منتدى القصة

(روحٌ مبصرة) .. قصة قصيرة من وحي الحج

إنها الثالثة بعد ظهر اليوم الثاني عشر من ذي الحجة ثاني أيام التشريق، بدأ الحجاج المتعجلون ـونحن معهم أنا وأخي ــ في الاستعداد للانطلاق قاصدين رمي الجمرات، ومن ثم مغادرة (مشعر منى) إلى الحرم لأداء طواف الوداع.
كان يومًا جميلًا أغراً، معطراً بشذى الروحانية التي تفوح بالسكينة، يكاد قلبي يطير في أجواء من السعادة والحبور.
خرجنا من مخيمنا مع مجموعة من الحجيج باتجاه الجمرات، كنت أتأمل الطرقات والأماكن التي فاضت بهم، حيث كانوا يتنقلون ما بين منى والجمرات،شعوباً من دول مختلفة ولغات غريبة، ترتفع أصواتهم وأكفهم بالذكر و الدعاء، مشاعرُ إيمانية تلون الأماكن المقدسة ونحن نسير قاصدين وجهتنا.
حلقت روحي في عوالم من البهجة التي ترافق خطايَ إلى محطة القطار الذي سينقلنا إلى الجمرات، كنت منشرحة الصدر أتأمل جمال السماء، ولكن ما لبث الجو أن تغير وجهه، وتجمعت الغيوم بسرعة، ثم أخذت الريح تفرض نفسها. بدأ صوت الرعد يهز أطراف (منى) كلها، صار المطر يتساقط بشدة، ولحسن الحظ كانت معنا مظلة أحضرها أخي معه، إنكبت مظلتنا فوق رؤوسنا لتحمينا من تدافع قطرات المطر، حين كنا نسير باتجاه المحطة ترافقنا الحملة المسؤولة عنَّا، وقفنا هناك وبقينا منتظرين القطار ولكنه تأخر بسبب سوء الأحوال الجوية.
كنا مع مجموعة من الحجيج عندما لفت انتباهنا رجل وامرأة على مقربة منا يقفان في وسط المطر، وقد ابتلت ثيابهما تماماً، اتجهنا نحوهما و طلب أخي منهما أن يدخلا معنا تحت المظلة، تردد الرجل قليلاً ثم ما لبث أن وافق، طلبتُ من المرأة أن تقف إلى جواري ولكنها أثارت فضولي حين اكتفت بإبتسامة عريضة علت ثغرها وبوجه انبسطت أساريره، غير أنها لم تتحرك من مكانها، عندها قال الرجل: إن زوجتي لا تبصر. أصابني الذهول للحظات… فلم أكن أتوقع أن أرى شخصًا غير مبصر يؤدي مناسك الحج! لكني انتبهت بسرعة، ثم همست لها بأن تقترب مني حتى تتقي غزارة المطر، التصق كتفها بكتفي وعيناها المكفوفتان تشع ببريق الارتياح والرضا.
اجتمعنا تحت المظلة التي بالكاد تغطي رؤوسنا، كان الرجل يتحدث مع أخي بكل ودّ، أما أنا فرُحتُ أتأمل وجه المرأة الهادئ التي جاءت للحج وهي لاتبصر، صرتُ أنظر إليها و أنا أحدث نفسي… تعرف أنها لن ترَى منى ولا عرفات بل لن ترى الكعبة ولا أي مكان من المشاعر المقدسة، ومع ذلك جاءت لأداء فريضة الحج! لم يكن العمى عائقاً لها، إنها تبصر بقلبها وروحها التي حملتها إلى هنا رغم كل الصعاب التي قد تواجهها، لقد عرفت يقيناً معنى قول الرسول ﷺ: (الحج المبرور ليس له جزاء إلَّا الجنة).
استدارت إلي رفيقتي المبصرة، ثم راحت تصف لي مشاعرها منذ رحلة خروجها وزوجها من ديارهما إلى أن بلغا الديار المقدسة،كانت تتحدث بكلمات تشع بهجة تغمرها فرحة أعجز عن اختيار الكلمات لوصفها. فقد سرت كلماتها في أوصالي كلها.
بدأت قطرات المطر تتلاشى، وصار الهواء البارد يتلاعب بأطراف ثيابي وغطاء رأسي، بينما الماء يقطر منهما، مرت علينا ساعة، كل دقيقة منها تساوي عمراً، قطع جمال هذه اللحظات هديرُ القطار مسرعاً ليتوقف أمامنا، عندها أمسكت يدي بكلتا يديها مودعة ايايَّ، انسكبت كلمات الشكر من المرأة وزوجها، ثم استقلا القطار،بعدها صعدت أنا وأخي حيث أخذت مقعدي إلى جوار النافذة أتأمل أثر هذا اللقاء على قلبي، إنَّ الحج ليس بالجسم فقط، وليس بالسمع والبصر، وإنما بإيمان سرى بداخل الروح حتى تذوقته الجوارح.

تعليق واحد

  1. رائعة..حكاية من وحي مشاعر وأحاسيس إنسانية دافئه مخلوطة تولدت من لحظات ومشاعر وأحاسيس إيمانية مكتوبة بمداد حي يكاد يضيء..انها درس من دروس الحياه..تحكيها كلمات جعلت المعالجة البسيطة والمباشرة منها أرضا خصبة لعمل قصصي لم تتوقف عنده كاتبته كثيرا..تحياتى لشخصكم النبيل والكاتبة المحترمة..✋

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com