يتفاوت المبدعون من حيث تناغمهم مع الشهرة ومتطلباتها، بين من يراها أحد مكتسباته وأهم روافد تدفق عطائه، ومنهم من يرى أن الانسياق وراء الأضواء قد يجعل منها نارًا لا أنوارًا، ومن مبدعينا الكبار في “العرضة” يبرز الاسم الذي يتفق الجميع على أنه من الكبار شعرًا وتأثيرًا وحضورًا؛ فضلًا عن ما يتمتع به من خُلق وسمت ولطف، إنه الشاعر صالح اللخمي، ولن أقول شهادتي فيه مجروحة، لأني من أحق الناس بالشهادة بما رأيت وبما لمست من شخص هذا الرجل، ولعلي أبدأ الحديث عن شاعرية صالح اللخمي التي رغم عظمة صفاته الأخرى، إلا أن اللخمي شاعر عظيم هي الحقيقة التي لا تطغى عليها بقية الحقائق الأخرى .
تُقاس حبكة القصيدة بالأبعاد الثلاثية، إما الامتداد الأفقي ليحتوي البيت مفردات متنوعة ويربط بينها، أو بالامتداد الرأسي وهو الحديث عن شيء محدد والغوص في تفاصيل تفاصيله، أو تكثيف الصور والاستعارات والأخيلة في البيت الواحد، وبتطبيق هذا على تركيبة قصيدة اللخمي نجدها تجمع بين هذه الأبعاد الثلاثة، كما يقاس تأثير القصيدة بالتلقي الأول في بادئ الأمر، وتعتبر التأثير فاعلًا إذا امتد انطباع التلقي الأول إلى أبعد ما يمكن حتى مع زوال الحدث أو القضية المرتبطة بها القصيدة، ومن يسمع قصائد اللخمي التي قالها في أحداث قبل عشرات السنين، يتلمس فيها مواطن إبداع لم تتأثر بمرور الزمن وزوال البواعث .
لقصيدة اللخمي أفق حداثي، وتجذر شعبي أصيل، وعمق فكري ناضج، وبصمات مبدع يعرف أين يضع كل حرف في مكانه الصحيح، ويطبق اللخمي القاعدة التي تقول ليس الفصاحة أن تقول دائمًا كلامًا بليغًا، بل قد يكون من الفصاحة أن تصمت أحيانًا، واللخمي يعي متى يتكلم، ومتى يصمت .
ومفردة اللخمي، أنيقة، خفيفة الظل، لا تقوقعها الإقليمية، ولا يوحشها هاجس رفض الآخر، تمر كالنسمة اللطيفة، أو كنفحة الرائحة الزكية التي تبثها أزهار (ملكة الليل) بين دقيقة وأخرى .
يمدح اللخمي فيتمنى كل شاعر أنه هو المادح، وكل سامع يتمنى أنه الممدوح، مدحًا ينأى عن المبالغات الممجوجة، والاستجداء الرخيص للعطاء والثناء، يصف اللخمي فيقول كل من يسمعه من الشعراء: لو انتظر قليلًا لسبقته إلى هذا، يناقش القضايا المجتمعية فيجعل من أبياته جهاز أشعة مقطعية يشخص دواخل القلوب والعقول والأنفس، ويكشف تناقضات ومفارقات التعاملات والتعاطي المجتمعي. أما إذا تحدث بمنظور المثقف المتابع لإحداث العالم فتتجلى فيه شخصية ابن الجزيرة العربية الذي لا يفوته مما حوله لا شاردة ولا واردة، ولكنه يقف موقفًا إيجابيًّا من كل ما حوله .
عند تصنيف الشعراء يضع كل شخص قائمته لشعرائه المفضلين، ولكن عند تصنيف الشعر نجد أن قصائد اللخمي هي أجمل وأعظم وأرق وأعمق القصائد، وصوته من أجمل الأصوات، وقدرته على مقارعة الخصوم مذهلة دائمًا، ومعانيه لا تغادر فمه إلا لتسير بها الركبان زمنًا طويلًا، وقد لا تخلو أي قائمة تصنيف من اسم اللخمي مهما اتسعت أو ضاقت دوائرها .
واللخمي شاعر كبير مهما كان مستوى الشعراء المحيطين به، وقد تضطره قناعته في الحرص على الحضور في مساحة جغرافية محددة إلى الحضور مع أنصاف وأرباع شعراء أحيانًا، ويخرج من الحفل محافظًا على رونقه وبهائه، فإذا حضر مع الكبار كان أكبر هؤلاء الكبار، واللخمي من الأسماء التي لم أواكب له تدرجًا في المستوى الشعري، هو هكذا كبير منذ أن بدأ، واستمر على هذا لمدة لا تقل عن نصف قرن .
مثل صالح اللخمي، لا تكفي لوصف تجربته أسطر في مقال كهذا، وهي تجربة جديرة بالتدوين والتحليل والدراسة، ولعلي أشكر في هذا السياق العميد علي ضيف الله الذي قام مشكورًا بجمع ديوان (صالح اللخمي)، والذي لم يكن مجرد توثيقًا لمسيرة اللخمي بل كان كمن يضع البذور بعناية لاستنبات غابة، لتنطلق بعدها دراسات وقراءات في مسيرة هذا الشاعر العظيم.