عندما يتعلق الأمر بتقليل الهدر الغذائي خلال فترة الحج، تلعب التوعية دورًا حيويًّا، وقد أصبح من الضروري تعزيز الوعي بأهمية استغلال الموارد الغذائية بشكل فعّال، وتقدير الاحتياجات الغذائية للحجاج من خلال تبني أساليب أكثر استدامة في إكرام ضيوف الرحمن؛ لتحقيق التوازن في خدمات إعاشة الحجاج يبرز الكرم السعودي الأصيل، وتحقق سياسة تقليل الهدر الغذائي في آن واحد.
لطالما ارتبط اسم المملكة العربية السعودية حُكامًا وشعبًا بخدمة ضيوف الرحمن؛ فهي نعمة أكرمنا الله بها وتُعتبر مصدر فخر واعتزاز للسعوديين، وإذا ما كان الكرم السعودي هو الأسلوب الذي يعكس قيم السخاء والضيافة التي يشتهر بها المجتمع السعودي كحُسن الاستقبال والضيافة للضيوف العاديين، فإن هذا الكرم في حق ضيوف الرحمن يصبح واجبًا وطنيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا مقدسًا في المجتمع السعودي. والشواهد على هذا كثيرة، ترصدها العدسات ومواقع التواصل الاجتماعي، وتوثقها الإحصائيات، وتتم الإشادة بها من قبل القاصي والداني في كل عام بكل امتنان وشكر ودعوات لجميع القائمين على خدمة ضيوف الرحمن.
وقد أعلنت الهيئة العامة للإحصاء بنهاية موسم الحج أن إجمالي أعداد الحجاج هذا العام 1445هـ قد بلغ 1,833,164 حاجًّا وحاجَّة، منهم 1,611,310 حاجًّا وحاجَّة، قدموا من خارج المملكة عبر المنافذ المختلفة، فيما بلغ عدد حجاج الداخل 221,854 حاجًّا وحاجَّة من المواطنين والمقيمين.
وتُعتبر ضيافة وإطعام وإكرام حشود بهذه الأعداد من الحجّاج في نفس المكان والزمان وباختلاف ثـقافاتهم وتفضيلاتهم الغذائية وحالاتهم الصحية، تحديًّا كبيرًا لمنظومة الحج بشكل كامل. فوجبة الحاج ليست مجرد صنف يُطهى ويُقَدم ببساطة، بل هي سلسلة من العمليات التي تمر بها وجبة الحاج يتم من خلالها اختيارها ودراستها بعناية ورعاية من وزارة الحج، وإعدادها وحفظها ونقلها بدقة فائقة من قبل مقدمي خدمات الإعاشة باتباع أساليب علمية تضمن وصولها للحاج بمستوى عالٍ من الجودة والسلامة، وتحقق له الرضا التام عن المذاق والتنوع والتوازن في العناصر الغذائية.
الجدير بالذكر أن عملية تقديم خدمات إعاشة بكل هذه المعايير لا تقتصر على مقدمي خدمات الإعاشة كجهة تعمل بمفردها بل تتقاطع مع جهات عديدة؛ لتحقيق هذا الهدف مثل: الصحة والبلدية، والمرور والكهرباء والمياه الوطنية، وشركات الحج وموردي الأغذية وسلاسل الإمداد وهيئة الأمن الغذائي، بل وتؤثر وتتأثر بهم. فالأمر لا يقتصر على إعداد وجبة الحاج وإيصالها له في المخيم، بل يتعداه لعمليات أخرى أكثر تعقيدًا لإدارة، وتوزيع هذه الوجبة والتعامل مع الفائض منها ومخلفاتها من الأواني ذات الاستعمال للمرة الواحدة، والتخلص منها بطريقة صحيحة لا تتسبب في تراكم النفايات أو إلحاق الضرر بالبيئة.
وحيث إن إعداد وحفظ الأطعمة، والحد من هدرها يتطلب وجود منظومة متكاملة لتحقيق هدف كهذا في الظروف الاعتيادية، فان إعداد وتقديم وحفظ وجبة الحاج يتطلب جهودًا استثنائية لتحقيق هذا الهدف في موسم الحج من باب أولى كونه التجمع البشري الأكبر ذي الظروف الجغرافية والمناخية والمكانية والروحانية الاستثنائية.
لا شك أن خدمات الإعاشة تُعتبر أمرًا حيويًا خلال فترة الحج؛ حيث تُعزز تجربة الحاج، وتسهم في راحته وسلامته أثناء أداء المناسك الدينية، وكذلك يعتبر الكرم والضيافة جزءًا من الثـقافة السعودية التي تعكس قيم السخاء والترحيب التي تعتمدها المملكة تجاه ضيوفها، ومع ذلك، يجب أن تتوازى هذه الخدمات الكريمة مع الحاجة إلى تحقيق التوازن من خلال إعادة صياغة لطريقة أكثر استدامة لإبراز الكرم السعودي؛ بهدف تقليل الهدر الغذائي وضبط كميات الطعام بدقة.
في هذا السياق، قدمت الهيئة العامة للهدر الغذائي حملة توعوية تحت شعار: “حج بلا هدر”، والتي تهدف إلى تشجيع الحجاج على تقليل الهدر الغذائي واستخدام الموارد الغذائية بشكل مسؤول، وقد ساهمت بشكلٍ فعال وناجح في رفع نسبة الوعي بأهمية الأمن الغذائي، وتعزيز الممارسات السليمة للاستهلاك، والتحفيز على تبني الحلول التي تسهم في الحد من الهدر الغذائي؛ حيث تم حفظ 1.4 مليون وجبة من فائض وجبات الحجاج من الوجبات الطازجة والمواد الغذائية التي شملت الخبز والحلويات والفواكه والخضراوات الطازجة، والمياه المعدنية والألبان والعصائر.
بينما لا تزال تُشكل الأطعمة المطهية التي تُقدم للحجاج تحديًّا كبيرًا أمام كل من مقدمي خدمات الإعاشة والهيئة والوزارة؛ نظرًا لأسباب صحية عديدة تجعل من حفظها أو توزيعها أو حتى إعادة تدويرها أمرًا شبه مستحيل. لذلك فإن الاعتماد على طرق التقدير العشوائية مثل “يزيد ولا ينقص” لكميات الطعام المعدة لإعاشة الحجاج من قبل شركات الحج والإعاشة، يجب أن تنتهي وتستبدل بآليات وإستراتيجيات مبتكرة باستخدام التقنية الحديثة والذكاء الاصطناعي يمكن الجهات المعنية من تقدير احتياجات الحجاج الغذائية بدقة وكميات الطعام المناسبة وعدد الوجبات بشكل أفضل. وهذا بدوره سيُساهم في تقليل الهدر الغذائي، وضمان الاستفادة القصوى من الموارد الغذائية المتاحة خلال فترة الحج.
بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر الاستعلام عن التفضيلات والقيود الغذائية للحجاج قبل وصولهم للمخيم وعند تقديمهم للحصول على تصريح الحج أمرًا حاسمًا في تقدير الكمية والنوعية. الأمر الذي سيساهم في حصر الاحتياجات وتلبية الرغبات وأخذها بعين الاعتبار أثناء إعداد وتقديم الوجبات؛ حيث يمكن أن يؤدي تجاهل هذه العوامل إلى هدر الوجبات؛ نتيجة لعدم استساغتها أو قبولها او حتى قدرة الحاج على تناولها لأسباب صحية. من هنا، يصبح من الأهمية بمكان الاهتمام بتفضيلات الحجاج، وضمان تلبية احتياجاتهم الغذائية بشكل صحيح، وتحقيق رفاهيتهم التي هي الهدف الأساسي لبرنامج خدمة ضيوف الحرمين أحد أهم برامج رؤية المملكة ٢٠٣٠. لذلك فإن التحسين والتطوير في طرق احتساب وإعداد وتقديم وجبات الحجاج؛ لتحقيق رؤية جديدة ومستدامة لخدمات الإعاشة خلال فترة الحج، تجمع بين الكرم السعودي وتوجيه الجهود نحو تقديم خدمات غذائية مميزة، تُلبي تطلعات الحجاج بدقة وفعالية تُعتبر مطلبًا هامًا ومُلحًا. لكي نتمكن من إعادة تعريف طرق تطبيق الكرم السعودي فيما يخص خدمات الإعاشة، ليصبح بدلًا من ” يزيد ولا ينقص” إلى “لجل عين تكرم مدينة” مدينة كاملة تتسابق في إكرام الحاج ووجبة الحاج نوعًا وكمًا ومذاقًا واستدامةً وحفظًا للنعمة وأقل هدرًا.
– أستاذ مساعد التغذية والعلوم النفسية
جامعة الملك عبد العزيز