المقالات

حضارات زائفة: أوروبا أنموذجًا (1)

أطلت علينا قبل أيام احتفالات افتتاح أولمبياد (2024) المقام في العاصمة الفرنسيّة باريس، وقد اتجهت إليه أنظار العالم بأسره، لكنّه مع الأسف لم يكن عالميًّا فيما قُدّم. وأعلم من قراءات سابقة أنّ فرنسا كغيرها من دول أوروبا دولة غير متحضّرة في تعاملها الإنساني، بل وماهرة كغيرها في تطبيق ازدواجيّة المعايير. إنّ ذاكرة التاريخ لا تزال شاهدةً على ممارسات فرنسا الاستعمارية التي لم تمحها الشعارات الإنسانيّة البرّاقة، ولازال الحاضر شاهدًا على نظرتهم الازدواجيّة المتغطرسة لغيرهم من الحضارات والثقافات والشعوب، وكان حفل افتتاح أولمبياد فرنسا ناطقًا بنظرتهم الدونيّة للعالم بأسره، بل لجميع الأديان السماويّة.

هذا الأولمبياد الذي اختير له يوم الجمعة على نهر السين، كان يهدف لإظهار التنوع في فرنسا، إلّا أنّه فضح الخواء الأخلاقي الغربي؛ إذ شارك فيه عدد من المتحوّلين جنسيًّا في مشهد تمثيلي كان محاكاة ساخرة للعشاء الأخير، قرأه بعض المحلّلين بأنّه إثبات التخلي تدريجيًّا عن الروابط الروحيّة والفكريّة مع الخالق والوطن والأسرة… ممّا أدّى إلى تدهور القيم الأخلاقيّة العامّة في المجتمع. وقد ارتفعت في فرنسا نفسها أصوات يمينية ساخطة على العديد من المشاهد، بينما استنكر الأساقفة مشاهد السخرية والاستهزاء بالمسيحية. بل أثبتت مشاهد عديدة من الأولمبياد ازدواجيّة المعايير الغربية، التي طالما اعتبرت ذاتها عالميّة ومنفتحة، فأصبحت مكشوفة وغير مقبولة بل مرفوضة بشكل متزايد من قبل العديد من دول العالم مثل: الصين والهند عدا عن الدول العربيّة والإسلاميّة. فبينما منعت التمثيل للفريق الروسي بسبب الغزو لأوكرانيا، تجاهلت الإبادة الجماعية للفلسطينّيين في الأراضي المحتلة، وسمحت بالتمثيل للفريق الإسرائيلي.
كما ظهرت ازدواجية المعايير في مواضع عديدة أخرى خلال الافتتاح؛ حيث وقف المتابعون للحدث على مشاهد غير متوقّعة من دولة تدّعي الرقي والتطوّر، فها هي الفئران التي غزت شوارع باريس تستقبل الوفود والضيوف في أخصّ الأماكن ناهيك عن الشوارع والحدائق، بينما انتقدت وسائل الإعلام الغربيّة المتحيّزة في أولمبياد روسيا عام (2014) وجود الكلاب في الألعاب، حسب ما ذكرت ممثلة البعثة الروسية. والتي أكدت قائلة لقد تحوّل وسط باريس إلى “حي للمشردين الذين توافدوا على افتتاح الألعاب”. بل تمّ خلط اسم كوريا الشماليّة الرسميّة عند الحديث عن فريق كوريا الجنوبيّة أثناء عرض الفرق، إلى جانب رفع علم الحركة الأولمبية رأسًا على عقب. كما انتقدت أقلام عالميّة اختيار مغني الراب “سنوب دوغ” لحمل الشعلة الأولمبية، واصفة إياه بأنّه ذو سلوك مشين، وليس مثلًا أعلى لشباب العالم، كما انتقدت أحد العروض الرئيسة التي تشجّع على الشذوذ.
عدا عن العداء المتجذر في ضمير الفكر الفرنسي للإسلام والمسلمين ومحاربة الحجاب ليس فقط على أرضها، بل في كلّ دولة لها ولاء فرنسي. إذ انتقل إلى مقاطعة مونتريال الكنديّة التي بدورها حاربت الحجاب ومنعته في مدارسها.
هذه الحضارات التي تدّعي أنّها بلاد الحريات والحفاظ على حقوق الإنسان، ثمّ تخفق أمام العالم في تطبيقه على المستوى الإنساني، خاصة المرتبط بالمعتقد الإسلامي، ليست جديرة بقيادة العالم؛ لأنّهم في أعماقهم يهابون (الخطر الخضر) كناية عن دين الإسلام. فيعزّزون الشذوذ والتعرّي، ويرفضون ويحاربون أي مظهر ديني محتشم، وهم يدركون جيدًا أن الحجاب تشريع رباني أُمرت به المرأة في جميع الشعائر السماويّة.
إنّ هذا الاحتفال المتحيّز المحرج ليس الوحيد الذي أظهر زيف الحضارة الأوروبية بشكل عام والفرنسيّة بشكل خاص، فليس ببعيد كان احتفال عواصم العالم بالعام الجديد (2024)، وما حدث في باريس حينها من إحراق لأكثر من (960) سيارة، لتظهر للعالم بأنّها ليست من الدول المتحضّرة، كما أثبتت مواقف حرق المصحف والرسوم المسيئة للرسول -صلّى الله عليه وسلم- أنّ هناك حضارات مزيّفة في البلدان الأوروبيّة التي تباهي العالم مفتخرة بنفسها. فهذه الأحداث لم تقع في أي دولة من دول العالم الثالث، كما يحلو لهم تسميته. بل لقد أذهلت دولة عربيّة خليجيّة العالم في افتتاح كأس العالم (2023) بل فاقت كلّ عواصم أوروبا لعبًا وتخطيطًا وإبهارًا في زمن ارتفع فيه سقف التحدّيات حول توقّع فشلها.
إنّ ما يدهشني أن هذه الحضارات المزعومة حضارات شكليّة زائفة لا جوهريّة، تقصي من تشاء، وتطبّق ازدواجية المعايير كما تشاء.
خلاصة القول: لن تتمكن عطور فرنسا المشهورة من إزالة ما علق في ذاكرة الإنسانيّة من تلوّث في المفاهيم والقيم والذوق العام بعد حفل افتتاح أعظم حدث رياضي عالمي في أجمل عواصم العالم كما يراها بعضهم.

– جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. مقال رأئع جدا و ثري جدا عكس و سرد الجوانب الحقيقية للتخلف و الرجوع إلى الجاهلية و محاربة الفطرة الإنسانية و تشجيع الرذيلة من قبل المسئولين الفرنسيين الذين يدعون المدنية و الحضارة و هم ابعد ما يكون عنها. اشكرك د اماني على هذه النقالة الرائعه. ✅✅✅

  2. فعلا صدقت وللاسف الى الان لا يزال البعض يصدق فكرة حوار الحضارات وليس صراع الحضارات

  3. ماشاء الله تبارك الله. فهم عميق وتحليل رائع. جزاك الله خيرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى