في واشنطن افتقدت الوالدة وبقية الأهل والأصدقاء والوطن.. بكيت بيني وبين نفسي كثيرًا. أعاتبها كل ما هَمي الدمع … لماذا سافرت؟ لما لم تبقَ!! هل أنت ممن يدندنون على وقع الألم وإلا ستفضحك ملامح؟ كنت أختزن كل تلك الأفكار وما أحسه في صدري من شجون وأنا في حضرة الناس، وعندما أخلو مع نفسي أقول (آن لأبي حنيفة) أن يسح دمعه كيف يشاء، وأصبحت أعد المتبقي من الوقت للعودة بالتفصيل الممل.
كان الزملاء يمازحونني شبه يومي كم باقي للعودة فأخبرهم بالأشهر والأيام والساعات والدقائق… كانت الاتصالات صعبة وبحكم أنه لا يوجد في بيتنا هاتف؛ فكنت أرسل رسالة أحدد فيها وقتًا بعينه قد يكون بعد عشرة أيام لكي تتواجد الوالدة في منزل صهري الذي يوجد عندهم هاتف. تحضير وبرنامج وخطط لكي أحظى باتصال ..مع شويتين صوت ملعلع حتى نسمع بعضنا. . كم نحن محظوظون الآن.. كان علينا تجاوز خمسة فصول لتعلم اللغة الإنجليزية كل منها 8 أسابيع. وكان الفصل 3 هو الأصعب. فكل النحو يتركز فيه وتجاوزته وصعدت إلى المستوى الرابع، وكنت الوحيد الذي تجاوز ذلك الفصل. ولكن بقيت لدي مادة التعبير راوحت فيها في الثالث. وكان النظام لكي تنتقل إلى المستوى الخامس والأخير لا بد أن تنجح في كل المواد. فأصبح منطقيًا من الصعب أن أصل إلى المستوى الخامس. فكنت أدرس كل المواد في الرابع ما عدا التعبير في الصف الثالث. وحان وقت الاختبار وأنا حسب المعطيات يائس من الصعود للخامس. فكرت وقلت فلأعطهم درسًا عن مقدرتي كتسجيل موقف لا أكثر.
ذهبت إلى السفارة، وطلبت كتيبات عن الوطن وثقافته بالإنجليزية. ووضعت في ذهني أن أجعل مقالي عن الأمثال العربية وترجمتها إلى الإنجليزية؛ لأنه موضوع مستجد عليهم وثري وجاذب.. وعكفت على تجهيز ذلك أيامًا ثم قدمت بحثي.
انتهى الامتحان وذهبنا في رحلة مع الفصل الدراسي، ورجعنا وقد علقوا النتائج على الحائط. راجعتها فوجدت أني ناجح في كل المواد إلى الصف الخامس. وذهبت إلى المديرة وقلت أنتم أخطأتم فأنا في التعبير مفروض أكون في الصف الرابع. فقالت لا أنت أبدعت في موضوعك فقفزناك فصلين. فرحت وعجبت لأناس لا واسطة وإلا الذي منه ويجدون لك الأسباب والحوافز.
أكملت الخامس ونلت شهادة الإتمام. وكانت هناك إجازة لمدة شهر، ومن ثم تبدأ دورة العلوم البوليسية. وراجعت المديرة وقلت لها لا أريد الإجازة. أتمنى أن أنخرط في مجهود علمي يفيدني لو وُجد. فقالت غدًا تراجعني وغدًا قالت لي هناك دورة في كيفية أصول التدريس للمعلمين. في قاعدة فرجينيا البحرية ولكن ليس هناك خروج ولا( weekend). فوافقت ودرست لمدة شهر في محيط عسكري صرف. واستفدت كثيرًا، ونلت شهادة بذلك. ثم أكملت فصل العلوم البوليسية. وجرى حفل التخرج لنا وكانت تلك من أعظم لحظات الفرح، ويعلم الله أنها ليست للتخرج وإن كان سببًا مشروعًا بل ومطلوبًا، ولكن لأني سأعود للوطن وألتقي ست الحبايب.
عدت إلى جدة، وكان اللقاء حميمًا لا تزال تلك المشاعر حاضرة في وجداني؛ فأنا أتذكرها وتعيش معي ولن تغادرني رغم كل إرهاصات الحياة وما مر وما سيمر. لقاءً حضرت فيه الدموع أكثر من الابتسامات. الدموع النقية التلقائية التي أكاد أقول إنها من صدقها حلوة؛ فتلك الدموع لا تعرف الملوحة مطلقًا. كان هدفي الذي لم ينفك عن تفكيري هو البحث عن علاج للوالدة. فراسلت هنا وهناك حتي قيل لي إن في القاهرة “طبيب أعصاب بارع” قلت لها سنسافر للعلاج فتمنعت وقالت: يا ولدي تعبنا ولم يرد الله. وأنا مكتفية والحمدلله. فقلت ونعم بالله. ولكن علينا السعي. وذهبنا إلى طبيب في مكان بسيط، ولكنه يعج بالمراجعين وجدته طبيبًا مسنًا ربما قارب السبعين من عمره. بعد الكشف وصف لها علاجًا بسيطًا. لا يتجاوز حبة واحدة من نوع ونصف حبة من نوع آخر يوميًا. صدق من قال الدهن في العتاقي؛ فالعلم وحده عنصر، ولكن يحتاج إلى فكر ومتابعة المستجدات وخبرات تأتي من الاستمرارية والاستفادة من التجارب، وبعد العلاج أصبحت الوالدة تتمكن من القيام باحتياجاتها وصلواتها بكل راحة. واختفى الرعاش من يديها، ومن فضل ربي فقد كنت وجلًا أن أعود وأجد واقعًا أليمًا فأكرمني الله أن أتمتع بوجودها معنا حوالي عقدين من الزمن، تمنيت أن تطول فقد كانت مثل سحابة صيف في عز الظمأ طلت على استحياء ومضت.
ماذا أقول عن أمي…يعجز الفكر قبل القلم عن وصف ما قدمته لنا… من لقمة تركتها في الصحن وكأنها قد شبعت وتذهب لغسل يديها لتتيح لنا تناولها بكرامة. وإلى حمل همومنا مهما ثقلت وترسم خلالها ابتسامة لكي تروّح عنا وفي صدرها عشرات الآهات وفي عينيها خفي العبرات.
من له أم تكفي ترى الحياة تجري سراعًا …سكنها في قلبك وأحضنها في صدرك وضعها على رأسك. وياليت … تكون وفيت..
توفت الوالدة بكل هدوء وسكينة حتى في رحيلها كانت مثل النسيم إذا عبر. الفقد صعب ولكن هكذا هي سنة الحياة. عذرًا على الإطالة.. حفظكم الله ومن تحبون.