المقالات

‏بهذه الكلمات اختصرت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. كانت هذه الجملة إجابة شافية لسؤال في غاية الجمال ومنتهى العُمق ‏تقدم به أحد التابعين إلى السيدة عائشة -رضي الله عنها-. يقولُ التَّابِعيُّ سَعدُ بنُ هِشامٍ: “أتيْتُ عائشةَ، فقُلْتُ: يا أُمَّ المُؤمِنينَ، أخْبِريني بخُلقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالت: كان خُلُقُه القُرآنَ” أخرجه أحمد: 24601. لعل التابعي الجليل سعد بن هشام تأمل قول الحق سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (سورة القلم الآية 4) فأراد أن يسبح في بحار هذا الخُلق العظيم بمزيد تفصيل، وذكر شواهد في هذا المعنى فأجابته، بأن يرجع إلى القرآن فما من خلق كريم، إلا ويراه متجسدًا في شخصيته صلى الله عليه وسلم.

‏ومن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على هداية الناس وحب الخير للخلق أنه كان يراسل الملوك يعرفهم بدعوة الإسلام ‏ويبلغ رسالة الله للناس، وكان ممن تلقى رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ملك اليمامة ثمامة بن أثال. ‏وهذا الرجل مزق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل الرسول، وهمَّ على قتل النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن منعه عمه. ‏وما هي إلا فترة قصيرة بعد ذلك وخرج هذا الرجل يريد العمرة (عمرة الجاهلية)، ‏فصادف أن رأته سرية محمد بن مسلمة -رضي الله عنه-، فوقع أسيرًا ولم يعرفه منهم أحد. ‏وإليك أيها القارئ الكريم ما يرويه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن هذه الواقعة كما جاء في الصحيحين وغيرهما. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ ؟» فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ ! إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ.

فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ ؟»

قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ! فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ!

فَقَالَ: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ» فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ! يَا مُحَمَّدُ ! وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ).

‏فهذه الواقعة وغيرها كثير تجسد قول الحق سبحانه:

(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)) (سورة فصلت الآيتان 34، 35). فأي بغض أو خصومة أشد من بغض ثمامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تعدى إلى بغض كل ما اتصل به من دين أو أرض ووطن، ثم يتحول هذا البغض إلى محبة واتباع وصلاح. حقًا أحوج ما تكون الأمة إلى معرفة نبيها ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ (سورة المؤمنون الآية 69). فمعرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم وَأَخْلاَقِهِ وسيرته سبب في هداية كثير من الناس إلى الإسلام، وهذا أمر أشاهده بفضل الله تعالى بشكل دائم حيث أقطن في المملكة المتحدة. ‏فلا يمكن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم إلا بمعرفته، ونحن مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (سورة آل عمران الآية 31)، والاتباع يورث المحبة حبة.
عضو الهيئة الأوروبية للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى