المقالات

ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً… رسالة من القيادة السعودية إلى مسؤوليـن سودانيين يحملها مبعوث دبلوماسي رفيع المستوى

توطئة:
السَّلْمُ، السِّلْمُ لُغةً الإسلامُ والصُّلحُ والسلام وهو خلافُ الحرب، وفي العلاقات الدولية عرفَ فقهاء القانون الدولي السلام بأنه غياب الحرب ونشر الأمن والطمأنينة والهدوء والاستقرار للبشرية، وفي القرآن الكريم قوله تعالى: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (سورة الأنفال الآية 61).
البداية:
من هذا المدخل أستهلُ مقالتي، فَمعْ اقتراب مرور أكثر من خمسة عشر شهرًا لاندلاع الحرب التي تدور رُحاها منذ صبيحة 15 أبريل من العام الماضي في السودان بين القوات المسلحة السودانية وبين قوات الدعم السريع دون أن يتمكن أحد طرفيها من فرض سطوته وأهدافه المشروعة أو غير المشروعة على الطرف الآخر، وفي خِضم تلك الأحداث التي وصلت ضراوتها، وفي إطار الحراك السياسي لإنهاء الحرب في السودان أرسلت القيادة السعودية معالي المهندس وليد بن عبد الكريم الخريجي، نائب وزير الخارجية السعودي؛ ليلتقي بالفريق أوّل ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة في جمهورية السودان.
ونقل معاليه لفخامته خلال الاستقبال، تحيات مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وسيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظهما الله-.
وعبّر معاليه لفخامته عن حرص قيادة المملكة العربية السعودية -أيدها الله- على عودة الأمن والاستقرار للسودان، وعلى ما يتطلبه ذلك من تهدئة وتغليب للحكمة وضبط النفس، والحرص على استئناف مفاوضات جدة وإبداء المرونة والتجاوب مع المبادرات الإيجابية والإنسانية، موضحًا لفخامته ترحيب المملكة ودعمها لجميع الجهود الأممية والدولية الهادفة إلى تحقيق وقف دائم لإطلاق النار، وللجهود الإنسانية الرامية إلى تخفيف معاناة الشعب السوداني الشقيق، والتي من شأن تضافرها الدفع نحو استكمال ما تم التوصل إليه في مفاوضات جدة ١ وجدة ٢.
واستنادًا لما سبق ذكره ولا يدعْ مجالًا للشك أن الرسالة التي أُرسل بها الوفد الدبلوماسي إلى البرهان تحمل بين طياتها معانيً أخرى سامية، مضمونها أيها السودانيون قادةً وشعبًا ادخلوا في السلم كافة…لتنعم أوطانكم بالسلام.
بُعد تاريخي:
تعددت سُبل البحث عن السلام بين الدول لتحقيق الأمن والاستقرار لمواطنيها، وقد ظهر في ذلك اتجاهان دوليان، الأول: هو الدعوة المستمرة لخفض تسلح الدول الكبرى منعًا لنشوب الحرب، والثاني: هو الدعوة لإنشاء كيانات دولية ترعى الأمن والسلم وتحقق الأمن الجماعي لكافة الدول، وهو ما شهد تطورًا ملحوظًا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ويعتبر المكتب الدولي للسلام الواقع في سويسرا أقدم مؤسسة دولية للسلام، تأسس سنة (1891م) إثر مؤتمر السلام العالمي الثالث في روما، نشاطه الرئيسي كان المساعدة في حل النزاعات الدولية بطريقة سلمية بالتعاون مع بقية المؤسسات الدولية ذات الاهتمام المشترك، وقد لقي المكتب بعد الحرب العالمية الأولى والثانية ضربة موجعة لنشاطه مما أثّر في مجال أعماله وفي نفوذه، واليوم ينصب اهتمامه على منع التسلح والحد منه، ونشر الأمن الإنساني وثقافة السلام في العالم.
وقد أدى التطور في العلاقات بين الدول والحاجة إلى كيانات دولية أكثر تخصصًا إلى إنشاء منظمات دولية ذات طبيعة عالمية تختص بتنظيم العلاقات الدولية، وتعمل على إرساء مبدأ الأمن الجماعي وتنظيم مفاهيم السلام بين الدول، فكانت عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى 1920م، ومنظمة الأمم المتحدة 1945م، وتبعها العديد من المنظمات الدولية والإقليمية الهادفة لحفظ الأمن والسلم الدوليين.
وعلى الرغم من كثرة تلك المنظمات وتعدد مهامها ومساعيها في محاولة تحقيق أهدافها التي أُسست من أجلها إلا أننا نرى أن نتائجها لا تزال ضعيفةً وقليلة الجدوى.
وجدير بالذكر أن ألفريد نوبل (1833-1896) رجل الصناعة السويدي الجنسية كان يمتلك إمبراطورية صناعية في بلده وغير متزوج وليس له أولاد، أوصى بوقف تركته لإنشاء مؤسسة تُكافئ أولئك الذين تعود أعمالهم على البشرية بالنفع والخير والسلام، ومن أجل ذلك أوصى بإنشاء خمس جوائز تُوزع سنويًا في مجالات: (الكيمياء – الفيزياء – الطب – الأدب – السلام)، وجائزة السلام تكون للشخص صاحب التأثير الأكبر في التقارب بين الشعوب بنشر ثقافة السلام ونبذ العنف، وكذلك أولئك الذين يدعون إلى الحد من التسلح بصورة دائمة، وقد حصل المكتب الدولي للسلام على جائزة نوبل للسلام في عام 1910م، وكان مقره آنذاك مدينة جنيف.
المملكة تبحث عن السلام:
في ظل حالة التوتر والاضطراب التي تموج العالم اليوم واعتياد البشر على اللجوء إلى العنف لتسوية نزاعتهم المحلية ولا سيما الدولية، إلا أن هناك اعتقادًا راسخًا ومنهجًا ثابتًا لدى المملكة العربية السعودية في التأسيس لنشر ثقافة السلام والتصالح ونبذ كلٍّ من العنف والتحريض على التباغض، إقليميًا وعالميًا.
ونظرًا لمكانة المملكة العربية السعودية العالمية بين الدول والشعوب، فلقد كرّست المملكة جهودها لدعم قضايا السلم والأمن الدوليين من خلال الحث على الحوار الدبلوماسي بين الأطراف والعمل على إيقاف الحروب بينهم والحيلولة دون وقوعها، وذلك انطلاقًا من ثوابتها الدينية والحضارية والإنسانية التي تدعو إلى احترام ثقافة الحوار وتقبل الرأي والرأي الآخر، ومن مكانتها الروحانية عند المسلمين ممن يقصدون الحرمين الشريفين.
إن المباحثات التي أجراها الجانب الدبلوماسي السعودي في مدينة بورتسودان شرق السودان؛ لتؤكد للبرهان حرص القيادة السعودية بدعوة الشعب السوداني الشقيق بكافة فئاته وتوجهاته على استئناف مفاوضات جدة التي انطلقت في 6 مايو 2023م، لوقف الحرب بين الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع لَدليل عملي لإدراك المملكة العربية السعودية بعُمق الحاجة الماسة للصلح والإصلاح، ونشر روح السلام حقنًا للدماء ولمًا لشعث القلوب بين أبناء الوطن الواحد قبل أن تضع الحرب أوزارها، وتمزق ما بقي من النسيج المجتمعي في السودان.
إن العلاقات الثنائية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية السودان ذات طبيعة تاريخية تتسم بالتعاون والمصير المشترك وتبادل المصالح واستقرار وأمن البلدين، واستثمار الإمكانات والمقدرات البشرية والمادية لهما، وتؤكد توجيهات مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود و سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظهما الله- على تطوير وتوطيد تلك العلاقات في شتى المجالات، وتأتي توجيهات القيادة السعودية – أيدها الله- التي صدرت إبان الإعلان بوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، والتي تضمنت تقديم حزمة من المساعدات الإنسانية للمحافظة على الأرواح والممتلكات، تأكيدًا لدعم المملكة لكل ما يضمن للسودان تغليب المصالح الوطنية على الأهواء الشخصية بما يحقق أمنه واستقراره وسلامته سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
في الختام بقي أن أقول:
ألا تستحق المملكة العربية السعودية ويستحق قادتنا جائزة نوبل للسلام لدورهما الفعال في تصالح الشعوب ونشر ثقافة السلام والأمن الدوليين؛ أما آن الأوان أن يكون منبر جدة منظمة دولية فعالة لنشر الأمن والسلام الدوليين في العالم؛ ليحل محل منظمات دولية بائسة أبت أن تحقق السلام؛ وخاصة في وطننا العربي.
لذا وجب علينا أبناء المملكة العربية السعودية شيوخًا وشبابًا، رجالًا ونساءً، أن نفخر جميعًا بما تقوم به قيادتنا الحكيمة من نشر للسلم والأمن في العالم أجمع.
حفظ الله المملكة وقادتها وشعبها، وأدام عزها ومجدها ووحدتها، وجعلها ذخرًا للإسلام والمسلمين.
أستاذ القانون الدولي – جامعة جدة

د. محمد بن سليمان الأنصاري

أستاذ القانون الدولي - جامعة جدة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. من اجمل واروع ما قرأت كلام جميل ولبق يستحق الثناء عليه والله يعزك ويعز وطنا وينشر الأمن وسلامة في بلادنا وبلاد المسلمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى