إن الفكر البشري بحر فياض؛ ولن ينضب معينه طالما كانت الحياة مستمرة، وهذا أمر طبيعي ومنطقي، لأن تجارب الإنسان ما زالت مستمرة، وتجاربه هي مصدر تقويم وتوجيه من جيل إلى جيل.
لقد أشرت غير مرة عن أهمية أساتذة الجامعات المتميزين منهم على وجه التحديد، وعدم التفريط فيهم بحجة بلوغهم سن التقاعد، ما داموا قادرين على العطاء، وذكرت الكثير من الأمثلة لأساتذة بلغوا سنًا متقدمة في جامعات عريقة، وهم لا يزالون يقومون بالتدريس والإشراف، ولهم نتاجهم العلمي المتميز، ويقومون بنقل خبراتهم البحثية والأكاديمية لزملائهم حديثي التخرج، ووصفت هذه العملية، بأنها تجريف للجامعات من الكفاءات، وتحويلها إلى مدارس ثانوية.
في العادة يتم تقاعد أساتذة الجامعات في سن الستين عامًا، وبعدها يتم تمديد الخدمة لسنتين، تتبعها أخرى، ثم سنة أخيرة، وعندها يكون قد بلغ سن الخامسة والستين، وتأتي بعدها عملية التعاقد.
كل ذلك يتم وفق إجراءات وشروط منها ندرة التخصص، والاحتياج، والإنتاج العلمي، ويكون عن طريق مجلسي القسم والكلية، على الرغم من أن عضو هيئة التدريس المتعاقد تكون إجراءات التمديد له أسهل بكثير من زميله (السعودي)، حتى إن اشتراط وجود كشف طبي لم يطبق على المتعاقدين إلا حديثًا.
البقاء يجب أن يكون للعطاء؛ فمنذ أكثر من ألفي عام قال الشاعر الروماني “جوفينال”: “إن العقل السليم في الجسم السليم”، ولكن قراءة حياة بعض الأساتذة والعلماء قد تخالف هذه المقولة، فالكثير منهم لم يكونوا بأجساد معافاة تمامًا، وعلى مر التاريخ البشري لم تكن الإعاقة الجسدية عائقًا دون التميز والإبداع.
إن هناك الكثير من العلماء وأساتذة الجامعات ممن أصيبوا بأنواع من الإعاقات، ولكنهم واصلوا العمل الأكاديمي، ووضعوا بصمتهم في مسيرة الفكر والمعرفة.
فهذا المهندس الكهربائي (توماس أديسون) صاحب أكثر من 1000 براءة اختراع، من بينها المصباح الكهربائي، كان يُعاني من الصمم في واحدة من أذنيه وبالكاد يسمع بالثانية.
وهذا البروفيسور (جون جوديناف)، عالم الكيمياء، عمل في جامعة (أكسفورد)، ومعهد (ماساتشوستس للتكنولوجيا)، وأخيرًا في جامعة (تكساس)، حصل على جائزة نوبل في الكيمياء، وهو في سن الخامسة والتسعين.
عالم الأحياء الجزئية الإنجليزي (جون كندرو)، عمل في جامعة (أكسفورد) حتى وفاته وهو في سن الثمانين من العمر، من أهم إنجازاته الحصول على جائزة نوبل في الكيمياء.
عالم الرياضيات الأمريكي (جون ناش) الأستاذ في معهد (ماساتشوستس للتكنولوجيا) الذي تغلب على مرضه العقلي وتمكن من الوصول إلى العديد من النتائج البحثية التي جعلته واحدًا من عباقرة علم الرياضيات في العالم، ليستحق بجدارة الحصول على جائزة نوبل.
هذه كلها نماذج واقعية من الأساتذة، الذين تقدموا في السن ولم يكونوا بأجساد معافاة تمامًا، وكان لعلمهم وأبحاثهم واكتشافاتهم الأثر الكبير في تقدم البشرية خطوات إلى الأمام.
وأختم مقتبسًا:
(إن التغيُّر الإيجابي في التعليم العالي في دولة “بروناي” إحدى دول مجموعة الآسيان، قد تم إنجازه بسواعد أكاديمية من أساتذة الجامعات الماليزية الذين تجاوزوا سن التقاعد)، والكلام لوزير التعليم العالي الماليزي البروفيسور (زيني أوجانج).
مقال “اساتذة الجامعات..البقاء للعطاء” يحمل رؤية ثاقبة لخبيرٍ في العمل الجامعي أستاذاً وباحثاً وقائداً يحذّر من خطورة هدر الكفاءات العلمية الجامعية مع قدرتها على العطاء؛ هواجس وتوصيات تُهدى مع التحية لمن يهمه الأمر لعل آلية للحد من ذلك الهدر ترى النور.