يحرص الجنرال عبد الفتاح البرهان على تلميع صورته وزهوها خارجيًا بالتماهي مع أجندات القوى العُظمى المهيمنة أكثر من حرصه على تنفيذ الأجندة الوطنية الملحة، وتلبية متطلبات تأمين البلاد وحمايتها من التدخلات الإقليمية والدولية السافرة، والمهددات الوجودية القائمة في ظروف الحرب التي أشعلتها ميليشيا الجنجويد المتمردة ضد الدولة، بدعم لوجيستي ومالي وسياسي وإعلامي من المحور الإقليمي الذي تتواطأ به بعض دول الجوار؛ لتوطين عرب الشتات بالساحل والصحراء الأفريقية، وتنصيبهم حكامًا على الخرطوم.
تعويل الجنرال البرهان الأكبر على المجتمع الدولي يتجلى في إدارته للحرب بسقوفات متدنية جدًا بعدم إعلان حالة الطوارئ في البلاد، والتسامح المفرط مع المؤيدين لتمرد الجنجويد، وتجده أكثر تمهلًا بشأن تشكيل حكومة طوارئ من كفاءات وطنية مستقلة تدير دولاب الدولة خلال فترة الحرب وتنعش مؤسساتها المتعطلة التي ظل أغلبها خارج نطاق الخدمة وبقي بعضها الآخر يعمل بنسبة أداء متدنٍ جدًا طوال أشهر، وكأنما يريد البرهان رهن البلاد ومعاش السودانيين لإرادته وتحت إدارة موظفيه مزدوجي الولاء بين الدولة والمتمردين، وقد تبيَّن ذلك من مناصرة بعض أعضاء مجلس السيادة الانتقالي وبعض الوزراء والولاة للمتمردين تحت مزاعم الحياد بين الجيش والجنجويد، وذلك قبل أن يقيلهم البرهان من مناصبهم بعد مضي أكثر من ستة أشهر على التمرد!
هناك خللٌ كبيرٌ في الأداء السياسي والاقتصادي والإعلامي والخدمي لحكومة تسيير الأعمال التي عينها البرهان من وكلاء الوزارات بعد 25 أكتوبر 2021م، وتعيين أمين عام مجلس الوزراء رئيسًا مكلفًا للوزراء، وبقي الشعب السوداني منتظرًا تعيين رئيسًا للحكومة منذ استقالة د. عبدالله حمدوك في 2 يناير 2022م، وأظهرت التكهنات الصحفية والترشيحات على وسائل التواصل الاجتماعي عددًا من الأسماء اللامعة من الخبراء والتكنوقراط أمثال: “د. كامل إدريس، د. هنود ابيا كدوف، د. مضوي الترابي، د. محمد حسين سليمان أبو صالح”، وغيرهم من الخبراء المشهود لهم بالكفاءة والخبرة؛ حيث قدم بعضهم مبادرات وطنية وخارطة طريق للخروج من الأزمة الراهنة ولكنها لم تحظَّ باهتمام البرهان قدر اهتمامه بالمؤشرات الخارجية التي تديرها واشنطن عبر أدواتها بالمنطقة، ولا سيما من أولئك النشطاء من السياسيين المتنقلين بين العواصم الأفريقية والعربية والأوروبية والمتبضعين لدى السفراء والمبعوثين الدوليين، كديدنهم في التنقل من سفارة لسفارة لحل أزمتهم الداخلية، وإعادتهم لكراسي سلطة لم يحافظوا عليها كالرجال فبكوا على زوالها كالنساء.
لقد انكشف ظهر المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، وتبيَّن للقاصي والداني ضعف وقلة حيلة تنسيقية القوى المدنية (تقدم) وهوان رئيسها د. عبدالله حمدوك على الناس، خاصة بعد أن خاب أملهم في رجوع أطراف التفاوض لمنبر جدة الذي عولوا عليه كثيرًا في فرض حلول تعيد عقارب الساعة لما قبل 15 أبريل 2023م، ويبدو أنهم يرمون بثقلهم خلف توسع ميليشيا الجنجويد في ولايات إقليم دارفور والإقليم الأوسط (مدني وسنار وسنجة) لعلها تثمر بالضغط لسوق الجيش نحو مفاوضات جدة، ولكن انتشار الجنجويد في أماكن جديدة يُعد خرقًا لاتفاق وقف إطلاق النار المؤقت والترتيبات الإنسانية الموقع بجدة في مايو 2023م، فضلًا عن جلبه المزيد من النكبات والإدانات الدولية للجنجويد.
ارتفعت معنويات الشعب بتحرير مبنى الإذاعة والتلفزيون وأجزاء واسعة من أم درمان، وكانت البشريات تتحدث عن قُرب استرداد مدينة ود مدني وولاية الجزيرة، ليتفاجأ السودانيون بانتقال المعارك لسنار وجبل موية التي انتهت بدخول ميليشيا الجنجويد لمدينة سنجة، ليستبين ضعف منظومة القيادة والسيطرة داخل الجيش، وعدم وجود تدابير دفاعية لعواصم الولايات التي تسقط الواحدة تلو الأخرى بيد ميليشيا الجنجويد، هذا بالإضافة لإخفاق الأجهزة الاستخباراتية في رصد حركة المتمردين، حيث غابت فجأة صور الأقمار الصناعية، وتوقفت حركة الطيران المسير المشهود لها بإحراز تقدم كبير في معارك أم درمان.
لن يتأتى للجنرال البرهان من إحراز تقدم كبير في الملفات العسكرية والإدارة السياسية تحت سقوفات ما يُسمى بالمجتمع الدولي، وبفريق عمله الحالي الذي أثبت ضيق أفقه السياسي وقصر قامته في إدارة الأزمات، وما لم يتغير هذا الطاقم بالكامل، سيظل الجنرال البرهان يراوح مكانه، وإن كان البطء والتردد والركون للتكتيك والمناورة والخشية من اتخاذ القرار في الوقت المناسب سمات شخصية لدى البرهان، عليه أن يترجّل ويرحل فورًا عن سدة القيادة، فلم يعد هو رجل هذه المرحلة.