“يخبرنا التاريخ أن التَّنوع بين الأديان والمُعتقدات ساهم بشكلٍ كبير في النضال من أجل حقوق الإنسان والتعايش السلمي وعززه، فمُعظم الأديان تنصّ على أن جميع الأفراد متساوون ويجب أن يتمتعوا بحقوق وفرص متساوية، إلا أن مبدأ المساواة لا يتطلب أن يكون الجميع نسخًا من بعضهم البعض؛ بل يدعو إلى الوحدة مع التنوع؛ لذا، حتى نجد المساواة الحقيقية ونتعايش سلميًا، يجب علينا احترام حقنا المطلق في أن نكون مُختلفين”. [ أداما ديانج، نائب الأمين العام للأمم المتحدة].
إن الدين، وهو قديم قدم الإنسانية، سِمة عالمية للوجود البشري ومن الظواهر المتنوعة والمعقَّدة الرائعة في تاريخ البشرية، وقد سلط تدنيس نسخة من المصحف في السويد وظهور تهديدات مماثلة لحرق التوراة والإنجيل، الضوء على الحساسيات المرتبطة بالموضوع الذي يتطلب التأمل الدقيق لبناء الجسور بين أتباع الديانات والمعتقدات المختلفة لتعزيز التفاهم المتبادل واحترام التنوع. ويجب علينا الآن أكثر من أي وقت مضى: الاستجابة لدعوات الوحدة والاحترام المتبادل؛ واستلهام سُبل العيش بعمق وسخاء في تفكيرنا وأفعالنا تجاه الآخرين؛ ووضع إطار معياري لاحتضان مختلف الأديان بشكل شامل، وفهم أهمية التعلم من العناصر الأفضل في تقاليد بعضنا.
جادَل صموئيل هنتنغتون، وهو عالم سياسي أمريكي، بأن “صراع الحضارات” سوف يُهيمن على السياسة العالمية وأن الهويات الثقافية والدينية ستكون المصدر الأساسي للصراعات في الدول القومية بعد الحرب الباردة، ومع ذلك فشلت النظرية التي ذاعت وانتشرت في الإقرار بأن جذور معظم الصراعات سياسية واقتصادية وليست دينية أو ثقافية، كما أغفلت أن الاتصالات وما يترتب على ذلك من تماهٍ بين الحضارات المختلفة ما هي إلا ديناميكيات مهمة لتقدم الحضارات الإنسانية. فقد كانت النهضة الأوروبية مستوحاة من الثقافات الوطنية الأخرى، بما في ذلك التقاليد العلمية، والتفكير، وقيم المنطق، والاستدلال من الحضارة الإسلامية. فالحضارات الحية المؤثرة هي التي لا تنغلق على نفسـها، وإنما تنفتح لتثري تجربتها برصيد غيرها، لذا فإن التلاقح الثقافي والحضاري يُعد ظاهرة صحية إذا مـا تمـت فـي ظروف فيها من التكافؤ والثقة بالنفس ما يجعل عملية الأخذ مـن الآخـر لا تحصل في إطار الاستلاب وفقدان الهوية، وإنما تكون من منطلـق الإثـراء والبحث عن الحكمة، التي هي ضالة الإنسان الذكي أنّى وجدها اعتبر نفسـه أحق الناس بها.
وفي عالم اليوم المتكامل، تتفاعل الثقافات باستمرار وتؤثر على بعضها، ولا يكاد أي مجتمع يكون متجانسًا ثقافيًا بشكل كامل؛ بل توجد اختلافات وخلافات واضحة تستمر في تعزيز هويات محددة، ولكن رغم وجود هذه الاختلافات الاجتماعية والثقافية والدينية، فقد أدى التأثير المتجانس للعولمة إلى ظهور قيم إنسانية ثقافية وأخلاقية مشتركة وصياغة ثقافة عالمية لقيم حقوق الإنسان تقرّب الناس، وتزيل الممارسات التقليدية الضارة من أجل الصالح العام للبشرية. ومن ثم، فإن احترام التنوع الثقافي والديني يُمثل احترامًا للقيم الإنسانية المشتركة التي تُشكل حجر الأساس لعالمية حقوق الإنسان والحُرّيات الأساسية المعلنة في صكوك حقوق الإنسان المعترف بها عالميًا.
ويُعدّ التسامح والتعايش السلمي من المبادئ الأساسية لتعزيز العلاقات المُتناغمة على اعتبارها مكونات أساسية ومهمة لبناء مجتمعات شاملة ولتعزيز احترام حقوق الإنسان وكرامته؛ حيث تسعى إلى سد فجوة الانقسامات، وبناء أرضية مشتركة، ومعالجة التحديات العالمية؛ لِما تضطلع به من أدوار حيوية في خلق مجتمع عالمي أكثر تسامحًا وشمولية وسلمية يُقدِّر وجهات النظر المتنوعة ويحدد الأهداف المُشتركة، ويسعى لتحقيقها بشكل جماعي. وقد جاءت وثيقة مكة المكرمة شاملة لمجالات متعددة ومتكاملة تمحورت حول سعادة الإنسان واحترام كرامته، حيث خصصت لموضوع الحقوق 17 بندًا كانت حول الحق في المساواة في الإنسانية ورفض العنصرية، والحق في الاختلاف العقدي والثقافي والفكري، والحق في التنوع الديني والثقافي في المجتمعات الإنسانية، وحق الآخر في الوجود وفي الاعتراف به.
إنَّ ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ودستور اليونسكو وإعلان وبرنامج عمل فيينا عام (1993) بمثابة وثائق تأسيسية رئيسية تعزز التسامح والتعايش السلمي، وقد أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها رقم 72/130 الصادر في عام (2018)، قرارًا بإعلان يوم 16 مايو يومًا عالميًا للعيش معًا في سلام، مؤكدة أن يومًا كهذا هو السبيل لتعبئة جهود المجتمع الدولي لتعزيز السلام والتسامح والتضامن والتفاهم والتكافل. وقد نص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 62/553 (2007) على “إعلان تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل بين الأديان والحضارات”، وفي الآونة الأخيرة وبنفس الروح، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 76/254 (2022) لإعلان يوم 15 مارس يومًا دوليًا لمكافحة الإسلاموفوبيا. وأيضًا في عام 2011 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 16/18 بشأن مكافحة التعصب، والقوالب النمطية السلبية، هذا إلى جانب خطة العمل المقدمة في عملية مسار اسطنبول، والتي تتحدث عن النقاش والحوار المفتوح بين الأديان كأحد الجوانب الرئيسية لبناء مجتمعات شاملة ومتسامحة .
ويؤكد التصور الإسلامي على سُنة التنوع والتعدد التي خلـق الله -عـز وجل- على أساسها جميع المخلوقات، مما يؤكد اطراد هذه السنة الإلهية في سائر المخلوقات التـي جعلـها مختلفة في أشكالها وألوانها ووظائفها، ولكنه الاختلاف الـذي يحكمه التناسق والتكامل: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا﴾ (سورة فاطر الآية 27). فالدين الإسلامي لا يحمل نظرة سلبية على ثقافات العالم، ويعتبر استمرارًا وتتويجًا منطقيًّا لجميع الديانات الإبراهيمية السابقة، ثم إن انتشار الإسلام يعكس قوة التكيف والتسامح لجميع الفضائل والممارسات التي كانت مفيدة للجنس البشري. كما في قوله تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (سورة البقرة الآية 256)، ومع الاحترام الكامل للقيم المفيدة للثقافات الأخرى، فإن الإسلام سعى إلى تغيير الممارسات التي تضر بالبشرية فقط. وبالتالي فإن التنوع الثقافي والديني يتم قبوله والترويج له على أنه “أمر إلهي” كما جاء بنص القرآن الكريم على أن الله خلق التنوع لنستفيد منه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (سورة النحل الآية 93).
كما أمر القرآن الكريم نبينا محمد ﷺ بالالتزام بالعادات السليمة للناس واعتبارها مرجعًا أساسيًا في التشريع: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (سورة الأعراف الآية 199). وللتعامل مع التعددية رسم القرآن الكريم طريق الحوار في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ (سورة آل عمران الآية 64). وقد غزا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) القدس ووقع معاهدة سلام مع صفرونيوس الكاهن المسيحي في القدس، وأكد على أن سكان المدينة المسيحيين واليهود يتلقون الحماية، ويسمح لهم بمواصلة ممارسة دينهم بحرية. وأصبحت القدس في ظل ما يقرب من 400 عام من الحكم الإسلامي، مركزًا للمعرفة والعبادة والتجارة. واتسمت بالتعايش السلمي والاحترام المتبادل والتفاهم بين الأديان الثلاثة.
ومن منظور منظمة التعاون الإسلامي والهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان؛ فإن منظمة التعاون الإسلامي تضمّ في عضويتها 57 دولة إسلامية من ثلاث قارات ذات ثقافات وعادات اجتماعية مختلفة، بما في ذلك الأقليات والمجموعات العرقية من جميع الأشكال والألوان. ولذلك، ظلت منظمة التعاون الإسلامي ملتزمة دائمًا بحماية التنوع الثقافي، وتعزيز الحوار والتنمية داخل المنظمة وخارجها. كما أن ميثاق منظمة التعاون الإسلامي يُلزم دولها الأعضاء بتعزيز السلم والأمن الدوليين والتفاهم والحوار بين الحضارات والثقافات والأديان، وتعزيز القيم الإسلامية النبيلة المتعلقة بالاعتدال والتسامح واحترام التنوع.
لقد كان الحوار بين الثقافات والأديان ذا أولوية هامة لدى منظمة التعاون الإسلامي بهدف تطوير ثقافة السلام والاعتدال بين الأمم والحضارات، ولا يزال تعزيز الوئام بين الأديان في صميم الدبلوماسية الثقافية لمنظمة التعاون الإسلامي، ويهدف برنامج عمل منظمة التعاون الإسلامي 2025 إلى : “إعادة تنشيط الحوار والوئام والاحترام المتبادل بين مختلف المدارس الفكرية والأديان والثقافات والحضارات، كما يطالب بصياغة نموذج جديد للتسامح بين الأديان والطوائف وداخل الطوائف لتعزيز التفاهم والاعتدال من خلال الحوار، كما شجع المبادرات التي قام بها مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز للحوار بين الأديان والثقافات (كايسيد)”، ويجب تنظيم مثل هذا الحوار وإجرائه بطريقة تصل إلى القاعدة الشعبية للمجتمع من أجل قبول أوسع وتأثير أعمق. وقد أقرَّ مجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في قراره رقم 42/ 49- س بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن “مبادرة العيش معًا في سلام وإعلان 16 مايو اليوم الدولي للعيش معًا في سلام”، ودعت الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، إلى جانب الأمانة العامة للمنظمة والهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان إلى الاحتفال بهذا اليوم كفرصة لترسيخ ثقافة العيش معًا في سلام. كما اعتمدت منظمة التعاون الإسلامي إعلان القاهرة لمنظمة التعاون الإسلامي بشأن حقوق الإنسان، والذي نص على أن تسعى الدول والمجتمعات على نشر وتعزيز مبادئ التسامح والعدالة والتعايش السلمي من بين المبادئ القيّمة والنبيلة الأخرى، كما أشار إلى أنّ حرية التعبير لا يجوز استخدامها لتحقير الأديان والأنبياء أو انتهاك قدسية الرموز الدينية أو تقويض القيم الأخلاقية والأدبية للمجتمع.
إنَّ الهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الانسان كأحد الأجهزة الرئيسية لمنظمة التعاون الإسلامي تلعب دورًا هامًا في تعزيز احترام الثقافة الإسلامية والقيم النبيلة، وتعزيز الحوار بين الحضارات بما يتفق مع ميثاق منظمة التعاون الإسلامي، وقد كلفت الدورة التاسعة والأربعون لمجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي الهيئة بعقد ندوة حوار حول التسامح والتعايش السلمي بين الأديان بموجب القرار 1/49، والتي عقدت في مارس 2023 بالتنسيق مع الأمانة العامة، كما تم اتخاذ نفس القرار في وقت سابق خلال الاجتماع التنسيقي السنوي الخامس لمؤسسات منظمة التعاون الإسلامي التابعة للأمانة العامة في 4-5 ديسمبر 2019. وبناءً على ذلك، فقد أقرت الهيئة بولايتها في دورتها العادية الحادية والعشرين التي عقدت في مايو 2023، وحددت مركز الملك عبد الله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات (كايسيد) كأحد الشركاء المحتملين لعقد فعالية دولية في موضوع الحوار؛ لتيسير وتسهيل عمل المناقشات المفتوحة من مختلف الخلفيات والمعتقدات والثقافات لتعزيز التفاهم المتبادل، وتبادل أفضل الممارسات والدروس المستفادة في قرارات حل النزاعات بالطرق السلمية، بهدف الاستعاضة عن العنف بالحوار والتفاوض البناءين، والتركيز على فضائل التسامح وغرسها على المستويات الشعبية؛ وذلك من خلال تطوير الحوار ما بين أصحاب المصلحة المعنيين ومنهم: السياسيون والمجتمع المدني ووسائل الإعلام، وقد يستلزم ذلك نشر وثيقة ختامية أو إعلان مع توصيات توضح الإستراتيجيات، وخطط العمل الوطنية التي تتضمن زيادة الوعي لاستيعاب مفهوم “المواطنة العالمية” مع المحافظة على القيم والمعتقدات الإسلامية.
-المدير التنفيذي لأمانة الهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان لمنظمة التعاون الإسلامي.