في رائعته الأدبية (اللحظة الراهنة) يبدع الروائي الفرنسي (غيوم ميسو) بتصوير حوار دار بين الأب (فرانك) وابنه (آرثر)، حيث كان آرثر طفلًا في الخامسة من عمره يجلس على الطابق الثاني من سريره الذي يتشاركه مع أخيه، حينما أقبل عليه والده فرانك، وطلب منه أن يقفز من على سريره ليتلقفه بذراعيه. وعندما اندفع آرثر مبددًا مخاوفه ومستعينًا بثقة الابن الفطرية بوالده وقفز باتجاه والده، تفاجأ بتراجع والده خطوة للخلف؛ ليتركه يسقط على وجهه سقطة عنيفة أثارت فيه شعورًا مختلطًا بين ألم السقوط، والخيبة وتزعزُع الثقة. وأثناء حالة الذهول التي انتابت آرثر قال له والده:
“عليك ألا تثق بأحد في الحياة. هل تفهم يا آرثر؟” “ولا أحد! ولا حتى بأبيك نفسه!”.
لقد كان تصرف (فرانك) قاسيًّا جدًا، ويبدو أنه عاش واختبر خيبات مروعة هزت كيانه وجعلته يستصغر الألم والخيبة اللذين ألحقهما بطفله الصغير في مقابل الدرس العظيم الذي يظن أنه سيعلمه إياه! لكن الآن، دعونا من العالم الخيالي الذي نسجه (ميسو) في روايته، ولنتحدث عن عالمنا وواقعنا الاجتماعي. قد لا يصل الأمر لنفس الصلافة والخشونة التي وصل لها فرانك، لكن بالتأكيد هناك الكثير ممن يشاركونه نفس النظرة التشاؤمية للواقع ويقدمون نفس النصيحة بصفتهم آباء، أو معلمين، أو أصدقاء، أو غيرهم. وقد نسمع المضمون ذاته لنصيحة فرانك، ولكن بأشكال وتعابير مختلفة من قبيل: (ماعاد في وفاء في هالعالم) (العلاقات بس مصالح ما في شي اسمه صداقة) (الكون كله شر والخير والطيبة مجرد شعارات مثالية)، وتأتي هذه النصائح نتيجة تجارب وخبرات في الحياة أدت إلى تكوّن نظرة سلبية وتشاؤمية عن الحياة والناس، وبرغم قصور هذه التجربة ومحدوديتها إلا أنها تركت أثرًا عميقًا على صاحبها من الناحية العاطفية والسيكولوجية وصولًا إلى التأثير في السلوك وطريقة التفاعل مع الآخرين. وأعني بقصور ومحدودية التجربة أنها مجرد حكم ذاتي غير صالح للتعميم، إذ لا يعقل أن تحكم على جميع الناس بأنهم غير جديرين بالثقة فقط لأن صديقك المقرب خذلك في موقف ما، بل إن الكثير من المواقف من هذه الشاكلة قد لا تصلح حتى للحكم على الفرد المتهم نفسه فضلًا عمن سواه!
على أية حال، يبدو جليًا أننا كأفراد وبرغم كل ما تعلمناه عن الموضوعية والمنطق في هذا العصر المفعم بالمعرفة والمدجج بالمعلومات، إلا أنه لا يزال الكثير منا – إن لم يكن الأكثر – يتعاملون مع الحياة من منطلق معتقدات وفلسفات مبنية على تجاربهم الذاتية، ومدعمة بخبرات الأشخاص المقربين منهم ونصائح مجموعاتهم المرجعية التي لامست وجدانهم بعمق وتركت أثرها البالغ عليهم، وعلى كيفية تعاملهم مع بيئاتهم الاجتماعية. وبالتالي فإن فردًا قد يُسيء التصرف في موقف ما، فيتسبب في حالة شلل تامة لكل دوافع التفاؤل والبهجة لدى الشخص الآخر، ولن يقف الأمر عند هذا الحد!
يعيش الإنسان ضمن شبكات اجتماعية مترابطة يؤثر ويتأثر داخل نطاقها الشاسع ويشغل في المعتاد عدة أدوار كدور الأب، وزميل العمل، والمدير، والصديق لدرجة أن تفاعلاته اليومية غير المقصودة قد يكون لها أثر كبير على امتداد هائل ربما لا يمكننا استيعابه. وعندما ينقل تجاربه وخبراته ضمن هذه الشبكة؛ فإنه يمرر آثارها من خلاله ويفسح لها المجال لتتعدى نطاقه كمتلقٍ أساسي للتجربة السلبية والقراءة التشاؤمية للعالم إلى ما شاء الله من المساحة الممتدة لشبكة العلاقات الاجتماعية. ونتوقع نسبة أكبر من التأثير عندما ينقل الشخص نتائج التجربة لمن هم داخل النطاق الأساسي لتأثيره؛ كأولاده أو طلابه، أو لمتابعيه وجمهوره في حال كان مشهورًا أو مؤثرًا على مواقع التواصل الاجتماعي. ومن هنا ندرك أن التفاعل الاجتماعي في أصغر مستوياته قد يُحدِث أثرًا هائلًا على امتداد اجتماعي واسع، ويسهم في تشكيل أو إعادة تشكيل المعتقدات والأفكار العامة، وهو ما يتفق مع الإطار التفاعلي الرمزي في علم الاجتماع؛ إذ يؤكد هذا الإطار التفسيري على أهمية التفاعل الاجتماعي في المستويات الصغرى ودوره الفعال في نسج ثقافة المجتمع، وما تتضمنه من عادات وتقاليد، وتشكيل المعتقدات وصياغة القيم ومعاييرها التطبيقية.
وبناءً على ما سبق، يمكننا أن نستخلص ثلاث فوائد أساسية؛ تتعلق أولاها بالفرد كمرسل للخطاب أو الفعل، أما الثانية فتخص المتلقي، في حين تُعنى الثالثة بناقل التجربة. أو قل: هي فوائد لكل فرد منا في هذه الحالات الثلاث؛ إذ إن كل فرد منا يكون هو نفسه متنقلًا بين صفة المرسل الأصيل، والمتلقي، والناقل. وتتمثل الفائدة الأولى في ضرورة التقييم الجاد لأفعالنا وآثارها المحتملة على الآخرين؛ فضلًا عن مراعاة صحتها في المقام الأول. فقد يستحقر أحدهم مخالفة أخلاقية يرتكبها في بيئة العمل تتمثل في ظلم شخص آخر، وهو فعل خاطئ ومحرم شرعًا ونظامًا، ولا ينبغي فعله على أي حال. لكن إدراك الأثر التدميري واسع النطاق الذي قد يؤدي له هذا الفعل ربما يزيد من تفعيل خاصية الردع الذاتي، ويعلي صوت الواعظ الداخلي في نفس الإنسان فينزجر عن هذا الفعل، ويتجنب توريط نفسه في منزلق كهذا.
أما الفائدة الثانية، فتكمن في مسؤولية المتلقي تجاه ذاته والآخرين من حوله عندما يقوم بمعالجة وتفسير المدخلات من الخبرات والتجارب المختلفة التي تصادفه في حياته؛ إذ إنه مسؤول عن تفسيرها بالطريقة الصحيحة، ووضعها في سياقها المناسب وبحجمها الأقرب للواقعية. وهنا سيلعب المستوى العقلي والعلمي للمتلقي دورًا فاعلًا في أداء هذه المهمة على الوجه الذي ينبغي. فعندما تساعد زملاءك في العمل في عدة مواقف لكن ثلاثة منهم يعتذرون عن مساعدتك في وقت احتياجك لهم لاحقًّا، فإن عليك النظر أولًا في أعذارهم المقدمة إذ قد تكون صحيحة وواقعية جدًا، وثانيًّا: وعلى فرض أنه ثبت لك يقينًا أنهم كانوا متخاذلين في قضاء حاجتك فهذا غير كافٍ البتة لإطلاق حكم تعميمي شامل على جميع زملاء العمل في جميع الشركات والمؤسسات حول العالم، ولا حتى في خصوص بيئة العمل التي عملت فيها. وفيما يخص الناقل، فإن مسؤوليته تتمثل في الانتقائية الواعية لنقل التجارب التي عاشها أو نُقلت إليه بمعنى أن عليه وضع نقطة تفتيش عقلية تنظّم نقل التجارب، وتمرر السليم منها في الوقت المناسب وللشخص المناسب.
وهذا يعني أننا بالمقابل حين نقوم بأفعال خيرة وصحيحة ومنصفة؛ فإننا قد نخلق موجات لا متناهية من الإلهام والتحفيز التي تحرك الدوافع والبواعث الخيرة في نفوس الآخرين، وتؤثر في فلسفاتهم ومعتقداتهم والطريقة التي ينظرون بها للعالم، وكذلك الأمر حين نسهم في نقل هذه التجارب وإشاعتها. فقد تجد معلمًا مميزًا بأساليبه التربوية العبقرية التي تجعل منه معلمًا محبوبًا لدى طلابه، وحين تسأله عن كيفية اكتساب ذلك تكتشف أن لأحد معلميه دورًا وتأثيرًا في اتخاذه لهذا المسار. أو فاعل خير شغوفًا بمساعدة الآخرين؛ نتيجة موقف تلقى فيه المساعدة من غريب أذهله ولامس عمقه الإنساني. لذلك، كن كهؤلاء وحذار أن تسهم في زيادة عدد المتشائمين من أشباه (فرانك).
يجب أن ألا نستهين أبدًا بأفعالنا وألا نستصغر الحيّز الذي تجري فيه تفاعلاتنا، وألا يقلل أي منا من أهمية دوره وفاعلية مساعيه، وعليه أن يعمل لتثبيت منارات القيم، وإيقاد نار الوعي بما مكنه الله وأتاح له من مساحة. وبعبارة أقرب للغة الأدبية أقول: أوقد مصباحك وسر في ظلمات هذه الحياة بما فيها من ظلم وجور وقسوة واحرص على أن تكون أول المستفيدين من مصباحك الذي تحمله بيديك، وثق تمامًا أنه ربما يكون كفيلًا بإرشاد غيرك ممن هم في محيطك، وليوقد كل منا مصباحه ولتلتقِ خيوط النور وتتصافح مبددة هذه الظلمات اللعينة التي تُطبق بقسوة على رحابة عالمنا.
وينسحب الكلام على جميع المنتجات الفكرية والثقافية التي يقدمها المفكرون، والفنانون والأدباء؛ إذ تقع على عاتقهم مسؤولية كبيرة إزاء ما يقدمونه ويبثونه في المجتمع. ولذلك فقد راق لي جدًّا ما قام به الدكتور مصطفى حجازي المتخصص في علم النفس الاجتماعي، حين نشر: كتاب التخلف الاجتماعي سيكولوجية الإنسان المقهور، وكتاب الإنسان المهدور دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، وقد حوى كل من الكتابين ما شاء الله من الأسباب الموضوعية الباعثة على التشاؤم واليأس والقنوط إلا أنه أتبعهما بكتاب (إطلاق طاقات الحياة من منظور علم النفس الإيجابي). وهكذا أصبح المحتوى الذي قام بتقديمه للمجتمع متكاملًا من حيث توصيف وتحليل العوامل الاجتماعية والنفسية التي تهدر الإنسان وتقهره، ثم تبصير القراء بعوامل الاقتدار وبواعث الإيجابية. علمًا أن الدعوة للإيجابية هنا لا تعني أبدًا التشجيع على بيع الأوهام وتخدير الناس وحجب مساوئ الواقع عن أعينهم، ولكن دعوة كهذه تريد للفرد أن يسمو فوق مصائبه وأزماته وأحزانه المثيرة للإحباط؛ مستعينًا بطاقة الحياة الموجودة داخله المتمثلة بجميع القدرات والسمات التي وهبها له الله سبحانه، وجعلها بمثابة الأسلحة التي يواجه بها مصاعب الحياة؛ ليتخطاها ويمضي قدمًا في اتجاه النضج والنمو.
وكما بدأ المقال بحوار من رواية ميسو بين الأب (فرانك) والابن (آرثر)، كذلك أود أن أختم بهذه المقولة لإحدى الشخصيات في نفس الرواية وهي الأخصائية النفسية (استر هازيل)، والتي وجهتها لآرثر رغبةً في مساعدته على التشافي من حزنه وآلامه، ومن تجارب الحياة القاسية التي عاشها: “أنت لديك موارد. لا تدع ألمك يحطمك. اصنع منه شيئًا ما!”.
وأقول: استعن بالله، وتغلب على أحزانك وتسام على خيباتك، وكُن أنت نفسك دليلًا على وجود الخير والرحمة، (كُن الخير الذي تريد أن تراه في العالم).
2
من افضل العبارات التي اتمنى من الجميع أن يجعلها دائما حاضرة في ذهنهم :(كُن الخير الذي تريد أن تراه في العالم). اشكر الاخ محسن على هذا المقال الرائع ونتطلع الى جديده بكل شوق.
مقال أكثر من رائع
يعم بالمحفزات والفائده الكبيره