وضع سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة السلام- زوجته وابنه في وادٍ غير ذي زرعٍ ولا ضرع ولا ماء ولا زرع، ويدعو دعوته الواردة في القرآن الكريم إيمانًا منه أن الله لن يضيعهما.
فخرج الماء من تحت قدم سيدنا إسماعيل -عليه السلام-؛ ليعلن بداية حياة وتاريخ عظيم، وحيث الناس أهم ما يهمهم وجود الماء، بدأت تتقاطر إلى ذلك الوادي، ويتحوَّل إلى ملتقى بل إلى مهوى لكل الناس.
كثرت القبائل وتعاقبت حتى مجيء قريش وتواجدها بهذا الوادي كيف ما شاء الله، ولكن ظروف هذا المكان قاسية تسببت في جوع قريش وتعبها إلى درجة أن الأسرة التي تجوع تعزل نفسها؛ حتى تموت كي لا يراها الناس.
هنا جاء دور رجل ذو حكمة وبصيرة، وهو هاشم بن عبد مناف جد رسول الله محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- فرأى أن يحول حال أهل مكة إلى الأفضل؛ فعمل رحلة الشتاء والصيف؛ حيث كانت الأولى لليمن والحبشة والثانية للشام؛ فيحضرون من الشام الفواكه والحبوب كالبر وكثير من الأرزاق، ومن الحبشة واليمن القهوة والذرة والزبيب والملبوسات وغيرها الكثير وتباع، ويقسم ريعها على أهل مكة حتى أصبح غنيهم وفقيرهم سواء بل استمرّت حتى بعثة محمد بن عبدالله -عليه أفضل الصلاة والسلام- وما نحن في صدد إيراده هنا وفي هذه العجالة هو التقويم الذي كانت تستخدمه قريش في ذلك الوقت.
هل الصيف هو صيفنا اليوم الحار اللهاب والشتاء هو شتاؤنا البارد القارس؟
أجزم أن الوضع مختلف تمامًا.
التقاويم الفلكية الزراعية القديمة في الجزيرة عامة والغربية خاصة بل وفي بعض أفريقيا لها ترتيب ونسق خاص، وتعتمد على الشمس وحركتها الظاهريّة والنجوم ومطالعها، وتأثير ذلك على نمط حياتهم بل هم أي العرب من سخر الفلك لخدمته، وقضاء حاجته إلى درجة متابعة الأنجم مثل الثريا من مطلعها فجرًا حتى تهوي للغروب لتختفي أربعين يومًا ثم تشرق من جديد، وهنا قسم في ذلك (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) (سورة النجم الآية 1)، وحسب تفاسير أهل العلم هو نجم الثريا عند العرب.
وفصول السنة عند العرب وما زالت وقبل الطفرة العلمية الحديثة والقواعد الفلكية البينة، كانوا يقسمون السنة إلى خمسة فصول معلومة الأشهر:
١- فصل الربيع
أربعة أشهر باردة لكون الشمس خلالها تتعامد على مدار الجدي جنوبًا، وتأخذ هناك وقتًا أطول لأننا في شمال الكرة الأرضية.
٢- فصل القيظ
وهو شهران قمة الحرارة وخلاله تتعامد أشعة الشمس على مدار السرطان؛ وعلينا ونصبح في مقابلة الشمس رغم بُعدها عنا.
٣- فصل الخريف
شهران بعد حر القيظ وهو أيضًا حار بل شديد الحرارة في عودة الشمس جنوبًا، وهذه الحرارة تنضج ثمار الفواكه وتذهب الماء وتيبس الكلاء.
٤- فصل الصيف
شهران وهو معتدل بالنسبة لنا في الجزيرة العربية؛ لكون أشعة الشمس متعامدة على خط الاستواء وحوله أثناء رحلتها من الجنوب للشمال.
٥- فصل الشتاء
شهران معتدلان بالنسبة لنا هنا بمكة المكرمة والجزيرة العربية عامة؛ لكون أشعة الشمس متعامدة على خط الاستواء، وحوله في رحلة الشمس الثانية من الشمال إلى الجنوب.
إذن حسب هذا التقسيم فصلا الصيف والشتاء هما المعتدلان والأنسب للسفر؛ وخاصة أنهم على ظهور الإبل.
لماذ الأنسب؟
أ- اعتدال الجو
مما يسهل ويساعد على السفر برًا وفي صحاري شديدة الحر مقفرة الماء في فصل الصيف الحار على تقسيمنا اليوم، ويستحيل السفر في مثل هذه الظروف.
ب- مواعيد حصاد للحبوب والعسل والزبيب والصوف الحيواني والشعر وغيره؛ فلا حصاد في عز الحر أو البرد.
ج- في الشتاء تقل الأمطار على الحبشة واليمن؛ فلا خطر سيول تقطع الطريق بينما الصيف فيه بعض الأمطار توفر الماء عبر الطريق إلى الشام.
تساوي الليل والنهار خلال فصل الصيف والشتاء في التقسيم الزراعي؛ مما يعطي ميزة للسفر سواء بالليل أو النهار من ناحية الراحة والتركيب الفسيولوجي للإنسان ودوابه.
د- توفر الماء والكلأ لدوابهم لتقتات وقت الراحة أما أيام الصيف اللاهب لا يتوفر عاملا الماء والكلأ في رحلة الصيف اللهاب؛ لكون الطريق في الغالب صحراء ونفوذ لا ماء فيها ولا كلأ.
ه- في صيف مكة وقيظها تتوفر فواكه وبر وسمن منطقة الطائف، وهي بستان مكة ومصيفها.
و- أيام الشتاء البارد غير مناسبة للسفر لليمن لبرودة جوها بل تكون معتدلة مناسبة في الشتاء المعتدل الوارد في التقسيم الزراعي.
من خلال هذه العوال التقويم السائد عند قريش في ذلك الحقبة هو التقويم والفصول الزراعية القديمة، وهم في حاجتها.
1
طرح علمي دقيق ومفيد بارك الله فيك.