إن للتربية أساليب مختلفة وطرق متعددة من دون تربية المنزل، والمدرسة، والفضاء الخارجي المفتوح مع أهميتها؛ وهي تلك التي تُسمى بالتربية الذاتية أو التلقائية للفرد، والتي فيها يربي الفرد نفسه بنفسه ويوجهها الوجهة السليمة بما يتوافق تمامًا مع الغاية التي من أجلها خلقه الله -سبحانه وتعالى- على هذه الأرض وصيره خليفة فيها.
يقال: إن في المدرسة يعلموك الدرس، ثم بعدها يختبرونك فيه، أما الحياة فإنها تختبرك ثم بعدها تُعلّمك الدرس، ولا شك أن التعليم ينشئ المرء لكن التجارب الحياتية هي التي تصقله، شخصيًا؛ استفدت من دروس الحياة ومن تجارب الآخرين الشيء الكثير ولله الحمد والمنة، في بداياتي وأنا في المرحلة الابتدائية مع والدي -رحمه الله-، مرورًا بتشرفي بالعمل في خدمة ضيوف الرحمن الذين جاؤوا لمكة المكرمة من مشارق الأرض ومغاربها بلهجاتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، لدرجة أني أجدتُ شيئًا من اللغة (الأوردية) وقليلًا من (الأندونيسية) وكثيرًا من (الهوساوية).
وحتى في ارتحالي في بعثة دراسية إلى بريطانيا لطلب العلم، طوال الرحلة كانت مقولة مؤسس علم الاجتماع وواضع أصول فلسفة التاريخ (ابن خلدون) دائمًا في مخيلتي؛ وهي أن الارتحال في طلب العلم إنما هو مزيد كمال في التعلم، وفي العمل الخاص بعد وفاة الوالد -رحمه الله- حين وجدتُ نفسي فجأة وحيدًا أمام مهمة رعاية والدتي وإخوتي وأخواني، والحفاظ على ممتلكاتهم والعمل على توسيعها وتنميتها، وأخيرًا في عملي الأكاديمي والإداري؛ قابلت أنواعًا وأصنافًا من البشر، وأدركت تمامًا أن فيهم الرخيص وكذا النفيس الغالي، ولا غرابة كذاك أمور الناس.
إن أكثر من نصف تربية الإنسان هي تربية تلقائية أو ذاتية، منها: القراءة، والتفكير، والتأمل والعبرة، والنظر مما يحصل للآخرين من تجارب، والمرور بمواقف الحياة المختلفة التي مروا بها بشرط الاستفادة منها؛ وأستشهد هنا بقول أحدهم: “تجارب الأولين مرآة للآخرين”.
إن كل الشعوب والأفراد تبني حضاراتها على تجارب الأولين، وحتى في الحياة العامة يستفيد الناس من تجارب بعضهم البعض؛ ليس من الحكمة ألا نستفيد من تجارب الآخرين، لأن فيها الكثير من الفوائد والعبر خاصة إذا نظرنا إليها بتمعّن وجدية، وتأملنا فحواها ومضامينها وفوائدها على المستوى العملي.
وأخيرًا؛ بالتأكيد لا تستطيع العائلة وحدها أن تصنع إنسانًا كاملًا دون أن يشارك هو نفسه في ذلك باستخدام أسلوب التربية الذاتية، التربية التي تتفق وأهدافه وتطلعاته في الحياة! هذا النوع من التربية الذي لا دخل لأحد به سوى الإنسان نفسه؛ مستعينًا بتجاربه الشخصية، واجتهاداته المعرفية، ومعاركه الفردية.
0