المقالات

بين الحلم والصمت يكمن الرفق والسلم

قالوا سكتّ وقد خوصمتُ قلتُ لهم
إنَّ الجوابَ لبابِ الشرِّ مفتاحُ
والصمَّتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفُ
وفيه أيضًا لصونِ العرضِ إصلاحُ

هذا ما قاله الإمام الشافعي، فلا في ذلك العصر ولا في عصرنا ولا في حضرة العلماء والأدباء ولا أعلي ولا أدني من ذلك إلا كانت هفوات الكلام في سورة غضب لا تأتي إلا بنوائب أدناها الخصام وأعلاها الحروب، وما ينتج عنها من كوارث. كم من حليم آثر الصمت، وهو قادر على الرد إن كلامًا أو فعلًا، وكم من أحمق أرعن ندم على كلمة تسرع في قولها جلبت عليه وقومه أو أهله كوارث وإشكاليات هم في غنى عنها. فالحلم والرفق لا يحتملان الفراق؛ فبالحلم يأتي الرفق، وبالرفق ينساب الحلم، وهناك جانبان لهذا الأمر. فإما أن تكون أنت الذي أسرفت في القول فإذا رد عليك المتلقي بقول قاسٍ؛ فتراجع نفسك وتصبر وتغفر الزلة التي كنت أنت سببها. وإما أن تكون أنت المتلقي فتمارس ضبط النفس، وتكون ردة فعلك الصمت ومن ثم العفو. حتى يمر ذلك الموقف بسلام..

يقول صفي الدين الحلي:

أَتَطلُبُ مِن أَخٍ خُلُقًا جَليلًا
وَخَلقُ الناسِ مِن ماءٍ مَهينِ
فَسامِح أَن تُكَدَّرَ وُدَّ خِلٍّ
فَإِنَّ المَرءَ مِن ماءٍ وَطينِ.

أحيانًا يأخذ المتخاصمون الكبر؛ وخاصة أيام الجاهلية ومن أصغر المواقف وكلمات خرجت وقت غضب تجعلهما يتخاصمان، وكل منهما يزيد في الخصومة في نعرة جاهلية عنوانها وشيطانها من الذي انتصر.
إن قصة حرب البسوس وبطلاها كليب المتزوج أخت جساس وجساس. أوقع مثلًا على ذلك؛ فكليب قتل ناقة جار البسوس لما دخلت حرم أرضه وصاحت البسوس ومجيراه. فأخذت جساس الحمية. وذهب لصهره كليبًا: «أيا أبا الماجدة، عمدت إلى ناقة جارتي فعقرتها» فرد كليب: «أتراك مانعي إن أذب عن حماي؟» فغضب جساس فضرب “كليب” وقتله.. فلو أن جساسًا كان حليمًا ولم يندفع وصبر حتى تهدأ الأمور ثم عاتب جساس بينه وبينه، وكذا لو أن كليبًا رحب بجساس وقال له كان سهمًا طائشًا وأبشر بما يرضيها ويرضيك. لما قامت تلك الحرب التي استمرت أربعين سنة، وقتل فيها عشرات الآلاف. على شويتين برسيم. وهكذا يصنع الحمق وانعدام الحلم. يقول زهير بن أبي سلمى:

وَمَنْ لَمْ يُصَـانِعْ فِي أُمُـورٍ كَثِيـرَةٍ
يُضَـرَّسْ بِأَنْيَـابٍ وَيُوْطَأ بِمَنْسِـمِ

وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْروفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ
يَفِـرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْـمَ يُشْتَـمِ

تلك الأحداث في العهد الجاهلي؛ حيث كانت تلك الحروب والخصومات لأجل بضع كلمات أو تصرفات لا تستحق حتى أن تذهب لأجلها لعمدة الحارة.. وإن كان ذلك في جاهلية العرب فجاهلية فكر الأفرنجة أيضًا لا تخلو من (الهبقان والطربقة) ففي عام 1882م طلب مالطي من مصري ليدور به على حماره في ذلك الصيف والمصري على قدميه، ولما انتهت الرحلة طلب المصري من المالطي الأجرة، وحصل اختلاف بينهما عليها، وتشاجرا وتماسكا بالأيدي ثم طعن المالطي المصري بسكين وهرب. والتجأ إلى اليونانيين الذين كانوا يسكنون مصر. فثار الأهالي وحاولوا النيل منهم فأطلق اليونانيون عليهم النار، وأصبح القتال متبادلًا حتى وصل عدد القتلى من الطرفين إلى أكثر من 200 قتيل. فاتخذت بريطانيا حماية مواطنيها ذريعة واحتلت مصر لمدة سبعة عقود. (احتلال قيمتة حمار وحفنة قروش.)..
وقامت حرب بين بريطانيا وأمريكا والسبب “خنزير”. ففي جزيرة (سان خوان)؛ حيث كان يتعايش البريطانيون والأمريكيون، دخل خنزير بريطاني مزرعة أمريكي وأكل حبتين بطاطا. فقتله الأمريكي ثم تواجهت في الجزيرة الجيوش الأمريكية والبريطانية في عام 1839، وفيها قال أحد الأدميرالات البريطانيين جملته الشهيرة: “لن أشارك في حرب بين دولتين بطلها خنزير”.

كم أسر تخاصمت بعد ألفة
وكم أقارب تفرقوا بعد جمع وصحاب

بعد سنين من الاندماج المجتمعي لم يعد يرى بعضهم بعضًا بل إذا تلاقوا صُدفة أدار كل منهما وجهه إلى الجهة الأخرى. وكل بسب كلمة أو اختلاف رأي وغياب الحلم والرفق، ولم يحضر الصبر ولا الصمت وبالتالي كيف للحكمة أن تحضر.

أما العشاق فحدث ولا حرج فكلمة عابرة ومجاملة حاضرة أو نظرة شاردة “مع أن العين بحر” جعلت بينهما ما صنع الحداد.
وأترككم مع الشاعر العباسي عرقلة الدمشقي:

أَما آنَ لِلغَضبانِ أَن يَتَعَطَّفا
لَقَد زادَ ظُلمًا في القَطيعَةِ وَالجَفا

بِعادٌ وَلا قُربٌ وَسُخطٌ وَلا رِضى
وَهَجرٌ وَلا وَصلٌ وَعُذرٌ وَلا وَفا

كَفاني غَرامًا كَالغَريمِ عَلى النَوى
وَعِندي مِنَ الشَوقِ المُبرَحِ ما كَفى

تَكَدَّرَ عَيشي بَعدَما كانَ صافِيًا
وَقَلبُ الَّذي أَهواهُ أَقسى مِنَ الصَفا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى