نَعْرِفُهُ كأَتَمِّ ما تَكُونُ المعرفةُ؛ عَرَفْناهُ أميرًا جليلًا أَبُوهُ مَلِكٌ عظيمٌ، وعَرَفْناهُ رائدًا مِّن رُّوَّادِ الرِّياضةِ في المملكةِ، ومَعَ أنَّني اتِّحادِيُّ الهَوَى فما كُنْتُ لِأَشْعُرَ أنَّني بعيدٌ عنْ ذلكَ الأميرِ الْجليلِ الَّذي اخْتَصَّ النَّادي الأهليّ برعايتِهِ = وعَرَفْناهُ بقصائدِهِ المُبْكِيَةِ المُشْجِيَةِ الَّتي تَغَنَّى بِها أُمُّ كُلْثُوم وعبدُ الحليم حافظ، فمَسَّنا لَسْعُ الحُبِّ يَوْمَ أَصْغَيْنا إلى بُكائِهِ وشَجَنِهِ = ولأنَّ الأميرَ كانَ، في خَيَالِنا السَّاذجِ الْبَرِيءِ، تاجِرًا ثَرِيًّا لَّا حُدُودَ لِثرائِهِ؛ فاجْتَمَعَ في شَخْصِهِ كُلُّ ما تَرْجُوهُ عُقُولُ الشَّبابِ وأَفْئِدَتُهُمْ.

ولَعَلَّنا كُنَّا نُحِسُّ أنَّ عبدَ الله الفيصل، لِكُلِّ ما مَضَى، قريبٌ مِنَّا، حتَّى إذا قَرَّرَ الكِتابُ المَدْرَسِيُّ قصيدتَهُ البائِيَّةَ “إلى شَبَابِ بِلادي” = قَوِيَ هذا القُرْبُ؛ أَلَسْنا نَقْرَأُ قصيدتَهُ هذهِ في دَرْسٍ بِرَأْسِهِ، حتَّى إذا قَرَأْناها استظهرْناها، وأَنْفَقْنا شَطْرًا مِّنْ يَوْمِنا في بُيُوتِنا ونَحْنُ نُرَدِّدُها، ثُمَّ إذا بِنا نُسَمِّع ما حَفِظْناهُ بَيْنَ يَدَيْ مُعَلِّمنا! أَمَّا أنا فقَدْ قَرَأْتُ القصيدةَ أَوَّلَ تَسَلُّمِي الكِتابَ المَدْرَسِيَّ، ولَيْسَ عِندي أَلَذُّ وأَمْتَعُ مِنْ ذلكَ اليَوْمِ الَّذِي أَتَسَلَّمُ فيهِ الكُتُبَ المَدْرَسِيَّةَ الْجديدةَ، وإنَّكَ لَتراني أحتضِنُها، وأَشْتَمُّ رائِحتَها العَذْبةَ الزَّكِيَّةَ، أُقَلِّبُ صَفَحَاتِها، وأُدِيمُ النَّظَرَ في صُوَرِها وأشكالِها، وكانَ أكثرَ ما يستهويني مِنْها مُقَرَّرَاتُ اللُّغةِ العَرَبِيَّةِ والتَّاريخِ، وكانَ لا بُدَّ أنْ أَمُرَّ بالقصائدِ المُقَرَّرةِ، أَقْرَأُ بَعْضَها مُسْرِعًا، وأَقْرَأُ بَعْضَها مُسْتَأْنِيًا، وكانَتْ بائِيَّةُ عبدِ الله الفيصل مِنْ تِلْكَ القصائِدِ الَّتي مَلَكَتْ عَلَيَّ خَيَالِي، وكأنَّني كُنْتُ أَتَرَقَّبُ مَوْعِدَها، فلَمَّا حانَ تَمَلَّكَنِي إحساسٌ لَّا سبيلَ، اليَوْمَ، إلى تصويرِهِ، وحَسْبُ القصيدةِ – ولا أدري، اليَوْمَ، أَكُنْتُ أُسَمِّيها قصيدةً؟! – أنِ اتَّصَلَ بِها رُوحِي، ولَسْتُ أَشُكُّ، مَهْمَا ابْتَعَدَتِ السِّنُونَ، أنَّهُ شَدَّنِي صَوْتُ المُعَلِّمِ وهُوَ يُلْقِيها، كانَ نَغَمًا مُّوَقَّعًا، لَّا يَزَالُ، حتَّى اليَوْمِ، يُخايِلُنِي ويُطْرِبُنِي إيقاعُها كُلَّما استذكَرْتُها، أوْ رَدَّدْتُّ أبياتًا مِّنْها، فاستقرَّتْ في الوِجْدَاِن، وغارَتْ في الذَّاكِرةِ، وحُقَّ لها ذلكَ! وكأنَّما صَوَّرَ لِي خَيَالِي السَّاذجُ البَرِيءُ أنَّ الأميرَ الشَّاعِرَ إنَّما يُخاطِبُنا، نَحْنُ التَّلامِذَةَ الَّذِينَ غادَرْنا، قَبْلَ قليلٍ، الصِّبا، وأَقْبَلْنا عَلَى الشَّبابِ، ويُخَيَّلُ إليَّ، بَعْدَ تِلْكَ العُقُودِ، أنَّ القائِمِينَ عَلَى مُقَرَّراتِ اللُّغةِ العَرَبِيَّةِ أَفْلَحُوا فَلَاحًا عظيمًا حِينَ قَرَّروا هذهِ القصيدةَ عَلَى تلامِذةٍ يستقبلونَ أَوَّلَ الشَّبَابِ.
لا شَكَّ أنَّ القصيدةَ تنطوي عَلَى مَعْنًى أخلاقيٍّ تَوَخَّى الشَّاعِرُ أن يُؤَدِّيَهُ إلى القارِئِ؛ ولا رَيْبَ في أنَّهُ انْتَخَبَ مِنْ قُرَّائِهِ الشَّبَابَ، فالقصيدةُ بِتمامِها تَتَّجِهُ إليهم، ومُؤَكَّدٌ أنَّ القائِمِينَ عَلَى المُقَرَّراتِ أرادُوها خالِصةً لِّلمرحلةِ المُتَوَسِّطةِ، تِلْكَ الَّتي يَخْطُو فيها التَّلامِذةُ إلى تِلْكَ السِّنِّ حائِرِينَ مُضْطَرِبِينَ.
لا تَتَنَكَّرُ القصيدةُ لذلكَ، ولا الشَّاعِرُ، وإنَّ في كلماتِها وتراكيبِها لَرُوحًا لَّا تُخْطِئُهُ العَيْنُ، يَلُفُّها مِنْ أَلِفِها إلى يائِها، هُوَ مَعناها الأخلاقيُّ الْجليلُ، لَكِنَّ فيها، كذلكَ، شِعْرًا، مَّتَى قَصَدْنا بالشِّعْر الفنَّ والْجَمَالَ، وأَقْرَبُ الظَّنِّ أنَّ ما فيها مِنْ فَنٍّ وجَمَالٍ هو ما تَسَرَّبَ إلى نَفْسِي لَمَّا كُنْتُ تلميذًا في المُتَوَسِّطةِ، وهُوَ ما أحسستُه، بَعْدَ ذلكَ، وما أُحِسُّهُ الآنَ!
وسأَصْدُقُكَ القَوْلَ – أيُّها القارئُ الكريمُ – أنَّه ما أَهَمَّني في تَلَقِّي الفَنِّ إلَّا ذلكَ الإحساسُ السَّاذجُ الفِطريُّ الَّذي لازَمَني، وظَلَّ يُلازِمُنِي، كُلَّما استذكرْتُ هذهِ القصيدةَ، ويكفيني هذا الشُّعُورُ، ولَسْتُ أظنُّ أنَّ حنينًا إلى عُمْرٍ مَّضَى قدْ تَسَرَّبَ إلى نَفْسي، فصارَتِ القصيدةُ جميلةً لِّهذا السَّبَبِ! لأنَّني لَسْتُ أستهوي مِنْ كِتابِ (المحفوظاتِ) إلَّا قصائدَ ذواتِ عَدَدٍ، وإنِّي أُعِيدُ تَعَلُّقي بِهِنَّ إلى ما فِيهِنَّ مِنْ جَمَالٍ حُلْوٍ ساذجٍ، وذلكَ حَسْبِي!
سأُقاوِمُ في تَلَقِّي هذهِ القصيدةِ كُلَّ ما عَلَّمَتْنِي إيَّاهُ كُتُبُ النَّقْدِ والبلاغةِ؛ لسببٍ يسيرٍ: أنَّني أخذْتُ نَفْسي بأن لَّا أَتَّخِذَهُنَّ وسائلَ لِتَعَرُّفِ الْجَمَالِ إلَّا بَعْدَ أن يَمَسَّنِي سِحْرُهُ؛ فالأَصْلُ هُوَ ذلكَ الشُّعُورُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ سبيلٍ إلى وَصْفِهِ وتفسيرِهِ، ومِقدارُ ما في قصيدةِ عبدِ اللهِ الفيصل مِنْ فنٍّ ثَوَى فيها هُوَ الشُّعُورُ الَّذِي أُحِسُّهُ كُلَّما استعدْتُّ أبياتَها.
والبلاغةُ والنَّقْدُ، مَهْما اختلفَتْ مَنازِعُهُما، لَيْسا إلَّا وسائِلَ صَدَرْنَ عنْ خِبْرَةِ الإنسانِ ومُلامَسَتِهِ لِمَعْنَى الفَنِّ والْجَمَالِ في ما يَقْرَأُهُ مِنْ شِعْرٍ ونَثْرٍ، ولَنْ تُتِيحَ لَنا، في كُلِّ مَرَّةٍ، تعليلَ ما اسْتَكَنَّ في نُفُوسِنا مِنْ شُعُورٍ بالْجَمَالِ، وعَلَيَّ أنْ أستعيدَ مَعَكَ أنَّ هذا الشُّعُورَ السَّاذجَ إنَّما هُوَ شُعُورُ مَن لَّابَسَ الأدبَ والفَنَّ واتَّصَلَ بِهِمَا، وتَمَخَّضَ عنْ خِبرةٍ بِمَسَالِكِ القَوْلِ ومَنَازِعِهِ، وعَلَيْنا أن نَّستعيدَ مَعًا أنَّ البلاغةَ والنَّقْدَ وما شِئْنا مِن مَّنَاهِجَ ونَظَرِيَّاتٍ = لَّا تَعْمَلُ وَحْدَها، ولنْ تستطيعَ بُلُوغَ سِدْرَةِ الفَنِّ دُونَ ذلكَ الشُّعُورِ بالْجَمَال الَّذِي نَدْعُوهُ، مَرَّةً، خِبْرةً، ونَدْعُوهُ، مَرَّةً أُخْرَى، بَصيرةً؛ ذلكَ أنَّهُ رُبَّما خالَفَتْ مقاييسُ النَّقدِ ووسائِلُ البلاغةِ عنْ إحساسِنا، وإنِّي لَأَظُنُّ، مَهْمَا ارْتَقَيْنا في مَعَارِجِ النَّظريَّاتِ، أنَّ العَتَبَةَ الأُولَى الَّتي تَصِلُنا بالأدب لَيْسَتْ إلَّا “الذَّوْقَ”، فإذا صَدَقَكَ الذَّوْقُ، فابْحَثْ في العَمَلِ المَدْرُوسِ عَنْ عِلَّتِهِ وسَبَبِهِ.
رُبَّما لا تَرَى الأدواتُ في بائِيَّةِ عبدِ اللهِ الفيصل أَثَارَةً مِّنْ فنٍّ؛ فلَيْسَ مِنْ أَثَرٍ لِّاستعارةٍ غامضةٍ، ولا تشبيهٍ غريبٍ، ولَيْسَ بعيدًا أن يَنْفُضَ ناقدٌ يَدَهُ مِنْها ويَعْتَدَّها قصيدةً – أوْ أُنْشُودةً – نُظِمَتْ لِدَاعٍ تعليميٍّ أوْ تربويٍّ، فهي إلى النَّظْمِ أَقْرَبُ مِنْها إلى الشِّعْرِ، ولَسْتُ أَسْتَبْعِدُ أنَّ هذا الضَّرْبَ مِنَ النَّقْدِ قَرَأَ كاتِبُهُ القصيدةَ بِما تَقَرَّرَ في كُتُبِ البلاغةِ – وبِخاصَّةٍ البيانُ – إذا كانَ بلاغِيًّا، ومَنَاهِجِ النَّقْدِ – إذا كانَ ناقِدًا – وأَدَارَهُنَّ عَلَى أبياتِها، ولَمَّا اخْتَبَرَها بِهِنَّ أَخْرَجَها مِنَ الشِّعْرِ!
لَكِنَّني لَنْ أُكَذِّبَ شُعُورًا لَّازَمَنِي، طُولَ هذهِ المُدَّةِ، بِجَمَالِها، وعَلَيَّ أنْ أَجِدَ عِلَّةً وسببًا لِمَا أَحْسَبُهُ أَصْلَ ما فيها مِنْ فَنٍّ وجَمَالٍ!
وأَوَّلُ ما اسْتَجْلَبَ نَظَرِي في القَصِيدةِ، في الأَمْسِ البَعِيدِ، كَلِمةُ “مَرْحَى”! هذهِ الَّتي اسْتُهِلَّتْ بِها القصيدةُ، وما كانَ لِيَعْنِيَ تِلْمِيذَ الأَمْسِ مِنْها إلَّا ما حَسِبَهُ، في ذلكَ العَهْدِ مَرَحًا يُلائِمُ فِتْيَةً في فَجْرِ الشَّبَابَ، ولَعَلَّهُ لَوْ عَرَفَ أنَّ معناها في مُعْجَمِ اللُّغةِ: “كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ، تُقَالُ للرَّامِي أوِ الخطيبِ أوْ نَحْوِهِما إذا أصابَ، وإذا أَخْطَأَ قِيلَ لَهُ: بَرْحَى” = لَجَفَاها واستنكَرَها، وإنَّهُ لَيُخَيَّلُ إليهِ أنَّها تَنْطَوِي عَلَى ما يُشْبِهُ التَّحِيَّةَ الْحَبِيبةَ القريبةَ، يُحَيِّي بِها أميرٌ شاعِرٌ شَبَابَ بِلادِهِ.
وفي القَصِيدَةِ الأُنْشُودةِ إيقاعٌ لَّذِيذٌ، عَرَفَ، بَعْدَ زَمَنٍ طويلٍ، أنَّهُ إيقاعُ مَجْزُوءِ الكامِلِ. أَلَمْ يَقْرَأْ في شَرْحِ دِيوانِ الْحَماسَةِ أنَّ مِنْ عناصِرِ الشِّعْرِ عِنْدَ العَرَبِ “الْتِحَامَ أجزاءِ النَّظْمِ والتِئَامَها عَلَى تَخَيُّرٍ مِّن لَّذِيذِ الوَزْنِ”؟ (1/9) إِذَن مَّا كَذَبَ إحْسَاسُ تِلْمِيذِ المُتَوَسَّطَةِ بأنَّ في القصيدةِ شيئًا يُوْشِكُ أن يَكُونَ طَرَبًا، وأنَّ هذا الطَّرَبَ يُدْخِلُ في النَّفْسِ شُعُورًا بالَّلَذَاذَةِ، تُمَثِّلُها كَلِمَةُ أبي عَلِيٍّ المرزوقيِّ العالِيَةِ، ولن يحتاجَ قارِئُ الشِّعْرِ المُتَذَوِّقُ إلى جُهْدٍ كبيرٍ لِّيَعْرِفَ أنَّ هذا الوَزْنَ اللَّذِيذَ المَجْزُوءَ يُلائِمُ قصيدةً أرادَ شاعِرُها مِنْ ورائِها أن يَسْتَحِثَ شَبَابَ بِلادِهِ ويستعجِلَهُمْ لِلَّحَاقِ بالمَجْدِ، لَكِنَّهُ سَيَهْتَدِي، مَتَى ثَقِفَ شيئًا مِّنْ صَنْعَةِ الشِّعْرِ وتَذَوُّقِهِ، أنَّ كَلِمَاتِ القصيدةِ كأنَّما قابَلَتْ إحداهُنَّ الأُخْرَى، فهذهِ بإزَاءِ هذهِ، وتِلْكَ بإزاءِ تِلْكَ
مَرْحَى فَقَدْ وَضَحَ الصَّوَابْ
وَهَفَا إِلَى الْمَجْدِ الشَّبَابْ
عَجْلَانَ يَنْتَهِبُ الْخُطَى
هَيْمَانَ يَسْتَدْنِي السَّحَابْ
قَدْ فَارَقَ الْجَهْلَ الْعَقِيــ
ـمَ وَهَشَّ لِلْعِلْمِ اللُّبَابْ
وما أَعْجَزَهُ أن يَضَعَ “عَجْلَان” بإزاءِ “هَيْمَان”، ولا “يَنْتَهِبُ”، مُقَابِلَ “يَسْتَدْنِي”، وكذلكَ الشَّأْنُ في “الْخُطَى” و”السَّحَاب”، فلَمَّا اتَّصَلَ تلميذُ المُتَوَسَّطَةِ – أوْ مَنْ كانَ في الأَمْسِ البَعِيدِ تلميذًا في المُتَوَسَّطَةِ – بشيْءٍ مِّن نَّبَأِ القصيدةِ، وعَرَفَ أنَّ الأميرَ الشَّاعِرَ حَيَّا بقصيدتِهِ هذهِ شَبَابًا بِسِيمَاهُمْ، في حَفْلٍ مَّدْرَسِيٍّ، وأنَّ البِلادَ كانَتْ، في ذلكَ العَهْدِ، تَنْهَبُ الْخُطَى نَهْبًا لِتَنَالَ حَظًّا مِّنْ تَقَدُّمٍ = أَدْرَكَ ما فيها مِنْ حَمَاسَةٍ، لا تُؤَدِّيها حَقَّ أدائِها إلَّا كلماتٌ تُصَوِّرُ شَبَابًا أُلْقِيَ عَلَى عاتِقِ كُلٍّ واحِدٍ مِّنْهُمْ تَبِعَةُ نُهُوضِ البِلادِ وتَرَقِّيها، وأَفْلَحَ الشَّاعِرُ إذْ صَوَّرَ أولئكَ الشَّبَابَ وهُمْ يَنْهَبُونَ الْخَطْوَ نَهْبًا، وهُمُ العِطَاشُ الَّذِينَ لا تُطْفِي غَلِيلَهُمْ قَطْرَةٌ، وليس دُونَهُمْ إلَّا السَّحَابُ!
والقصيدةُ قِوَامُها أربعةُ ضمائِرَ؛ يُسَيْطِرُ عَلَيْها في أَحَدَ عَشَرَ بَيْتًا ضَمِيرُ الغائبِ، حتَّى إذا أَنْهَى الشَّاعِرُ المَعانِيَ الَّتي ناطَها بالشَّبَابِ = تَحَوَّلَ إلى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ المُتَكَلِّمِينَ، واخْتَلَطُ صَوْتُ الشَّاعِرِ بأصواتِ الشَّبَابِ، لا فَرْقَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُمْ
وَعَلَيْهِ فَلْنَبْنِ الْحَيَا ةَ وَلَا نُسَاوِمْ فِي الثَّوَابْ
وَلْنَنْطَلِقْ فِي عَزْمِنَا مِثْلَ انْطِلَاقَاتِ الشِّهَابْ
كَيْمَا نُرَى فَوْقَ السُّهَا كَيْمَا نُمَجَّدَ فِي الْمَآبْ
​وقَبْلَ أن يُتِمَّ قصيدتَهُ يَعُودُ إلى نَفْسِهِ، لَكِنَّهُ لا يَصْطَنِعُ ضَمِيرَ المُتَكَلِّمِ، بَلْ ضَمِيرَ الغائِبِ، فإذا بَلَغَ البَيْتَ الأخِيرَ مِنْها، رَأَيْنا، لأَوَّلِ مَرَّةٍ، ضَمِيرَ المُتَكَلِّمِ المُفْرَدِ، وكانَ هذا البَيْتُ قِسْمَةً بَيْنَهُ وبَيْنَ الشَّبَابِ الَّذِينَ يُخَاطِبُهُمْ بِضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ
هَذِي نَصِيحَةُ مُخْلِصٍ
يَهْوَى الْمَجَادَةَ والطِّلَابْ
كَرَّمْتُمُونِي دَائِمًا
فَلَكُمْ حَيَاتِي يَا شَبَابْ

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى