المقالات

إلى جنات الخلد يا أبا جعفر

لا إله إلا الله. محمد رسول الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله. انتقل إلى رحمة الله تعالى الرجل الفاضل محمد بن عبد الرحيم التريش الزهراني، ولقد والله ألمني النبأ، وأكثر ما ألمني أنني لم أقابل هذا الرجل إلا مرة واحدة ولفترة لا تتعدى ساعات تُعد على أصابع اليد الواحدة، ولقد وعدني بالزيارة، وكذلك فعلت فسبق الموت إليه ولم يفِ أحدنا بوعده، رغم أنه مرَّ عليه سنوات طوال.
قبيلتي الغالية زهران فيها الصحابة والعلماء والقادة والشعراء، وقد شرق مجدها وغرب ويمن وشام. دون قصور في رجال القبائل فكما يقال: (في كل قبيلة حقها من رجالها)، وفي العهد السعودي المجيد بكل مراحله ضربنا أروع الأمثلة في الولاء والتضحية والفداء.. مما يميز رجال زهران تلك الأريحية، والطيبة، والابتسامة الحاضرة والكرم بالميسور، والذي بلغ بالبعض اعتبار تلك الطيبة والسماحة وحضور الفكاهة وفصاحة المنطق، ربما أعتبره سذاجة، واتخذ منه بعض السخرية، ولكن إذا احتدم الصراع، وحك الصلب صلبًا مثله، وجدهم رأس الحربة الذي لا ينثلم، وشبا السيف الذي لا ينبأ. وقبيلة بني حسن أكبر قبائل زهران أكثرها عددًا، وأوسعها مساحة، وأمتعها جغرافيًّا، بين الجبال الشاهقة والهضاب الشاسعة، والأودية العريضة والتنوع النباتي والحيواني، ووفرة الماء الظاهر منه والباطن، فيها القادة والأطباء والقضاة والعسكر والبياطير، والبواردية، ولعمري.. إنها أكبر الوية زهران المعقَودة تحت إمرة قائدنا الأعلى سلمان الحزم، وولي عهده الملهم المظفر -بإذن الله-.
مما يُميز رجال هذه القبيلة المنطق العذب، والحكمة الحاضرة، والشعر الجميل وكم تغنَّى المنشدون بـ(يالشيخ جارالله ويش حدك على نجد الأقصي ..إيش كرهك في نقاع ابني حسن وانحن أهلك ..)) بل إنها نُسجت حولها روايات. ونسبها الرواة إلى أكثر من شخصية حتى حسم الجدل من أهل بيت الشاعر… وليس هذا مجالها وربما أعود إليها. فما تذكر السعودية، إلا ويذكر زهران، ولا تذكر زهران إلا ويذكر بني حسن، ولا تذكر بني حسن إلا وتذكر العفوص، ولا تذكر العفوص إلا ويذكر التراريش… العفوص هي من أكبر قرى بني حسن فيها أولى المدارس النظامية، وإني لأذكر وأنا في الثاني الثانوي عام عام 1397/1978م نظّمت لنا إدارة تعليم الباحة رحلة إلى الطائف ومكة المكرمة وجدة والمدينة المنورة، وهي بالنسبة لي أول مرة أزور جدة والمدينة، وكانت نقلةً تاريخيةً في حياتي مع كوكبة مُنتقاة من طلاب الثاني والثالث الثانوي .بصحبة خيرة من مديري ومعلمي ثانويات الباحة بشقيه الأدبي والعلمي، رافقنا طالب كان في الثالث الثانوي بمدرسة العفوص.. كنتُ أفاخر أنني أحفظ كمًا هائلًا من شعر العرب وكثيرًا ما نصبت مجالس المساجلات، وكان لي قصب السبق وقابلت هذا الطالب واسمه أحمد بن سعيد العفصي لم ولن أنسه أبدًا .. بدأت أستعرض عضلاتي وفي ذات مساء بينما كنت أطرح الزملاء واحدًا تلو الآخر، أتى هذا الزميل الغارق في الهدوء، فهو لا يتحدث إلا نزرًا، عكسي أنا أشبعت الجميع ثرثرة وضحكًا وشعرًا وقصائد شعبية، جلس أمامي وبدأنا نتساجل فإذا بي أتقازم أمام هذا الحافظ العملاق، وأقسم لكم إنني ما كنت أنطق البيت إلا ويأتي بمقابله وفي أقل من 40 بيتًا بدأت أغرق ..وهو يتدفق في أريحية تامة؛ فشعرت بهزالي أمام هذا الفرات المتدفق. فقد كان يحفظ الشعر كأنه أسماء أسرته لا يفكر ولا يتلعثم شعرًا فصيحًا جاهليًا وإسلاميًّا بدولة ودويلاته، وحديثه بحافظه وشوقيه وغيرهم لقد أذهلني فبارزته ومعي اثنان فغلبنا وثلاثة فغلبنا ولو زدنا زاد، وكان العهد به في تلك الرحلة وتفرقنا، ولم يكن هناك وسائل اتصال، وأنني لأشهد أنه كنز أدبي رغم أنني أقرض الشعر، وهو لم ينظم ولا يستطيع أن ينظم بيتًا واحدًا. وكنت أنا في القسم الأدبي، وكان هو في العلمي وكان مرجعًا لزملائه ومعلميه في الرياضيات والعلوم، وأذكر أنه كان من أوائل منطقة الباحة لتلك السنة ليت هذا الجوال كان بين أيدينا آنذاك.. اسمحوني شطحت بكم فأهل العفوص أهل العرضة والزير، ولا يُجاريهم إلا بالحكم، أو رباع. مع التقدير والاحترام للجميع. يمتاز رجال العفوص بالكرم والشجاعة وبالطيبة والحكمة وعُذرية الشعر، فهم منبع الفن، وكم من جملة قالها أحدهم فذهبت مثلًا يتناقله الناس (كما قال ولد بني حسن وإلا كما قال العفصي) أعود إلى الأخ الأكبر محمد التريش -رحمه الله تعالى- فقد علمت أنه كان علمًا لزهران خاصة ولغيرهم في العاصمة الرياض التي عشقها كأنها العفوص.. قابلته للمرة الأولى في حفل أقامه التراريش احتفالًا بترقية ابنه العميد المهندس جعفر التريش، وتعيينه مديرًا لأمن المنشآت بالمنطقة الشرقية. والمهندس جعفر رجل طموح ومهندس معماري ممتاز، تخرج من كلية الهندسة فالتحق بالأمن العام، وكان نعم الضابط ونعم المهندس…ما إن عرفني بوالده -رحمه الله-، وما إن قال من بالحكم حتى أطلق ضحكة استفزازية. قابلتها ببرود مصطنع ..وسألني سؤالًا محرجًا، ولكنني أجبته إجابة مسكتة!! بعدها اندمجنا في بعض كأننا نعرف بعض من سنين، وبدأنا نتحدث ولكم الله أنني لأستأثرت به حتى عن أقرب أقاربه ومضت تلك الليلة الرائعة كأجمل ما يكون كرم التراريش وأريحية مضيفنا ودماثة أبي جعفر -رحمه الله- . لم أتركه حتى وعدني بزيارة وأنا كلي علم أنها فكة مقعد (علي قول بني حسن!!)، وكنت أعلم أن جدول الرجل مزدحم ووقته ضيق ومحبيه كثر؛ ولن يلبي دعوتي لأنه كما يقولون يُحُنني من الخسارة وأنا وبالله العظيم.. إنه كان الود ودي أن يشرفني وما أخسره من أجله قسمًا بالله، إنه أرخص عندي من ماء المطر الذي لا ثمن له.
ذهبت بنا دوامة الحياة، كلٌّ منا في فلكه حتى اختاره الله، ولا أعلم بكم سبقني؛ فإلى جنات النعيم، وأسأل الله بكل ما يحب أن يسأل به من أسمائه وصفاته أن ينزل على قبره شأبيب رحمته، وصادق العزاء لي أولًا، ولأولاده وذوي رحمه وأصدقائه ومحبيه، وللعفوص ولبني حسن ولزهران، ونسأله -جل وعلا- أن يجمعنا به في جنات الخلد، إنه ولي ذلك والقادر عليه…وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه …والسلام عليكم….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى