كثيرًا ما نسمع مفهومًا قديمًا في علوم الإدارة بأن المدير المنتج المنجز الناجح هو الذي يمتلك شخصية قوية صارمة قاسية، ويحد من علاقاته مع موظفيه ويحرص على إقامة الحواجز بينه وبينهم، ولا يتحدث معهم إلا بلغة حادة، ولا يشعر بمشاعرهم ولا يقدر ظروفهم، وكل من لا يتصف بهذه الصفات لا يصلح للإدارة ولا للقيادة وهو شخصية ضعيفة وسيكون سببًا في انخفاض إنتاجية الموظفين وإهمالهم، وبالتالي انخفاض معدلات الإنتاج والإنجاز وخسارة الشركة أو المؤسسة التي يديرها ويقودها لكثير من الأموال. هذا ما كُنا نسمعه ويتردد على ألسنة بعض الناس في أحاديثهم وحواراتهم.
ولكي نُحلل هذا القول نحتاج أن نرجع إلى ذوي الاختصاص والخبرة ممن مارسوا الإدارة عمليَّا وإليكم هذه النظرية التي يقوم عليها كتاب الإدارة الأولية (Primal Leadership)، والتي تقول: “إن قادة الأعمال الذين يحتفظون بعواطفهم واتصالاتهم خارج نطاق العمل يقومون بذلك على حساب مصلحة مؤسساتهم”، وحسب وجهة نظر مؤلفي هذا الكتاب؛ فإن المهمة الأساسية لقائد أية مؤسسة هي مهمة عاطفية بالدرجة الأولى، ويؤكدون على أن القائد الذي يتمكن من إشراك العاملين معه، والوصول إليهم حماسيًا وانفعاليًا ينجز أكثر بكثير من غيره ممن لا يقومون بذلك.
وفي كتابه The People Principle ذكر “رون ولينجهام” بأنه “بعد رحلات مضنية عبر نظريات وممارسات إدارية متباينة مثل الإدارة بالأهداف وإدارة الجودة الشاملة والإنتاج اللحظي والتحسين المستمر لم يجد المديرون ورجال الأعمال بُدًا من العودة إلى المبدأ الأول وهو البشر أنفسهم؛ فأنت تستطيع أن تستأجر سواعد الأفراد وعقولهم لتصميم وتنفيذ العمليات لكنك لا تستطيع امتلاك قلوبهم”.
ويضيف المؤلف قوله: “من هنا يعود التحول من هندسة العمليات إلى قيادة السلوكيات أو هندسة العلاقات” انتهى كلامه.
هذا هو رأي أهل الاختصاص والخبرة وهو أمر طبيعي ومنطقي؛ فطبيعتنا البشرية جبلت وفطرت على الاستجابة والتفاعل مع كل من يُبادلك المشاعر والاحترام والتقدير، وكل من يتفاعل مع مشاعرك ويشعر بمعاناتك بل إن عطاء الموظف وإنتاجيته تزيد أكثر عندما يجد رئيس عمل يُبادله المشاعر ويقدر ظروفه؛ فالإنسان ليس آلة صماء تمنحك إنتاجًا وتستهلك عُمرها الافتراضي ثم تستبدلها.
وفي تراثنا ومبادئ ديننا الإسلامي شواهد على هذه المبادئ في إدارة الناس وقيادتهم تؤكد ذلك؛ ففي القرآن العظيم آية تصلح أن تكون نبراسًا لكل المديرين في إدارة موظفيهم وهي قوله تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران الآية 159).
فهذه الآية الكريمة علّمت نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم كيف يتعامل مع أتباعه وهو قائدهم ونبيهم، وتحثه على أن يكون رفيقًا بهم حليمًا عليهم لا فظًا عنيفًا؛ لأن ذلك يؤدي بهم إلى البُعد عنه وعدم الاستجابة له.
إن هذه ليست توجيهات لمدير دائرة أو رئيس شركة وإنما هي وصايا قرآنية ربانية لقائد أمة عظيمة، وهناك أمر آخر ورد في الآية الكريمة وهو العفو والصفح عن أخطاء الاتباع وعدم النظر إليها على أنها أمر دائم لا يتغيّر؛ فتذكير الناس دومًا بعيوبهم وأخطائهم ينفرهم ويقلل من إبداعاتهم، وتستمر الآية في إعطائنا نبراسًا آخر في إدارة الناس وهي مشاورتهم في الأمر فمتى ما أشرك القائد زملاءه وموظفيه في اتخاذ القرار وأعطاهم حرية التعبير عن آرائهم وأفكارهم؛ فإن ذلك يزيد من ولائهم له، ويرفع مستوى إنتاجيتهم وإبداعاتهم في العمل.
فلا أدري بعد ذلك لماذا نجد مديرين متجهمي الوجه عبوسين، يسيئون التعامل مع موظفيهم بالغلظة والفظاظة ويكلفونهم ما لايطيقون زعمًا وظنًا منهم أن ذلك تحليلًا لرواتبهم وزيادة في إنتاجيتهم.
عزيزي المدير.. إن أردت رفع إنتاجية موظفيك وزيادة حماسهم واهتمامهم وإبداعهم في العمل، وبالتالي زيادة إنتاج وإنجازات إدارتك وشركتك؛ فما عليك إلا أن تُفعل ذكاءك العاطفي، وتفتح قلبك ومشاعرك لموظفيك وتشيع أجواء الاحترام والتقدير في جنبات إدارتك ومؤسستك، وتهتم بمشاكلهم ومشاعرهم وتهندس علاقاتك الإنسانية معهم؛ فإن ذلك حتمًا سيجعلك تمتلك قلوبهم قبل عقولهم، وستكتشف كيف يبدع موظفوك فيمنحونك أفضل ما لديهم للإسهام في صنع النجاح والتميز لإدارتك وشركتك ومؤسستك.
جدة