طَوَى يومُ الأحد الأول من المحرم 1446هـ صفحاتِ خمْسٍ وأربعينَ وأربعمئةٍ وألفٍ من السَّنوات منذ هجْرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وقد بدأ العملُ بهذا التأريخ سنةَ سبعَ عشرةَ من الهجرةِ النَّبويَّةِ الشَّريفة، حين ظهرت حاجةُ الدَّولةِ الإسلاميَّة لضبْط المراسلاتِ وحفظِ الحقوقِ وإثباتِ أوقاتِ الأحداث.. حينها جَمَعَ الخليفةُ الراشدُ عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنهُ مستشاريه من صحابةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وطلبَ رأيَهم في الأمر.. فمنهم من قال: نُؤرّخُ بمولدِ الرسولِ، ومنهم من قال: نُؤرّخُ بتأريخ الرُّومِ، وآخرون رأوا التأريخَ بنزول الوحْي.. وقال عليُّ بن أبي طالب رضيَ اللهُ عنه: نُؤرّخُ بهجْرَة الرَّسُول، فاستحسنَ الفاروقُ رأيَ أبي تُرابٍ وقال: “الهجْرَة فرَّقت بين الحقِّ والباطلِ فأرِّخوا بها”. ورأى رضيَ اللهُ عنهُ أنْ يكونَ الأولُ من شَهْرِ مُحَرَّمَ منَ السَّنةِ التي هاجَرَ فيها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بدايةً لتأريخِ المسلمينَ في دوْلَتهم الفَتيَّة؛ لأنَّه أولُ الشُّهور عند العَرَب.
وفي هذه القصَّة دلالاتٌ عظيمةٌ أولها: إرساء مبدأ الشُّورى الذي هو من ثوابت هذا الدِّين الحنيف بنَصِّ القرآنِ الكريمِ ﴿وَأَمرُهُم شُورَى بَينَهُم﴾ وبفعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والخلفاءِ الراشدينَ المهديِّينَ من بعده. ومن تلك الدلالات والأبعاد العميقة لاختيار الهجْرَةِ النَّبويَّة الشَّريفةِ بدايةً للتأريخ الإسلاميِّ، أنّ هذا التأريخَ لا يرتبطُ بشخْصِ الرَّسُولِ الأعظم، ولا بنزول الوَحْي؛ ولكنَّهُ يرتبطُ بحَدَثٍ عظيمٍ كما وصفَهُ الفاروقُ رضيَ اللهُ عنه.
وارتباط التأريخ الهجريّ بحادثة الهجْرَة عنوانٌ على عالميَّته؛ فهذا الدين ارتضاه اللهُ تعالى للنَّاس كافَّة، وختمَ به كُلَّ الأديان. ثم إنَّ في الهِجْرَة إشارةً إلى عُلوِّ الهمَّة، وقيمَة العمل، وبذل الجهدِ والتَّضحيَة، لبلوغ الأهداف والغايات العظيمة.. وأيّ هِمَّةٍ أعلى وأجَلّ من تحقيق التَّوحيد؟!
لهُ هِمَمٌ لا مُنْتَهَى لكبارِها *** وهمَّتُه الصُّغْرى أجلُّ منَ الدَّهْرِ
وهذا التأريخُ يعتمدُ السَّنةَ القَمَريَّةَ اتباعاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثنَا عَشَرَ شَهرا فِي كِتَبِ ٱللَّهِ يَومَ خَلَقَ ٱلسَّمَوَتِ وَٱلأَرضَ مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُم﴾.
ونحن المسلمينَ نغتَبطُ بفضلِ اللهِ علينا مع مَطْلعِ كُلِّ عامٍ هجريّ، حتى وإن كانت أحوال كثيرٍ من أبناء أمَّتنا لا تَسُرُّ؛ لأننا نُحْسُن الظَّنَ بربِّنا سبحانه وتعالى أنْ يُصْلِحَ الأحوالَ جميعها.. ولأنَّنا واثقونَ بوعد الله لنا.. ولأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد أخبرنا في كتابه العزيز بأنَّنا خيْرُ الأُمَم ﴿كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ﴾. فأيَّ أمَّة غير أُمَّتنا استطاعت أن تبنيَ أعظمَ حضارة عرفَتْهَا الدُّنيا في غُضُون مئتيْ عام؟! حضارة لم تَنجَح كلُّ المحاولاتِ لإسقاطها منذُ بزغَ نورُ الإسلامِ وحتى يومنا هذا؛ لأنها تأسَّسَت على نُورٍ منَ اللهِ، وأعْلَت كلمَةَ الله وحمَلَت الحقَّ ونشرَتْه ودافعت عنه، واعتنت بالعِلْم وأذاعَتْه، حتى أضاء في العُقُول وأشْرَقَ في القلُوب من أقصى الأرض إلى أدناها. وليس ذلك بمُسْتَغْرَب فإنَّ القرآنَ والسُّنَّةَ هما الأساس!
نعم، تلك هي حضارةُ أُمَّتنا الإسلاميَّة، وذلك هو تاريخُنا، تاريخٌ حَمَلَ أمانَةَ عقيدة التَّوحيد واشتغلَ بعُلوم الوَحْيَيْن، وحَفِظَ للُغَة التَّنزيل مكانتها وأثْرى فروعَها.. ولم يُهْمل علومَ الدُّنيا وما تَصْلُحُ به أحوالُ العباد ومعيشتُهم، تاريخٌ لمْ ينْغَلق على نفسه، وإنما أخذ النافعَ من معارف الأمَم وعلومها فهذَّبَه وأثْرَى منه وأثراه.. تاريخٌ وحضارةٌ كانت المعرفةُ والبيانُ قاعدتَهما، فبقي أثرُهما وداما، في حين تهدَّمت مِنْ حولهما كلُّ حضارةٍ كانت المادَّةُ أساسَها، وصارت منازلُهم آثاراً لا يلْبَثُ زائرها أن يتحوَّلَ عنها! ﴿وَكَم أَهلَكنَا مِن قَريَةِ بَطِرَت مَعِيشَتَهَا فَتِلكَ مَسَكِنُهُم لَم تُسكَن مِّن بَعدِهِم إِلَّا قَلِيلا﴾.
ذلك هو تاريخُنا أيُّها السَّادة، تتألَّقُ أيامُه شامةً مُتوهِّجَة في جبين الدُّنيا، تاريخ أمَّةٍ يعلَمُ الخَلْقُ كافَّةً أنَّهم قاموا بالحَقِّ، وبسطوا العَدْلَ، ونشروا العلمَ، ونصروا الضَّعيفَ.. اهتدى بهم الضُّلالُ وتعلَّمَ عندهم الجُهَّالُ، وعزَّ عندهم الذَّليلُ، وارعوى المتكبِّرُ، وخابَ المتجبِّرُ..
ولئن أدركَ هذه الأمَّةَ الضَّعْفُ.. فإنَّها لابُدَّ أن تعودَ لتاريخها العظيم بإذن الله؛ فدينُها الإسلامُ نَبْعُ الحياة وعقيدتُها إخلاصُ التَّوحيد لله وفيها مُنْتَهَى القُوَّة.. ألَمْ يُهاجر هذا التاريخُ مغْلُوباً نحو المدينة، وبعدَ سنوات معدودة سافرَ جُنْدُ الله شرقاً وغرباً غالبينَ مُنتصرينَ يحملونَ الخَيْرَ للعالم؟!
واليومَ وغدا وفي كلِّ عام، سنظلُّ نرى في هذه الذِّكْرى الشَّريفةِ نوراً يُضيءُ الطَّريقَ.. ونَفْحاً يُوقِظُ الشُّعورَ بالعزَّة.. وحافزاً يبعثُ الهمَمَ فتنشَطَ لإدراكِ غاياتها النَّبيلة، ومجْدها التَّليد.
اللهُم اجعلْهُ عامَ خيرٍ وبرَكةٍ وفلاحٍ على بلادنا الكريمة، واحفظْ قادتَها الغُرَّ وأيِّدهُم بتوفيقك اللهُم وأصْلحْ أحوالَ المسلمينَ في كُلِّ مكانٍ، وأعزَّ دينَكَ وانصُر عبادكَ الموحِّدين.
محمد بن أحمد عمير
مكة المكرمة في الثاني من شهر الله المحرَّم سنة 1446هـ المصادف للثامن من يوليو 2024م
الهِجْريّ..
طَوَى يومُ الأحد الأول من المحرم 1446هـ صفحاتِ خمْسٍ وأربعينَ وأربعمئةٍ وألفٍ من السَّنوات منذ هجْرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وقد بدأ العملُ بهذا التأريخ سنةَ سبعَ عشرةَ من الهجرةِ النَّبويَّةِ الشَّريفة، حين ظهرت حاجةُ الدَّولةِ الإسلاميَّة لضبْط المراسلاتِ وحفظِ الحقوقِ وإثباتِ أوقاتِ الأحداث.. حينها جَمَعَ الخليفةُ الراشدُ عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنهُ مستشاريه من صحابةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وطلبَ رأيَهم في الأمر.. فمنهم من قال: نُؤرّخُ بمولدِ الرسولِ، ومنهم من قال: نُؤرّخُ بتأريخ الرُّومِ، وآخرون رأوا التأريخَ بنزول الوحْي.. وقال عليُّ بن أبي طالب رضيَ اللهُ عنه: نُؤرّخُ بهجْرَة الرَّسُول، فاستحسنَ الفاروقُ رأيَ أبي تُرابٍ وقال: “الهجْرَة فرَّقت بين الحقِّ والباطلِ فأرِّخوا بها”. ورأى رضيَ اللهُ عنهُ أنْ يكونَ الأولُ من شَهْرِ مُحَرَّمَ منَ السَّنةِ التي هاجَرَ فيها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بدايةً لتأريخِ المسلمينَ في دوْلَتهم الفَتيَّة؛ لأنَّه أولُ الشُّهور عند العَرَب.
وفي هذه القصَّة دلالاتٌ عظيمةٌ أولها: إرساء مبدأ الشُّورى الذي هو من ثوابت هذا الدِّين الحنيف بنَصِّ القرآنِ الكريمِ ﴿وَأَمرُهُم شُورَى بَينَهُم﴾ وبفعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والخلفاءِ الراشدينَ المهديِّينَ من بعده. ومن تلك الدلالات والأبعاد العميقة لاختيار الهجْرَةِ النَّبويَّة الشَّريفةِ بدايةً للتأريخ الإسلاميِّ، أنّ هذا التأريخَ لا يرتبطُ بشخْصِ الرَّسُولِ الأعظم، ولا بنزول الوَحْي؛ ولكنَّهُ يرتبطُ بحَدَثٍ عظيمٍ كما وصفَهُ الفاروقُ رضيَ اللهُ عنه.
وارتباط التأريخ الهجريّ بحادثة الهجْرَة عنوانٌ على عالميَّته؛ فهذا الدين ارتضاه اللهُ تعالى للنَّاس كافَّة، وختمَ به كُلَّ الأديان. ثم إنَّ في الهِجْرَة إشارةً إلى عُلوِّ الهمَّة، وقيمَة العمل، وبذل الجهدِ والتَّضحيَة، لبلوغ الأهداف والغايات العظيمة.. وأيّ هِمَّةٍ أعلى وأجَلّ من تحقيق التَّوحيد؟!
لهُ هِمَمٌ لا مُنْتَهَى لكبارِها *** وهمَّتُه الصُّغْرى أجلُّ منَ الدَّهْرِ
وهذا التأريخُ يعتمدُ السَّنةَ القَمَريَّةَ اتباعاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثنَا عَشَرَ شَهرا فِي كِتَبِ ٱللَّهِ يَومَ خَلَقَ ٱلسَّمَوَتِ وَٱلأَرضَ مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُم﴾.
ونحن المسلمينَ نغتَبطُ بفضلِ اللهِ علينا مع مَطْلعِ كُلِّ عامٍ هجريّ، حتى وإن كانت أحوال كثيرٍ من أبناء أمَّتنا لا تَسُرُّ؛ لأننا نُحْسُن الظَّنَ بربِّنا سبحانه وتعالى أنْ يُصْلِحَ الأحوالَ جميعها.. ولأنَّنا واثقونَ بوعد الله لنا.. ولأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد أخبرنا في كتابه العزيز بأنَّنا خيْرُ الأُمَم ﴿كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ﴾. فأيَّ أمَّة غير أُمَّتنا استطاعت أن تبنيَ أعظمَ حضارة عرفَتْهَا الدُّنيا في غُضُون مئتيْ عام؟! حضارة لم تَنجَح كلُّ المحاولاتِ لإسقاطها منذُ بزغَ نورُ الإسلامِ وحتى يومنا هذا؛ لأنها تأسَّسَت على نُورٍ منَ اللهِ، وأعْلَت كلمَةَ الله وحمَلَت الحقَّ ونشرَتْه ودافعت عنه، واعتنت بالعِلْم وأذاعَتْه، حتى أضاء في العُقُول وأشْرَقَ في القلُوب من أقصى الأرض إلى أدناها. وليس ذلك بمُسْتَغْرَب فإنَّ القرآنَ والسُّنَّةَ هما الأساس!
نعم، تلك هي حضارةُ أُمَّتنا الإسلاميَّة، وذلك هو تاريخُنا، تاريخٌ حَمَلَ أمانَةَ عقيدة التَّوحيد واشتغلَ بعُلوم الوَحْيَيْن، وحَفِظَ للُغَة التَّنزيل مكانتها وأثْرى فروعَها.. ولم يُهْمل علومَ الدُّنيا وما تَصْلُحُ به أحوالُ العباد ومعيشتُهم، تاريخٌ لمْ ينْغَلق على نفسه، وإنما أخذ النافعَ من معارف الأمَم وعلومها فهذَّبَه وأثْرَى منه وأثراه.. تاريخٌ وحضارةٌ كانت المعرفةُ والبيانُ قاعدتَهما، فبقي أثرُهما وداما، في حين تهدَّمت مِنْ حولهما كلُّ حضارةٍ كانت المادَّةُ أساسَها، وصارت منازلُهم آثاراً لا يلْبَثُ زائرها أن يتحوَّلَ عنها! ﴿وَكَم أَهلَكنَا مِن قَريَةِ بَطِرَت مَعِيشَتَهَا فَتِلكَ مَسَكِنُهُم لَم تُسكَن مِّن بَعدِهِم إِلَّا قَلِيلا﴾.
ذلك هو تاريخُنا أيُّها السَّادة، تتألَّقُ أيامُه شامةً مُتوهِّجَة في جبين الدُّنيا، تاريخ أمَّةٍ يعلَمُ الخَلْقُ كافَّةً أنَّهم قاموا بالحَقِّ، وبسطوا العَدْلَ، ونشروا العلمَ، ونصروا الضَّعيفَ.. اهتدى بهم الضُّلالُ وتعلَّمَ عندهم الجُهَّالُ، وعزَّ عندهم الذَّليلُ، وارعوى المتكبِّرُ، وخابَ المتجبِّرُ..
ولئن أدركَ هذه الأمَّةَ الضَّعْفُ.. فإنَّها لابُدَّ أن تعودَ لتاريخها العظيم بإذن الله؛ فدينُها الإسلامُ نَبْعُ الحياة وعقيدتُها إخلاصُ التَّوحيد لله وفيها مُنْتَهَى القُوَّة.. ألَمْ يُهاجر هذا التاريخُ مغْلُوباً نحو المدينة، وبعدَ سنوات معدودة سافرَ جُنْدُ الله شرقاً وغرباً غالبينَ مُنتصرينَ يحملونَ الخَيْرَ للعالم؟!
واليومَ وغدا وفي كلِّ عام، سنظلُّ نرى في هذه الذِّكْرى الشَّريفةِ نوراً يُضيءُ الطَّريقَ.. ونَفْحاً يُوقِظُ الشُّعورَ بالعزَّة.. وحافزاً يبعثُ الهمَمَ فتنشَطَ لإدراكِ غاياتها النَّبيلة، ومجْدها التَّليد.
اللهُم اجعلْهُ عامَ خيرٍ وبرَكةٍ وفلاحٍ على بلادنا الكريمة، واحفظْ قادتَها الغُرَّ وأيِّدهُم بتوفيقك اللهُم وأصْلحْ أحوالَ المسلمينَ في كُلِّ مكانٍ، وأعزَّ دينَكَ وانصُر عبادكَ الموحِّدين.
– مكة المكرمة في الثاني من شهر الله المحرَّم سنة 1446هـ المصادف للثامن من يوليو 2024م