في عام 1974م. تقرر ابتعاثنا نحن خمسة زملاء إلى أمريكا….كانت أمريكا حلمًا يُداعب مخيلة كل ضابط بل كل مهتم بالتعلّم. وإن كانت بعض الأحلام تتفاوت وتختلف إلى حدٍ ما. كان الفرح يغمرني وأخيرًا سيتحقق الحلم السرمدي، وجاء وقت الوداع. والوداع مع من؟! مع ست الحبايب. أمي. ومن يستحق لقب أعز الحبايب غير الأم. وأمي لو أسميتها جبل الصبر لما تجاوزت الحقيقة أبدًا، ولو أنني قلت إن صدرها سعة البحر وسمو السماء؛ لكنت صادقًا وخاصة من منظور حياة كانت على قد الحال جعلتها بحنانها وإيثارها على ما قُسِمَ من أقل الممكن أن نعيشها بأدنى قدر من المعاناة. عشت سنين مع أمي ربما قاربت الأربعين عامًا لم أرها خلالها تذمرت مرة أو شكت رغم شظف العيش ومُره. كان أبي يسافر هنا وهناك في محاولات يائسة؛ لإيجاد ظروف أفضل لنا في حياتنا. وكان يضع في يدها بعض المال ربما لا يتجاوز في أحسن الأحوال الثلاثة أرقام، ويغيب حوالي الشهرين ويعود، وكان يحكي لي يقول: أمك هذه إنسانة عظيمة رغم كل الظروف والحاجة أول ما أرجع تسلمني معظم المبلغ الذي سلمته لها. إنها إنسانة رائعة صبورة وأمينة ومدبرة. أمي كانت كما يقول إخواننا المصريين تعمل من الفسيخ شربات. يعني أحيانًا من كسرات الخبز المتراكمة تعمل لنا منها فتة ولا أحلى منها. طيبة المذاق وإن ليس عليها سوى حبتين طماطم، وكم رأس بصل أشوف دموعها وهي تقطعهم وهي تعمل نفسها أنها تدندن بكلام شعبوي، وإن كنت لا أفهمه إما عن جهلي بمضمون الكلام أو الأغلب أنها لا تريدني أن أفهمه، والغاية أن دموعها فقط من البصل لا غير. لم أستطع أن أمر على كلمة أمي دون ذكر ومضة من ما قدمته لنا أنا وأخواتي. وكانت أمي تعاني من بعض الرعاش في اليد، وحاولنا علاجها لدى عدة أطباء لكن دون جدوى. رغم ذلك التعب كانت تقوم بشأنها دون مساعدة مهما نحاول ؛ فهي تود أن تشعر أو لأجل أن تشعرنا بأنه مهما كانت الظروف؛ فهي الكتف الحنون الذي نتكئ عليه وحتى وهي تعاني، وحان وقت الرحيل وأتيت لأودعها ولا أدري إلا وهي تنهار في نوبة بكاء. لم أرها تبكي في حياتي. ولعلها كانت تبكي في داخلها ونحن لا ندري. وجلست علي الأرض فانحنيت عليها فعانقتها وقلت يا أمي لا تبكين. أنا بطلت لم أعد راغبًا في السفر ووضعت الحقيبة جانبًا. فجففت دمعها وحلفتني بالله إني أسافر وقالت لن أكون راضية إذا لم تسافر فلا تحرمني من أن أراك تتقدم؛ فهذه أمنية حياتي. والأم يا ولدي لا تبكي من الحزن فقط إنها أيضًا تبكي إذا ما فرحت. علمت أنها تواسيني وتشجعني رحمها الله وجعل الفردوس الأعلي من الجنة مقامها. خرجت متجهًا إلى المطار، وأنا في نوبة بكاء حاد ومتواصل.. ووصلت إلى صالة السفر والزملاء هناك فلما رأوني قالوا ما بك قلت ألا تعلمون إننا مودعون الأهل. قالوا كلنا ذاك الرجل. رديت: نعم كلنا مسافرون ولكن ليس كلنا مفارقون. كانت الرحلة في رمضان بل أول يوم من أيامه. ونزلنا في لندن. ثم واصلنا إلى أمريكا. وفي واشنطن استقبلنا أحد الزملاء ممن سبقونا إلى أمريكا. كانت الاتصالات التليفونية صعبة جدًا. سواء من الناحية الدولية وفي كثير من الأحيان لم تكن الوالدة في مكان يتواجد فيه الهاتف. وكانت الرسائل لا تزال الوسيلة الأكثر تداولًا. كان لكي تصل الرسالة تحتاج إلى حوالي عشرة أيام.. يمر أسبوعان. فكنت أرسل في الأسبوع رسالتين حتى يأتيني الجواب بين حين وآخر، وكان السؤال الدائم هو كيف الوالدة. والجواب الحمدلله بخير . وحتى لا تملون نكمل في المقال القادم.
0