لا يختلف اثنان على أن مؤسساتنا التعليمية، والجامعات السعودية على وجه الخصوص، في حاجة مُلحة إلى تمويل ذاتي، وهو ما يُطلق عليه (الموارد الذاتية)، والذي أصبح ضرورةً مُلحةً في وقـتـنا الحاضر؛ وذلك في ظل تقلبات أسعار النفط، وازدياد نفقات التعليم، وحاجات المتعلمين.
إن من أهم مصادر التمويل الذاتي للجامعات يأتي من الأوقاف (العوائد الوقفية)، إضافة لأصولها الاستثمارية، وبيوت الخبرة لديها، وكذا الهبات المقدمة لها من الأفراد، والجمعيات، والمؤسسات الاجتماعية، والشركات، والرسوم الطلابية.
إن فكرة العوائد الوقفية قد نشأت في الأساس لتمكين المؤسسات التعليمية من الحفاظ على استقلاليتها، وعدم تعثر أنشطتها العلمية والبحثية والتدريسية، وفي تاريخنا الإسلامي العظيم، لم تبرز فكرة الأوقاف على التعليم -والذي صنفه العلماء كنوع من أنواع الصدقة الجارية-، إلا في العصر العباسي الأوَّل، وفي عهد الخليفة العباسي (المأمون) بالتحديد، والتي تطورت بعد ذلك مع إنشاء الكثير من المدارس الوقفية في القرن الخامس الهجري.
لا شك أن هذا التمويل يُمثل إضافةً مهمةً لأي مجتمعٍ من المجتمعات؛ لأنه يُقدم رافدًا ذاتيًا جديدًا من روافد المجتمع المدني الحي، والذي من ميزته أنه يُقدم الخدمة دون إرهاقٍ لميزانية الدولة، أو الشركات والأفراد.
وفي العادة يجري نظام الصرف من هذه الأموال في دعم البحث العلمي، وتمويل الكراسي العلمية، وتأهيل مرافق الجامعة من معامل، وأجهزة، ومختبرات، وغيرها من المتطلبات؛ وبالنظر للجامعات التي تتصدر التصنيفات العالمية نجدها من نوع الجامعات الوقفية، فمن الجامعات الأمريكية: هارفرد، وستانفورد، وديوك، ومن البريطانية: كامبريدج، وأكسفورد، وتورينتو الكندية، وسيدني الأسترالية، والسلطان أحمد التركية، وغيرها من الجامعات الوقفية حول العالم.
ومن أشهر التجارب المحلية الناجحة، مؤسسة الملك فيصل الخيرية التي تتبنى جامعة الفيصل، وجامعة عفت؛ إن هذه المؤسسة الرائدة تمول كل هذه المؤسسات التعليمية العريقة.
ومن التجارب العالمية، هناك جامعة هارفرد الأمريكية، التي تقع على قمة هرم التصنيف العالمي للجامعات، هي جامعة وقفية، 43% من إيراداتها تأتي من عائداتها الوقفية و22% من الرسوم الدراسية، و17% من المشاريع البحثية، وأصولها الاستثمارية في حدود 50 مليار دولار، وكانت عوائدها لعام 2021م فقط، في حدود 36%، وقامت بتأسيس شركة في السبعينيات لإدارة أصولها، والتي قفزت بالعوائد إلى نسب أرباح عالية.
ونتيجةً لكل ذلك تمكنت الجامعة من تأسيس 300 كرسي علمي وقفي، وتحمل ما قيمته 30% من كلفة هذه الكراسي، وحصد أعضاء هيئة التدريس في هذه الجامعة الوقفية العريقة على الكثير من الجوائز العالمية من أبرزها جائزة نوبل، والتي كان من نصيب الأكاديميين في هارفرد بعدد 161 جائزة كأكبر مؤسسة تعليمية في العالم تحصل على هذا العدد من جوائز نوبل منذ تأسيس الجائزة في عام 1901م.
كل هذه التجارب الوقفية كان لها دور كبير في جودة وتطوير التعليم العالي، وفي إيجاد الكثير من الابتكارات والاختراعات التي خطت بالبشرية خطوات إلى الأمام.
والسؤال أين جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية من هذا الحراك الوقفي؟
0