المقالات

الجاحظ مؤسس علم البيان العربي ورائد البلاغة العربية

المحاضرة الثالثة والرابعة لطلبة الدراسات العليا

يعد أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( 255هـ ) مؤسس البيان العربي ؛ وليس ذلك لأنه وصل بجهده الخاص إلى قاعدة بيانية بعينها , ولكن لأنه جمع في كتابه البيان والتبيين طائفة من الآراء والأقوال والقضايا النقدية المبثوثة لا تكاد توجد إلا بالتأمل الطويل والتصفح الكثير, والتي  توضح لنا توضيحاً حسناً كيف كان العرب يتصورون البيان في القرن الثاني والنصف الأول من القرن الثالث وتعطينا صورة مجملة لنشأة البيان العربي .

وطريقة الجاحظ المنهجية في بحث فنون البلاغة لا تختلف كثيراً عن طريقة معاصريه , فهو لم يفرد فصولاً لها كأبي هلال وعبد القاهر والسكاكي , وإنما نثر مسائلها في فصول كتبه المختلفة , ولذلك لم يتضح له منهج في البلاغة , ولم تكن له خطة يسير عليها في تبويب الفنون .

ولذا قال أبو هلال  العسكري : ” إلا أن الإبانة عن حدود البلاغة وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة في تضاعيفه ومنتشرة في أثنائه فهي ضالة بين الأمثلة لا توجد إلا بالتأمل الطويل والتصفح الكثير ”( ) .

** معنى البَيَان

كان البيان هو الموضوع الرئيسي الذي أقام الجاحظ عليه كتابه البيان والتبيين , فكشف عن معناه , موضحاً آراء السابقين فيه , ومبرزاً أهميته وفضله , وما له من أثر عظيم وخطر جليل , كاشفاً عن أصالة العرب في هذا الباب , وما خصهم الله به من نعمة البيان

إن البيان الذي قصد إليه الجاحظ وعناه في كتابه وأدار حوله مسائله هو : القدرة على الإبانة والكشف عما في النفس والإفصاح عما في الضمير بطريق اللسان والألفاظ . وقد كان البيان – بهذا المفهوم – أول ما شغل به الجاحظ في كتابه , فعقد له باباً خاصاً – بعد عدّة صفحات من كتابه – نعته ” باب البيان ” , وذكر أن هذا الباب كان من الواجب أن يكون في أول الكتاب , ولكنه أخره لبعض التدابير ( ) .

والذي قصده ببعض التدابير هو التمهيد للحديث عن معنى البيان وفضله ورجوع كثير من المزايا والفضائل إليه ومدح الله له وحثه عليه مستدلا بما ساقه من نصوص قرآنية واضحة في مدح البيان والإشادة به , وبما رواه من جيد المنظوم والمنثور , كل هذا تمهيد لتعريف البيان ومدخلاً لما ذكره في هذا الباب .

في هذا الباب عرّفَ الجاحظ البيان بقوله : ” الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان , الذي سمعت الله عز وجل يمدحه ويدعو إليه ويحث عليه بذلك نطق القرآن , وبذلك تفاخرت العرب وتفاضلت على أصناف العجم ( ) . وهو في تحديده للبيان وتعريفه له يدل دلالة صريحة على أنه لا يعني بالبيان إلا ما كان بطريق الألفاظ فهو البيان الذي مدحه الله وهو الذي تفاخرت به العرب . ويوضح هذا المعنى في صدر الجزء الثالث من كتابه بقوله : ” .. وما شابه ذلك من غرر الأحاديث , وما شاكله من عيون الخطب  ومن الفقر المستحسنة والنتف المستخرجة والمقطعات المتخيرة والجوابات المنتخبة ” ( ) . ومعروف أن ما ذكره لا تكون ولا تؤدى إلا باللسان والألفاظ . ويؤكد هذا المعنى بأنه كلّما كانت دلالة اللفظ على معناه أوضح كان أدخل في باب البيان , ” فعلى وضوح الدلالة وصواب الإشارة وحسن الاختصار ودقة المدخل يكون إظهار المعنى , وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح وكانت الإشارة أبين وأنور كان أنفع وأنجع ” ( )

والجاحظ إذ يبدو واضحاً في هذا الرأي , فإننا نجده يستطرد إلى رأي آخر يظهر وكأنه متناقض مع هذا التحديد والتعريف , فيقرر أن البيان ” اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى , وهتك الحجاب دون الضمير حتى يُفضي السامع إلى حقيقته , ويهجم على محصوله , كائناً ما كان ذلك البيان , ومن أي جنس كان الدليل لأن مدار الأمر والغاية التي يجري إليها القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع ( )

فكلام الجاحظ هذا يفيد إطلاق البيان على كل ما يكشف المعنى بلفظ أو غيره . ثم يزيد في استطراده فيعدد أصناف الدلالة على المعنى من لفظ أو غيره فيحصرها في خمسة أشياء : اللفظ ثم الإشارة ثم العقد ثم الخط ثم الحال التي تسمى نصبة , والنصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف ولا تقصر عن تلك الدلالات , ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها وحلية مخالفة لحلية أختها وهي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة ثم عن حقائقها في التفسير وعن أجناسها وأقدارها وعن خاصها وعامها وعن طبقاتها في السارّ والضارّ وما يكون منها لغواً بهرجاً وساقطاً مطرحا ( ) . وواضح أن هذه الدلالات – عدا دلالتي الخط واللفظ – لا يمكن أن تُعد في البيان , إذ أن البيان أدبٌ وتعبيرٌ قبل كل شيء .

ومن يتأمل كلام الجاحظ في الموضعين يجد أنه لا تناقض فيه , فهو إذ يعدد أصناف الدلالة فإنما يعددها في معرض إحصاء وسائل الفهم والإبانة عمّا في النفس , أيّاً كانت هذه الوسيلة , وقد ألمح إلى ذلك بقوله : ” فهذا هو البيان في ذلك الموضع ” , أما إذا انتقل إلى غاية البيان الحقيقية من التأنق في رسم الصورة الأدبية المصطبغة بالصبغة الفنية فإنما يعني البيان عن طريق الألفاظ , أما باقي أصناف الدلالات فلا اعتبار لها عنده حينئذ .

** أهمية البيان وفضله

إنّ الأديب أو المتكلم إذا كتب أو نطق فإنما يكون غرضه إخبار السامعين أو القارئين بما يقصد إليه من معان  وأن ينقل إليهم ما يحس به في قرارة نفسه وقلبه وأن يكشف لهم مستور ضميره ووسيلته إلى ذلك كلام مبين , يفصح به عما في نفسه وعقله ويكشف به عن مكنون ضميره . ومن ثم كان للبيان من الفضل والمزية ما لا يستطيع أحد أن ينكره .

والجاحظ إذ يذكر فضل البيان عن إدراك ووعي كاملين لم يغفل أن يدّلّل على هذه الفضيلة , فساق كثيراً من الأدلة والبراهين التي نجدها مبثوثة في كتابه في كتابه البيان ليؤكد فضل البيان ويبرز أهميته , وهذه الأدلة التي ساقها هي : ( الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان ) ( هذا بيان للناس ) ( عربي مبين )  فكلُّ هذه الآيات وغيرها كثير تدل على قيمة البيان وأن الله تعالى يذكر أول ما منّ به على عباده هو نعمة البيان ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إنّ من الشعر حكمة وإنّ من البيان لسحرا ” ومنها : ما نقله عن خالد بن صفوان في قوله : ” ما الإنسان لو اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة . ورابعها : إطباق العلماء والحكماء والفلاسفة على فضله وأهميته , وقد نقل الجاحظ في ذلك أقولاً لطائفة كبيرة من هذه الطوائف , تدل على إدراكهم للبيان وأثره , فمن ذلك قول يونس بن حبيب : ” ليس لعيي مروءة ولا لمنقوص البيان بهاء ولو حكّ بيافوخه أعنان السماء ” وقال سهل بن هارون : ” العقل رائد الروح , والعلم رائد العقل , والبيان ترجمان العلم ” وخامسها أن أرباب الملل وزعماء النحل لا يمكن لواحد منهم أن يستغني عن البيان فإنه آلته التي لا يمكن أن يقوم بدونها , ويضرب الجاحظ المثل لذلك بواصل بن عطاء المعتزلي فقد أسقط الراء من كلامه وانظر ما قال عنه ( ) .

** البيان مقصور على العرب

الدافع الأساسي الذي دفع الجاحظ إلى تأليف كتابه البيان والتبيين هو ردُّ عادية الشعوبية عن العرب وبيانهم الذي هو موضع فخرهم ومناط اعتزازهم , وقد أخذ على عاتقه أن يقف في وجه هؤلاء وأن يفنّد حججهم ويثبت للعرب كل فضيلة وأن البيان صفة خصهم الله بها .

ومما ذكر من مطاعنهم الباطلة أنهم أخذوا على العرب اتخاذ المخصرة عند مناقلة الكلام , والمخصرة : ما اختصره الإنسان بيده فأمسكه من عصا أو عكازة . ومساجلة الخصوم بالموزون والمقفى وبالأرجاز عند المتح – الاستسقاء من أعلى البئر , وعند مجاثاة الخصم – الجلوس على الركبتين للخصومة – وساعة المشاولة – يتناول بعضهم بعضاً عند القتال بالرماح , وكذلك الأسماع عند المنافرة والمفاخرة واستعمال المنثور في خطب الحمالة – الدية – وغير ذلك .

ويبدو أن تحاملهم على فنّ الخطابة خصوصاً ؛ ذلك لأنهم رأوا أنه فن تصدر فيه الخلفاء والوزراء وعلية القوم لذا وجهوا سهامهم إليها , فإنها إذا ما نفذت سهامهم إلى هذه الطبقة العالية كانت سهلة النفاذ إلى غيرهم من الكتاب والشعراء .

وهذا إحصاء دقيق للأمم التي عرفت حتى عصر الجاحظ وما اشتهرت به كل أمة من هذه الأمم , فالهند اشتهرت بمعانيها وحكمها وكتبها المخلدة لا تضاف إلى رجل معروف , وإنما هي كتب متوارثة وآداب على وجه الدهر سائرة  أما البيان فإنها لم تعرف هذه المفخرة التي عرفها العرب وأدادوها , وكذلك أمة اليونان وعلى رأسهم أرسطو وجالينوس , لم يشتهروا في باب البيان والبلاغة ؛ بل إن أرسطو نفسه كان بكّي اللسان – يعني غير موصوف بالبيان , مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله , وهم يزعمون أن جالينوس كان أنطق الناس ولم يذكروه بالخطابة ولا بهذا الجنس من البلاغة , وإنما اشتهرت هذه الأمة بالفلسفة والمنطق .

أما الفرس فقد اعترف الجاحظ أن فيهم خطباء ولكنه عاد فقرّر أن كل كلامهم وكل كلام للعجم بصفة عامة ليس طبعاً فيهم , وإنما يأتي عن اجتهاد رأي وطول خلوة وتفكر ودراسة .

ويبقى حكمه على العرب , فيقرر : ” أن كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكر ولا استعانة وإنما هو أن يصرف وهمَه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام أو حين يمتح على رأس بئر أو يحدو ببعير أو عند المقارعة أو المناقلة أو عند صراع أو في حرب .. فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد فتأتيه المعاني أرسالا وتنثال عليه الألفاظ انثيالا , ثم لا يقيده على نفسه , ولا يدرسه أحداً من ولده , وكانوا أميين لا يكتبون , ومطبوعين لا يتكلفون , وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر , وهم عليه أقدر , وله أقهر , وكل واحد في نفسه أنطق ومكانه من البيان أرفع , وخطباؤهم للكلام أوجد والكلام عليهم أسهل وهو عليهم أيسر .. ” ( ) .

وبعد هذا التفنيد وسوق الأدلة والبراهين يقرر الجاحظ أن ” البديع مقصور على العرب ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة وأربت على كل لسان ” ( ) . ومعروف أن البديع كلمة أطلقت في ذلك العصر أو قبله بقليل على محاسن الكلام وخصائص الأدب المميزة له .

** البيان صناعة تقوم على أصول وضوابط

يدرك الجاحظ أن البيان صناعة من الصناعات التي تحتاج إلى تعلّم ورياضة , وأن لها أدوات وآلات ينبغي طلبها , فإذا فقدت هذه الأدوات والآلات لا يستطيع فاقدها أن يدعي أنه صاحب بيان , لأن البيان كما قال : ” يحتاج إلى تمييز وسياسة وإلى ترتيب ورياضة وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن وأن حاجة المنطق إلى الحلاوة والطلاوة كحاجته إلى الجزالة والفخامة وأن ذلك من أكثر ما تستمال به القلوب وتثنى به الأعناق وتزين به المعاني ” ( ) . وإذا كان البيان عند الجاحظ صناعة لها وسائلها ومقاييسها التي تقوم عليها فقد أخذ يعرض في كتابه البيان والتبيين الكثير من الضوابط ومقاييسه وأصول البلاغة وحدودها . وفيما يلي نعرض شيئاً من ذلك :

** الفصاحة والبلاغة

المطلع على كتب البلاغة عند المتأخرين يجد أن المصطلحات البلاغية وبخاصة مدلولات المصطلحات العامة كالفصاحة والبلاغة يجدها محددة ومضبوطة , فلكل منها تعريف ومقياس جامع له ومانع من دخول غيره فيه

فالفصاحة – عند المتأخرين – ثلاثة أقسام فصاحة المفرد وفصاحة الكلام وفصاحة المتكلم , ولكل منها تعريف خاص . ففصاحة المفرد هي خلوصه من عيوب ثلاثة تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس اللغوي .

وفصاحة الكلام هي : خلوصه من عيوب ثلاثة : تنافر الكلمات وضعف التأليف والتعقيد اللفظي والمعنوي , مع فصاحة كلماته المفردة .

وفصاحة المتكلم هي : ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح . أما البلاغة فهي عندهم قسمان بلاغة المتكلم وهي مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته وفصاحة أجزائه . وبلاغة المتكلم وهي ملكة يقدر بها على تأليف كلام بليغ  .

وإذا كانت هذه ضوابط المتأخرين حسبما اقتضته ثقافتهم وطبيعة عصرهم في البحث والتفكير , فظلم للجاحظ أن نطلب منه أن يقدم لنا ضوابطه البلاغية وتحديده لهذه المصطلحات , فعقليته الواسعة وثقافته المتنوعة وطبيعة عصره لابد لكل هذا أن يجعل له طابعه الخاص في عرضه لمقاييس البلاغة وضوابطها والتي لا تتلاءم مع هذا التحديد والتقسيم .

وقد تهافت كثير من الباحثين والكاتبين في تاريخ البلاغة ورجالها فعدوا الجاحظ مضطرباً ومختلطاً في تحديد هذه المفاهيم والمدلولات , فيذكر بعضهم أن مصطلح البلاغة أورد له الجاحظ في كتابه البيان والتبيين عدداً وفيراً من التعريفات التي لا يكاد تعريف منها يلتقي بآخر والتي لا تكاد في مجملها تلتقي بالتعريف الذي حدده البلاغيون لهذا المصطلح . كما ذكروا أن الجاحظ يخلط بين مصطلح البلاغة والفصاحة , ولا يضع بين البلاغة والفصاحة حداً فاصلاً فكثيراً ما تأتيان مترادفتين , وهما عنده : البيان بمعناه الواسع قبل أن يقيده المتأخرون .

والواقع أن هذا ظلم كبير للرجل وجهده البلاغي فعلى الرغم من أن مفاهيم هذه المصطلحات لم تكن قد أخذت طابع التحديد والتقسيم إلا أننا نرى الجاحظ يفرق في نظرته بين هذين اللفظين – الفصاحة والبلاغة – بل إن الفرق عنده واضح بين مدلولات كل من البيان والبلاغة والفصاحة .

فإذا كانت غاية البيان عنده هي الفهم والإفهام مع حسن الاختصار وجودة العبارة , فإن غاية البلاغة هي الأدب والتعبير وهو أيضاً في البلاغة يبحث في العبارة أو يبحث في الأسلوب بخاصة , ويكفي دليلاً على التفرقة بينهما أنه عقد لكل منهما باباً مستقلاً , فقد عقد في كتابه باباً نعته { باب البيان } , ثم أردفه بباب آخر نعته { باب البلاغة } ( ) .

وهو حين يعرض للفصاحة فإنما يعني براءة الكلام من العيوب التي تخرجه عن دائرة الكلام الحسن , ولا نكاد نجده يذكر البلاغة مقترنة بالألفاظ المفردة بينما نجده يدير حديثه عن الفصاحة في حديثه عن الكلمات المفردة أو الألفاظ المجردة .

 

** مقاييس الجاحظ المتعلقة بالفصاحة

فصاحة المفرد : كانت عناية الجاحظ بهذه القضية عناية فائقة , فاللفظ المفرد عنده يعد بمثابة اللبنة التي يقام منها البناء وعلى قدر ما فيها من حسن يكون البناء حسناً رائقاً , ” وإذا كانت الكلمة حسنة استمتعنا بها على قدر ما فيها من الحسن ” ( ) . وعلى الأديب أن يختار كلماته سليمة من العيوب , محببة إلى النفوس ” ومتى كان اللفظ كريماً في نفسه متميزاً من جنسه , وكان سليماً من الفضول , برئياً من التعقيد حُبب إلى النفوس واتصل بالأذهان والتحم بالعقول وهشت إليه الأسماع وارتاحت له القلوب وخف على ألسنة الرواة وشاع في الآفاق ذكره وعظم على الناس خطره ” ( ) . وقد أفاض الجاحظ في كتابه عن اللفظ المفرد وما يطرأ عليه من عيوب تخل بفصاحته , ويجدر بالأديب أن يطرحه من أدبه , وهذه العيوب التي نبه إليها :

أولاً : غرابة الكلمة :

وهي كون الكلمة وحشية غريبة لا يعرف معناها إلا بالشرح والبحث والتفسير على ما يفهم من كلامه ويدل عليه دلالة واضحة مستشهداً بما نبه عليه بشر في صحيفته : ( إياك والتوعر … ” ثم يعلّق على هذه العبارة بقوله : ” أما أنا فلم أر – قط – أمثل طريقة في البلاغة من الكتّاب , فإنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعراً وحشياً , ولا ساقطاً سوقياً ” ( )  .

فإذا كان الجاحظ يعبر عن اللفظ بأنه متوعر فإنه يصوّر استعماله بصورة من يركب طريقاً وعراً خشناً لا يصل فيه السالك إلى مراده بسهولة ويسر . وتسميته وحشياً ؛ لأن النفوس تنفر منه كما تنفر من الوحش النافر ؛ أو لأن اللفظ نفسه ينفر من الكلام كالوحش النافر الذي لا يستقر في مكان .

روى الجاحظ طائفة من الكلام حولت ألفاظاً غريبة جعلت هذا الكلام ساقطاً وخارجاً عن دائرة الفصاحة , فمما يرويه من ذلك : ” أن امرأة خاصمت زوجها إلى يحيي بن يعمر فانتهرها مراراً , فقال له يحيي : أإن سألتك ثمن شَكْرها وشَبْرك أنشأتَ تطُلُّها وتَضْهَلُها ” ( ) .

وبعد تفسير هذه المفردات يعلق بقوله : ” فإن كانوا إنما رووا هذا الكلام لأنه يدل على فصاحة , فقد باعده الله من صفة البلاغة والفصاحة , وإن كانوا إنما دونوه في الكتب وتذاكروه في المجالس لأنه غريب فألفاظ من شعر العجاج وشعر الطرماح وأشعار هذيل تأتي لهم مع حسن الرصف على أكثر من ذلك , ولو خاطب بقوله – المذكور – الأصمعي لظننت أنه سيجهل بعض ذلك , وهذا ليس من أخلاق الكتاب ولا من أدبهم ” ( ) .

وفي هذا التعليق ندرك إلى أي مدى وصل عمق فهمه لهذا العيب وما يحدثه من أثر سيء على فصاحة الألفاظ المفردة , فهو يؤكد أن اللفظ الغريب بعيد كل البعد عن صفة الفصاحة , ولذا فإن الكتاب يتحاشون هذه الألفاظ فهي ليست من أخلاقهم ولا من آدابهم .

ومن ذلك تقبيحه لقول أبي علقمة النحوي الذي يتعقر في الكلام ويتشادق بالغريب فيروي : ” … مالكم تتكأكون عليّ كما تكأكئون على ذي جنة افرنقعوا عني , قيل : دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهندية .. ” ( ) وغيره كثير .

ولم يفته أن يعلل لقبح هذا العيب مما يدل على إدراكه الناضج لما يخلّ بفصاحة الألفاظ المفردة , فيقرر أن اللفظ الغريب والمستكره الذي يأتي عن تكلف وتشدد يكون أعلق باللسان وآلف للسمع وأشد التحاماً بالقلب من اللفظ النبيه الشريف ( ) . وهو بهذا يفطن إلى دقيقة لم نجدها في كتب المتأخرين من علماء البلاغة وهو التعليل لقبح هذا العيب وهجنته ورداءته بأن اللسان يتعلق به اللفظ القبيح ويكون من الصعب تخلصه منه كما أن الأذن تعيه , والقلب يحفظه أكثر من اللفظ السليم البريء من هذا العيب .

ومما يتصل بهذا العيب مقياس الطبع والتكلف , فهو في نبذه للغريب وتحذيره منه نراه يحذر من التكلف والزخرفة والتصنع بصفة عامة في صناعة الأدب , فيجب أن يكون الأديب ملهماً مطبوعاً في أدبه , وأن يكون أدبه خالياً من التشدق والتقعير والاستكراه , ويستشهد بأحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – ” وإنّ أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون المتشدقون المتفيهقون ” ” إن الله يبغض البليغ الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها ” ( ). ولا أعلم أحداً وصف فصاحة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأجمل فيها وأتمّها من كلام الجاحظ فيها ( ) .

وإذا كان الجاحظ صاحب مذهب في الصنعة وتثقيف الأدب , فإن الصنعة عنده شيء غير التكلف والسماجة وإنما هي تهذيب وتحبير للأدب بعد طول التفكير وترديد النظر , يتفننون في اختيار ألفاظهم ومعانيهم طلباً للكمال وحرصاً على جودة الصناعة . وهو شيء نادى به ودعا إليه وأشاد به فيصرح بأن من شعراء العرب ” من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولاً كريتاً وزمناً طويلاً يردد فيها نظره ويجيل فيها عقله ويقلب فيها رأيه اتهاماً لعقله وتتبعاً على نفسه فيجعل عقله زماماً على رأيه ورأيه عياراً على شعره اشفاقاً على أدبه وإحرازاً لما خوله الله تعالى من نعمته وكانوا يسمون تلك القصائد : الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات ليصير قائلها فحلاً خنذيداً وشاعراً مفلقاً ” ( ).

ولذا فإن هؤلاء الأعراب الأقحاح – مع تجويدهم لشعرهم وتنقيحهم له – كانوا يميلون مع الطبع فجاء شعرهم لا استكراه فيه ولا تكلف بل جرى مع طبعهم وسجيتهم , بينما نجد التكلف شأن المولدين , ولذا فإن الجاحظ يفرق بين البدوي والحضري في استعمال الغريب واستخدام كل منهما له , فهو يرى أن استخدام البدوي للغريب ليس فيه سماجة أو تكلف , وإنما هو ميل مع طبعه وبيئته , أما الحضري فإن استخدامه للغريب لا يكون موافقاً لطبعه وإنما يكون عن تكلف واستكراه واستجلاب للشيء من غير معدنه ( ) .

ثانياً : تنافر الحروف :

وهو كون الكلمة صعبة النطق على اللسان حتى يكاد أن يتعثر بها غير خفيفة على الآذان فتكد لسان الناطق  وتنفر منها أذن السامع . وقد تنبه الجاحظ إلى هذا العيب وأشار إليه وإن لم يصرح بهذا الاسم , إلا أنه عطفه وقرنه بتنافر الكلمات , فأوضح أن اللفظ ينبغي أن ” يكون خفيفاً على اللسان سهلاً  () .

وقد نقل عن بشر أن المنازل التي يجب أن ينزلها الأدباء والكتاب ثلاث منازل , وأولى هذه المنازل أن يكون اللفظ رشيقاً عذباً وفخماً سهلاً ( ) . وإذا كان اقتران الألفاظ بعضها ببعض ينبغي أن يكون على نسق خاص وبتأليف منسجم فإن اقتران الحروف في الكلمة ينبغي أن يكون مما يؤدي إلى انسجام في الكلمة بحيث تبدو حروفها متآلفة متآخية ليس بينها تنافر فلا يليق أن تؤلف الكلمة من حروف متقاربة المخرج فيؤدي ذلك إلى تنافرها وثقلها على اللسان وتعسره عند أدائها .

وقد أوضح ذلك صريحاً في قوله : ” فأما اقتران الحروف فإن الجيم لا تقارن الظاء , ولا القاف ولا الطاء والغين بتقديم ولا بتأخير , والزاي لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال بتقديم ولا بتأخير ( ) .

ثالثاً : مخالفة القياس اللغوي :

وهو كون الكلمة مخالفة للاستعمال الوارد عن العرب , والذي ضبطه علم الصرف , وقد فطن الجاحظ إلى هذا العيب ونبه إليه , وعدّ الكلمة إذا جاءت مخالفة لما ورد عن العرب عُدّت ساقطة بسبب هذه المخالفة , وخرجت عن الفصاحة , فمما يرويه أنه قعد قدّام زياد رجل ضائعي – من قرية باليمن يقال لها ضياع – وزياد يبني داره , فقال له : أيها الأمير , لو كنت عملت باب مشرقها قبل باب مغربها , وباب مغربها قبل مشرقها ! فقال : أنّى لك هذه الفصاحة ؟ قال : إنها ليست من كتاب ولا حساب , ولكنها من ( ذكاوة ) العقل , فقال : ويلك الثاني شر ” ( ) . فكلمة ذكاوة لم يرد بها استعمال عربي يصححها , وإنما الوارد ذكاء , وقد ضبط القانون الصرفي ذلك بقاعدة وهي إذا وقعت الواو أو الياء متطرفة بعد ألف زائدة قلبت همزة نحو : كساء وسماء وذكاء . ولذا خرجت كلمة ذكاوة عن دائرة الفصاحة .  

ومن خلال هذا العرض لفصاحة الكلمة المفردة عند الجاحظ نجده قد لفت الأنظار – علماء البلاغة المتأخرين – إلى العيوب التي تخل بفصاحتها , وأن المتأخرين وجدوا أصول ضوابطهم في هذا الباب عنده , بل إن الضابط الذي وضعه المتأخرون لا يزيد عن الضابط الذي وجدناه عند الجاحظ وهو أن فصاحة المفرد عبارة عن خلّوه من عيوب ثلاثة : الغرابة والاستكراه , وعدم التئام حروفه وثقله , ومخالفته للاستعمال الوارد عن العرب .

= فصاحة الكلام

في عرضه لمعنى فصاحة الكلام نراه يربطه بتبرئة الكلام مما يعيبه ويخل به ويجعله ساقط الدرجة , وإذا كانت فصاحة الكلام عند المتأخرين تعني خلوصه من عيوب معينة هي : تنافر الكلمات وضعف التأليف والتعقيد اللفظي والمعنوي فإنهم لم يضيفوا إلى ما نثره الجاحظ في كتابه شيئاً ذا بال , اللهم إلا التقسيم والتقعيد اللذين أسرف فيهما بعض المتأخرين .

وفصاحة الكلام عنده تعني خلوصه من كل ما يعيبه , وسلامته من كل ما يخرجه عن دائرة الحسن أو يدخله في دائرة القبيح المعيب . وإليك توضيح هذه العيوب :

أولاً : تنافر الكلمات , وهو أن تكون الكلمات بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها متتابعة . وقد أفصح الجاحظ عن رأيه في هذا العيب شارحاً له محدداً إياه بما فيه دليل على عمقه وإدراكه لهذا العيب كما يدل دلالة قاطعة على وضوح الضوابط البلاغية في عقله , وعلى استنادها على أساس متين من الحس المرهف والذوق العربي الأصيل . يقول : ” إذا كان الشعر مستكرَهاً , وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلا لبعض كان بينها من التنافر ما بين أولات العَلّات , وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مرضياً موافقاً كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة ” ( )  .

ويوضح هذا التشبيه – تشبيه الكلمات المتنافرة بأولاد العلا الذين لا تصفو نفوسهم ويتربص كل منهم العداوة لأخيه – بقول الشاعر :     وبعض قريض القوم أولاد علة     يكد لسان الناطق المتحفظ .

كما يشبه الكلمات المتنافرة ببعر الكبش الذي فرق بينها الشاعر الدخيل على صناعة الكلام وقرض الشعر فيروي فذلك قول الشاعر :

                           وشعرٍ كبعر الكبش فرّق بينه   لسان دعِيّ في القريض دخيل

ويعلق على هذا البيت ويعلل سبب خروجه عن دائرة الفصاحة , فيقول : ” أما قوله : ( كبعر الكبش ) فإنما ذهب إلى أن بعر الكبش يقع متفرقاً غير مؤتلف ولا متجاور , وكذلك حروف الكلام وأجزاء من الشعر تراها متفقة مُلساً  ولينة المعاطف سهلة ؛ وتراها مختلفة متباينة ومتنافرة مستكرهة , تشق على اللسان وتكُدُّه , والأخرى تراها سهلة لينة ورطبة مواتية سلسة النظام , خفيفة على اللسان حتى كأن البيت بأسره كلمة واحدة , وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد ”  ( ).

وهذا التوضيح الذي نجده في كلام الجاحظ لا نكاد نجده في تعريف المتأخرين وضبطهم لهذا العيب . ولا يكتفي بهذا التحديد والتوضيح بل يسوق الشاهد والمثل بمجموعة من الشعر لم تسلم من هذا العيب فعدت ساقطة غير فصيحة , يقول : ” ومن ألفاظ العرب ألفاظٌ تتنافر وإن كان مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض الاستكراه , فمن ذلك قول الشاعر :

وقبر حرب بمكان قفر     وليس قرب قبر حرب قبر .

والمتأمل في هذا الشاهد يجده ينبه إلى أهم الأسباب التي تؤدي إلى تنافر الكلمات , فيقول : ” ولما رأى من لا علم له أنّ أحداً لا يستطيع أن ينشد هذا البيت ثلاث مرات في نسق واحدٍ فلا يتتعتع ولا يتلجلج , وقيل لهم إنّ ذلك إنما اعتراه إذ كان من أشعار الجن صدّقوا بذلك. وقول الآخر :

لم يضرها والحمد لله شيء   وانثنت نحو عزف نفسي ذهولِ  .

يقول : فتفقد النصف الأخير من هذا البيت , فإنك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض ” (  ) .

وهو بهذين المثالين وغيرهما يكاد يحصر أسباب تنافر الكلمات في سببين : تكرار بعض الحروف في كلمات متتالية  وتتابع الإضافات .

ثانياً : ضعف التأليف :

لم يصرح به وإنما نبه إليه في معرض حديثه عن اللحن . وإذا كان اللحن في الكلام هو عدم سيره على وفق سنن العرب في كلامهم بألاّ يجيئ الكلام مطابقاً وموافقاً لطريقهم في تركيب الجمل وبناء العبارات حسبما ضبطه علم النحو , فإن حديث الجاحظ في هذا العيب كان مرتبطاً إلى حد كبير بهذا المعنى .

فنراه يفصح عن مراده في هذا العيب بقوله : ” زعم أصحابنا البصريون عن لأبي عمرو بن العلا أنه قال : ” لم أر قرويين أفصح من الحسن والحجاج , وكان لا يبرئهما من العيب واللحن ” ( ) .

ويؤكد الجاحظ أن الإخلال بالضوابط النحوية يفسد الكلام ويخل بالبيان فيصرح بأن : أصحاب هذه اللغة لا يفقهون قول القائل منا : مكره أخاك لا بطل , و إذا عز أخاك فهِن , ويقصد الإعراب : فمكره خبر مقدم , وأخاك نائب فاعل سدّ مسد المبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الألف للتعذر وهذه لغة .

ويجوز إعرابه خبر مقدم مبتدأ مؤخر , وهي لغة تميم . ثم قال : ومن لم يفهم هذا لم يفهم قولهم : ذهبت إلى أبو زيد ورأيت أبي عمرو ( ) .

 

ثالثاً : التعقيد :

في الكلام الذي أراده الجاحظ هو ما عناه البلاغيون بعده ورددوه وحدوه بأن يكون الكلام غير ظاهر الدلالة على المراد منه ؛ لخلل واقع في لفظه أو معناه . ويوضح الجاحظ مقصوده بهذا العيب فيما رواه عن معاوية أن قال يوماً لجلسائه : من أفصح الناس ؟ فقال قائل : قوم ارتفعوا عن لخلخانية الفرات – يقصد العجمة – , وتيامنوا عن عنعنة تميم وتياسروا عن كسكسة بكر , ليس فيهم غمغمة – كلام غير مبين – قضاعة ولا طمطانية حمير , قال : من هم ؟ قال ” قريش , قال ممن أنت ؟ قال : من جرم , قال : اجلس . وفي هذا إشارة إلى التعقيد الذي ينغلق بسببه الكلام ولا يكون ظاهر الدلالة على المراد منه .

= فصاحة المتكلم

إذا استطاع الإنسان أن يعبر تعبيراً صحيحاً واضح المعنى سهل اللفظ بريئاً من العيوب عن كل ما يجول بخاطره  أو يجيش بصدره من الأغراض والمعاني فهو فصيح  .

** معنى البلاغة

الواقع أن مفهوم البلاغة عند الجاحظ يدور حول المطابقة والفصاحة , أعني : مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته وحسن سبكه وجودة رصفه , وهذان العنصران – المطابقة والفصاحة – هما جناحا البلاغة في أحاديثه عن معناها , وقد ارتبطا – عنده – ارتباطاً وثيقاً بهذا المعنى .

فالعنصر الأول وهو المطابقة نراه يفصح عن ارتباطه بمعنى البلاغة في قوله : ” لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحدٌ قط , سئل : ما البلاغة ؟ قال : البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة , فمنها ما يكون في السكوت , ومنها ما يكون في الاستماع , ومنها ما يكون في الإشارة , ومنها ما يكون في الاحتجاج , ومنها ما يكون جواباً , ومنها ما يكون ابتداء , ومنها ما يكون شعراً , ومنها ما يكون سجعاً وخطباً ومنها ما يكون رسائل ..وإذا أعطيت كل مقام حقه , وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام , وأرضيت من يعرف حقوق الكلام , فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو , فإنه لا يرضيهما شيء , وأما الجاهل فلست منه وليس منك , ورضا جميع الناس شيء لا تناله ” ( ) .

فإعطاء كل مقام حقه ووضع الكلام موضعه ومراعاة الأحوال والمناسبات أمر تقوم عليه البلاغة , ولا تتحقق بدونه , وهذا ما عناه بقوله مفصحاً عن رأيه ” لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه , ولفظه معناه , فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك ” ( ) . ومعلوم أن الكلام لا يتسابق لفظه ومعناه إلى القلب حتى يقع موقعه , ويصادف الحال التي تناسبه , فالمطابقة – عنده – عنصر مهم تقوم عليه بلاغة الكلام , وينبغي للأديب أو المتكلم أن يراعيها حتى يقع كلامه موقع الحسن والقبول ويحقق معنى البلاغة في كلامه

ولم يغفل الجاحظ العنصر الآخر في معنى البلاغة وهو الفصاحة , فيذكر تعريف العتابي للبلاغة في قوله : ” كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ ” ( ) . والجاحظ يقرر أنه ليس كل كلام عنده أدّى المعنى وأفهم المراد وطابق الحال محكوماً له بالبلاغة , بل لابد أن يكون الكلام صحيحاً سليماً من العيوب خالياً من اللحن فيصرح بأن ” من زعم أن البلاغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل جعل الفصاحة واللكنة والخطأ والصواب والإغلاق والإبانة والملحون والمعْرب كله سواء وكله بيناً وكيف يكون ذلك بياناً , ولولا طول مخالطة السامع للعجم وسماعه للفاسد من الكلام لما عرفه , ونحن لم نفهم عنه إلا للنقص الذي فينا , … وإنما عنى العتابي إفهامك العرب حاجتك على مجارى كلام العرب الفصحاء ” ( ) .

ويفهم من كلام الجاحظ أنه يدرك تماماً أن معنى الفصاحة داخل في معنى البلاغة , وأن البلاغة لا تتحقق إلا بتحقق الفصاحة أولاً , بخلو الكلام من التنافر والإغلاق واللحن وغير ذلك  .  

ونرى هذا الربط بين العنصرين , فيما رواه عن عمرو بن عبيد فقد قيل له : ما البلاغة ؟ قال : كأنك تريد تخير اللفظ في حسن الإفهام , قال : نعم , إنك إن أوتيت حجة الله في عقول المكلفين , وتخفيف المؤونة على المستمعين وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالألفاظ المستحسنة في الآذان المقبولة عند الأذهان رغبة في استجابتهم .. كنت قد أوتيت فصل الخطاب ” ( ).

ونراه في كل ما نقله ورواه من تصورات الأمم والعلماء والأدباء لمعنى البلاغة ينقل ما يدور في فلك هذين العنصرين : المطابقة لمقتضى الحال والفصاحة .

1  = مطابقة الكلام لمقتضى الحال :

الحال هو الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يعبر في كلامه الذي يؤدي به أصل المراد خصوصية ما , كالتقديم أو التأخير أو الحذف أو الإيجاز , وأن تلك الخصوصية هي مقتضى الحال واشتمال الكلام على تلك الخصوصية التي تناسب الحال هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال .

ومن المعلوم أن هذه المطابقة هي علة التأثير وتحقيق غاية الأدب , وهذه الغاية لا تتحقق إلا إذا كان الأديب يصوغ كلام بحيث يفهمه السامعون ليتدبروه ويتأثروا به ويشاركوا صاحبه فيما عبر به من فكر أو عاطفة أو انفعال

وقد كان بشر بن المعتمر من أوائل الذين تنبهوا إلى هذا الأثر الذي تحدثه المطابقة , ” فالمعنى ليس يشرف – عنده – بأن يكون من معاني الخاصة وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة , وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال ( ) .

ثم يقول : ” والمتكلم ينبغي أن يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما , ولكل حالة من ذلك مقاماً ..” ( ). ويقول في موضع آخر : ” أن لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمَة , ولا يكلم الملوك بكلام السوقة ” ( ) . ويقرر الجاحظ مقامات الكلام ويرى أنها متفاوتة فيكون ذكر المبسوط في موضعه , والمحذوف في موضعه ( ) .  

ومن مطابقة الكلام لمقتضى الحال وجوب تحريالموضوع أو الغرض المتحدث عنه واختيار ما يلائمهويناسبه من الألفاظ , يقول في الحيوان ” ولكلضرب من الحديث ضرب من اللفظ ولكل نوع منالمعاني نوع من الأسماء فالسخيف للسخيفوالخفيف للخفيف والجزل للجزل والإفصاح فيموضع الإفصاح والكناية في موضع الكنايةوالاسترسال في موضع الاسترسال .. ” ( ) .

2  = النظم :

كان الجاحظ من أوائل الذين تصدوا لرأي أستاذه النظام , ولم يعجبه القول بالصرفة , فذهب إلى أن إعجاز القرآن في نظمه , وألف كتابه ” نظم القرآن ” الذي يعد ضمن النفائس المفقودة من تراثنا العلمي , والذي يقول عنه أبو الحسين الخياط ” لا يعرف كتاب في الاحتجاج لنظم القرآن وعجيب تأليفه وأنه حجة محمد – صلى الله عليه وسلم على نبوته غير كتاب الجاحظ ”  ( ) . وإذا كان فقد الكتاب لم ييسر لنا قراءته فإننا نعرف ماذا يعني بكلمة { النظم } في الكتاب , فنظم القرآن عنده ليس في أنه جاء على ألفاظ وكلمات لم تعهدها العرب , فإن ألفاظ القرآن ألفاظ عربية يعرفها العرب على اختلاف قبائلهم ولهجاتهم ولكن نظمه في ضمّ كلماته بعضها إلى بعض على نسق خاص وبطريقة مخصوصة . وحين يتكلم عن نظم الشعر وتأليفه يقر أن ” أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغاً واحداً وسبك سبكاً واحداً فهو يجري على اللسان كما يجري على الدهان ( ) .

وضم الكلمة إلى الكلمة والتأليف بين الألفاظ في نسق واحد وفي نظم مترابط مما يتطلب مقدرة خاصة واستعداداً لا يتهيأ لجميع الناس , ويؤيد الجاحظ ذلك بما رواه عن الكسائي , ” فقد قال الكسائي : لقيت أعرابياً فجعلت أسأله عن الحرف بعد الحرف والشيء بعد الشيء أقرنه بغيره , فقال : تالله ما رأيت رجلاً أقدر على كلمة إلى جنب كلمة أشبه شيء بها وأبعد شيء منها منك ” ( ) .  

وإذا كان تأليف الكلام ونظمه يقتضي وضع كل كلمة موضعها الصحيح بحيث تأخذ مكانها في النظم فإن اللفظة تحسن في موضع وتقبح في موضع آخر بل إن اللفظ القبيح إذا وضع موضعه وصار إلى مكانه في النظم والتأليف حسن . ويفصح الجاحظ عن هذا بقوله : ” قد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ والشريف الكريم من المعاني كما أن النادرة الباردة جداً قد تكون أطيب من النادرة الحارة جداً ” ( ).

فالمدار عنده على التلاؤم والانسجام بين أجزاء الكلام وأن تقرّ الكلمات والألفاظ قرارها وتوضع موضعها . وقد حدد مفهوم هذه القضية عبد القاهر فقال : ” واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها ” .

ومن يتتبع عبد القاهر في كتابيه ويدرك مدى تأثره بالجاحظ ثم يقف على ما نثره الجاحظ في كتابه من جوانب متصلة بالنظم لأدرك أن الجاحظ لم يغفل الجانب النحوي في التأليف والنظم , وأن عبد القاهر وجد كثيراً من أصول نظريته عند الجاحظ , فالجاحظ يصرح في أكثر من موضع أن النحو أساس في صناعة الكلام وأن التأليف إذا لم تراع فيه هذه المعاني النحوية والفروق الدقيقة بينها سقط الكلام وأصبح مبهرجاً قليل الغناء .

وإذا كان الجاحظ يعول على النظم والتأليف فإنه لم يعن به القواعد النحوية والقوالب الجافة دون نظر إلى ما تنطوي عليه هذه القواعد من معان وأسرار وإنما يعني تلك المعاني النحوية التي هي مدار المفاضلة وموضع الإمتاع والمؤانسة والتي سماها عبد القاهر معاني النحو .  

اللفظ والمعنى :

نظر كثير من الباحثين سواء من القدماء أو المعاصرين إلى الجاحظ على أنه من أنصار اللفظ الذين يقدمون العناية بالشكل والصورة ويرون أن الصياغة هي المقوم في الأدب , ويطرحون المعاني ولا ينظرون إليها متكئين على قوله بأن أبا عمرو الشيباني كان من أنصار المعنى فلا يحف به غير معتد بالصياغة واللفظ ( ) .

وكثيرا ما أسيء فهم كلام الجاحظ من عدد كثير من النقاد في عبارته ( المعاني مطروحة في الطريق .. ) والواقع أن الجاحظ إذا كان قد اهتم بجانب اللفظ إلا أنه لم يهمل جانب المعنى , فاللفظ عنده له شأنه في تقويم الأدب , وللمعنى أثره الذي لا يجحد على روعة هذا الأدب وجماله , يقول : ” وقال بعضهم وهو من أحسن ما اجتبيناه ودوناه : لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك ” ( ) .

وهذا التعريف للبلاغة استحسنه الجاحظ واختاره لأنه يتفق مع مذهبه الذي يدعو إلى التجويد اللفظي وحسن الصياغة مع تحري المعاني الشريفة , وهذا التعريف يحمل في مضمونه النظم وسياسة النظم فهناك سياسة ومعالجة نستوحيها من قوله : ( يسابق معناه لفظه ولفظه معناه ) , وهذا لا يكون إلا بملكة البلاغة وليس بالبلاغة لأن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال لكن ملكة البلاغة هي الذوق , وهي التي يقول عنها الجاحظ ” وكان سهل بن هارون يقول : ” سياسة البلاغة أشد من البلاغة ” () فإنك إذا أعطيت الكلام حقه من البلاغة والذوق الخاص العالي الرفيع تكون قد أرضيت جهابذة الألفاظ ونقاد المعاني . انظر : البيان والتبيين ( )

ويقول : ” ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ , ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء : فالسخيف للسخيف والخفيف للخفيف والجزل للجزل والإفصاح في موضع الإفصاح والكناية في موضع الكناية  والاسترسال في موضع الاسترسال” . إذن هو في هذا النص يومئ إلى العلاقة الوثيقة بين الألفاظ ومعانيها ( )

ولعل الذي جعله يصرّح بهذا الكلام الذي جعل الكاتبين ينظرون إليه على أنه من أنصار اللفظ هو ما رآه في عصره من العناية الزائدة والاهتمام بالكثير من المحسنات البديعية والإكثار منها , وجري كثير من الشعراء والكتاب وراءها تاركين العبارة الفخمة واللفظ المعبر والأسلوب المطبوع الرصين وطغيان ذلك على الأدب هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى ما رآه من الكثيرين من نقاد الأدب والمشتغلين به من اهتمامهم بالمعاني على إطلاقها والإشادة بها دون نظر إلى الألفاظ , فأراد أن يبين أن الألفاظ والصياغة لها شأنها ولابد من مراعاتها والاهتمام بها كما يهتم بالمعاني …( )

الجاحظ لم يفرق بين اللفظ والمعنى في التأثير على النفوس , سواء كان هذا التأثير حسناً أو سيئاً , فنراه لا يغفل ما تحدثه الألفاظ أو المعاني – على حد سواء – من أثر سيئ في القلوب إذا جاءت المعاني سخيفة أو الألفاظ قبيحة فيقرر أن ” سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني , وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع , وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ والشريف الكريم من المعاني ( ) . ويقول في موضع آخر : ” والمعاني إذا كُسِيت الألفاظ الكريمة , وأُلبست الأوصاف الربيعة تحولت في العيون عن مقادير صورها وأرْبَتْ على حقائق أقدارها بقدْر ما زُيّنت وحَسَبِ ما زُخْرِفت فقد صارت الألفاظ في معاني المعارض وصارت المعاني في معنى الجواري والقلب ضعيف وسلطان الهوى قوي ومدخل خُدَع الشيطان خفيّ ” ( ) .

إذن يمكننا القول أن الجاحظ لما أثار قضية الفصل بين اللفظ والمعنى كان بصدد الحديث عن أهمية الصياغة الشكلية في الشعر , أما القاعدة العامة عنده فتقوم على مطابقة اللفظ للمعنى ومؤاتاتها معاً لمقتضيات الحال وظروف القول لتحقيق وظيفة اللغة الجمالية والتواصلية ضمن سياق الحضور النفسي للصورة الشعرية .

 

 

** مسائل في علم المعاني :

1-  الحذف :  

الشواهد التي ساقها الجاحظ في بابي الحذف – باب ما قالوا من الحديث الحسن الموجز ( ) , وباب من الكلام المحذوف – حذف الخبر , وحذف جملة بأكملها – ( )  كثيرة ومتعددة غير أنه يتضح أنه تعرض لحذف المبتدأ وحذف الخبر كما تعرض لحذف الجملة بأسرها وأيضاً إذا كان المحذوف أكثر من جملة .

والجاحظ بحديثه المستفيض عن الحذف وبيان فضله وإشاراته الواضحة إلى أقسامه أوحى للبلاغيين بعده حديثهم عن الحذف وأهميته وبيان أقسامه فقسموه إلى ثلاثة أقسام : حذف جزء جملة , وحذف جملة بأكملها , وحذف أكثر من جملة ولم يضيفوا إلى ما قاله الجاحظ إلا ما تعرضوا له في حذف بعض أجزاء الجملة من حذف الفاعل والمفعول وسائر متعلقات الفعل وغيرها من أجزاء الجملة . واكتفى الجاحظ بالإشارة إلى أهم جزئين في الجملة هما المبتدأ والخبر ( ) .  

2-  عرض الجاحظ لكثير من الصور التي جاء الكلام فيها مخالفاً لمقتضى الظاهر , وهاك بيانها :

1-  الكلام الذي يذهب السامع منه إلى قصد صاحبه , ويعني الجاحظ بهذا النوع الكلام الذي يأتي به المتكلم وفقاً لفهم السامع ومجراه في كلامه , وإن خالف مقتضى الظاهر , وهذا النوع من صور تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر لم يتعرض له البلاغيون .

وقد مثل له الجاحظ بقوله : ” وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ” وقوله : ” لا يموت ولا يحيي ” ” يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ” ففي هذه الأساليب جاء الكلام مخالفاً لمقتضى ظاهر الحال والمقام , فليس في يوم القيامة سكر حتى يعبر عنهم بسكارى , والحمل على الاستعارة أو التشبيه بعيد لقوله : ” وما هم بسكارى ” كما أنه ليس في جهنم موت ولا حياة , والموت لا يأتيه لأنه ليس بميت , وسئل المفسر عن قوله : ” لهم رزقهم فيها بكرة وعشياً ” فقال : ليس فيها بكرة ولا عشي .وقال لرسوله – صلى الله عليه وسلم – ” فإن كنت في شكٍ مما أنزلنا إليك فسل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ” قالوا : لم يشك ولم يسل ( ) . وإنما جاء الكلام مخالفاً لهذا الظاهر جرياً مع ما يفهمه السامع وتقريباً لفهمه .

وقد أدرج الجاحظ تحت هذا النوع أمثلة لما أسماه البلاغيون بعده { الأسلوب الحكيم } , فيذكر من هذه الأمثلة أن رجلاً سأل بلال وقد أقبل من جهة الحلبة فقال له : من سبق ؟ قال : سبق المقربون . قال : إنما أسألك عن الخيل , قال : وأنا أجيبك عن الخير , فنزل بلال جواب لفظه إلى خبر هو أنفع له ” ( ) .    

2-  اللغز في الجواب : هذا النوع عند الجاحظ أعم مما عرف بالأسلوب الحكيم فالمقصود به عنده هو : تلقي المخاطب أو السائل بغير قصده سواء كان لقصد التنبيه إلى ما هو أولى , أم كان لقصد الألغاز في الرد على المخاطب أو السائل . وقد عقد باباً مستقلا ( ) , وساق في هذا الباب الكثير من الأمثلة والشواهد لهذا النوع مثل قولهم : كان الحطيئة يرعى غنما وفي يده عصا , فمر به رجل فقال : يا راعي الغنم ما عندك ؟ قال عجراء من سَلَم يعني عصاه قال : إني ضيف , قال : للضيفان أعددتها ” ( ) . فتلقي السائل هنا بغير ما يطلب أعم من أن يكون المقصود تنبيهه على أنه الأولى بالسؤال , فليس هنا ما يدعو إلى السؤال عن العصا حتى يكون هو الأولى .

ومن الأمثلة التي ذكرها ما رواه أن أزهر بن عبد الحارث أتاه رجل من بني يربوع فقال : ألا أدخل ؟ قال : وراءك أوسع لك . قال : قد أحرقت الشمس رجلي , قال : بُلْ عليهما تبردا . فقال : يا آل يربوع ! , قال : ذليلاً دعوت , يا بني دريص – مصغر درص وهو ولد اليربوع – أطعمتكم عاماً جلة فأكلتم جلتكم , وأغرتم على جلة الضيفان ( ) . ففيه ما يعمّ تلقي المخاطب والسائل – كليهما – بغير طلبهما , وليس فيه تنبيه إلى شيء آخر , ولكن المقصود هو الألغاز في جواب المخاطب أو السائل .

وليس المقصود بالألغاز في هذا الباب التعمية والإبهام ولكن المقصود هو الجنوح بكلام المخاطب أو السائل عن غير قصده وصرف كلامه إلى معنى آخر لغرض من الأغراض التي يحددها المقام والسياق كاحتقار السائل وعدم الاهتمام به في قول الحطيئة , والإعراض عن المخاطب وتسفيهه في كلام أزهر .

3-  القلب : وهو في اصطلاح البلاغيين جعل جزء من الكلام مكان جزء آخر على وجه يثبت حكم كل منهما للآخر , كقول العرب : عرضت الناقة على الحوض . هذا من القلب المعنوي , لأن المعروض عليه يجب أن يكون ذا شعور واختيار لأجل أن يميل إلى المعروض أو يحجم عنه , ولكن لما كان المعتاد في ذلك أن يؤتى بالمعروض إلى المعروض عليه , وكانت الناقة هي التي يؤتى بها إلى الحوض نُزّل كل منهما منزلة الآخر , وقيل : إنه لا قلب في ذلك وإنما القلب في عرضت الحوض على الناقة لأن المعروض عليه هو المستقر .

وقد تعرض الجاحظ في كتابه لهذا النوع , ونص عليه صراحة في باب نعته بـــــــ{ باب تأديب من تأديب العلماء } فيروي أن سعيد بن عثمان قال لطويس المغنى : ” أيّنا أسنّ , أنا أم أنت يا طاووس ؟ قال : بأبي أنت وأمي , لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى أبيك الطيب ” ويعلق على هذه الرواية بما ينبئ عن وضوح المعنى معنى القلب عنده فيقول : ” فانظر إلى حذقه وإلى معرفته بمخارج الكلام , كيف لم يقل : زفاف أمّك الطيبة إلى أبيك المبارك  وهكذا كان وجه الكلام فقلب المعنى ” ( ) .

3-  الفصل والوصل : كان حديث الجاحظ في مسائل هذا الباب مقتضباً اكتفى فيه بالتلميح دون التصريح وبالتمثيل دون الشرح والإطالة ( ) .

4-  الإيجاز والإطناب :

أفاض الجاحظ في حديثه عن الإيجاز والإطناب . فالإطناب عنده التعبير عن المعاني بما كثر من الألفاظ وزاد عن حاجة هذه المعاني . وقد كان أول ما ذكره عن الإطناب أن العرب تجعل الحديث والبسط والتأنيس والتلقي بالبِشر من حقوق القرى ومن تمام الإكرام به , وقالوا : من تمام الضيافة الطلاقة عند أول وهلة وإطالة الحديث عند المواكلة ( ) .

ويقول : ” جميع خطب العرب من أهل المدر والوبر والبدو والحضر على ضربين : منها الطوال ومنها القصار ولكل ذلك مكان يليق به وموضع يحسن فيه ( ) . ويروي في ذلك قول أبي داوود :    

                  يرمون بالخطب الطوال وتارة      وحْىَ الملاحظ خيفة الرقباء ( ) .

فمدح كما ترى الإطالة في موضعها والحذف في موضعه . فالمدار عنده على المطابقة . أما إذا خرج الإطناب عن دائرة المطابقة لمقتضى الحال , وجاء مخلاً بالغرض المطلوب , وفيه من الإفراط والإسهاب ما يجعل الأذواق تمجّه والأسماع تلفظه فإنه يخل ببلاغة الكلام ويجعله ساقط الدرجة ” فرب كثير لا يتعلق به صاحب القليل ” ( ) ويصرح بذلك في قوله : ” فأما ما ذكرتم من الإسهاب والتكلف والخطل والتزيد فإنما يخرج إلى الإسهاب المتكلف وإلى الخطل المتزيد ” ( ) . وقد نبه الجاحظ إلى نوعين من أنواع الإطناب :

الأول : التكرار وسماه { ترداداً } ويعني به ما تكرر من أجزاء الكلام أو القصة .

ويروي أن ابن السماك جعل يوماً يتكلم وجارية له حيث تسمع كلامه فلما انصرف إليها قال لها : كيف سمعت كلامي ؟ قالت : ما أحسنه , لولا أنك تكثر ترداده . قال : أردده حتى يفهمه من لم يفهمه , قالت : إلى أن يفهمه من لا يفهمه قد ملّه من فهمه ” ( ) . أما التكرار في القرآن فهو عنده يدور حول المناسبة والغرض الذي سيق الكلام من أجله .

 

 

 

الثاني : إصابة المقدار – المساواة –

وعنى به أن يأتي المتكلم بكلام على قدر معناه , بحيث إذا أراد أن يخرج منه شيئاً أتى من الألفاظ بما يخرجه . وقد خص الجاحظ هذا النوع بباب مستقل صدّره بقوله : ” ويذكرون الكلام الموزون ويمدحون به ويفضلون إصابة المقادير ويذمون الخروج من التعديل , قال الشاعر :

إذا حُسِرت عنه العمامةُ راعها    جميل الحفوف أغفلته الدواهنُ

فإن أك معروق العظام فإنني       إذا ما وازنت بالقوم وازنُ ” ( )

فقد أصاب المقدار في الشطر الثاني من البيت الثاني ولو لم يقل هذه العبارة لكان في كلامه تعميم غير مقصود ربما سبق إليه وهم السامع فرفع الشاعر هذا الوهم بتضمين كلامه هذه العبارة .

ومن الأمثلة قول طرفة :         فسقى ديارك غير مفسدها    صوب الربيع وديمة تهمي .

فقد طلب الغيث على قدر الحاجة , لأن الفاضل ضار . وقد أخذه البلاغيون عن الجاحظ وسمّوه الاحتراس أو التكميل , وعرّفوه بما عناه به .

** الإيجاز :

يحدد الجاحظ مفهوم الإيجاز بأنه الجمع للمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة ( ) . ثم يتوسع في مفهومه فيصبح الإيجاز عنده أداء حاجة المعنى سواء أكان ذلك الأداء في ألفاظ قليلة أم كثيرة , وقد يطول الكلام في رأيه ويعد إيجازاً لأنه وقف عند منتهى البُغية ولم يجاوز مقدار الحاجة ( ) .

وهذا يعني أن لم يَعْنِ بالإيجاز مجرد قصر الألفاظ وقلة كميتها وإنما أراد مساواتها الدقيقة للمعاني دون زيادة , وقد يمتد الكلام صفحات ويسمى موجزاً . ويقول في موضع آخر : فأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره ” وربّ قليل يغني عن الكثير , بل ربّ كلمة تغني عن خطبة ” ( ) . ووصف أعرابي بالإيجاز والإصابة فقال : ” كان والله يضع الهِناء مواضع النُّقْب ” ويقولون في إصابة عين المعنى بالكلام الموجز : فلان يفُلُّ المحَزّ ويصيب المفصل ” أخذوا ذلك من صفة الجزار الحاذق , فجعلوه مثلاً للمصيب الموجز ( ) .

وقد ألمح الجاحظ إلى إيجاز القصر فقد روى طائفة من الشعر في باب فضل الإيجاز صدرها بقوله : ” ومما قالوا في الإيجاز وبلوغ المعاني بالألفاظ اليسيرة .. ” ( ) . وعقد لهذا النوع باباً أسماه باب القول في المعاني الظاهرة باللفظ الموجز من ملتقطات كلام الناس ( ) أما الإيجاز بالحذف فقد عرض له في باب الحذف .

** مسائل في علم البيان

1** التشبيه : من شواهد الجاحظ التشبيهية التي لم ترد صراحة تحت عنوان التشبيه في البيان والتبيين قول بشار في تشبيه عنق واصل بن عطاء بنِقْنِقِ الدّو :

ما لي أشايعُ غزالاً له عُنقٌ    كنقنق الدّوِ إنْ ولّى وإنْ مَثَلا

وقول عنترة حين جعل نعيب الغراب خبراً للزاجر  

حَرَقُ الجناحِ كأن لحيَيْ رأسه    جلمان بالأخبار هشٌ مولَعُ

قال الجاحظ : شبه لحييه بالجلمين , لأن الغراب يُخبرّ بالفرقة والغربة ويقطع كما يقطع الجَلَمان ( ) .

أما حديثه عن الصورة البيانية في كتابه الحيوان كان أغنى وأغزر مادة من حديثه عنها في البيان والتبيين , يقول في معرض حديثه عن السرقات : ” ولا يعلم في الأرض شاعر مقدم في تشبيه مصيب تام وفي معنى غريب عجيب أو في معنى شريف كريم , أو في بديع مخترع إلا وكل من جاء من الشعراء من بعده أو معه إن هو لم يقدر على لفظه فيسرق بعضه أو يدعيه بأسره …إلا ما كان من عنترة في صفة الذباب , فإنه وصفه فأجاد وصفه , فتحامى معناه جميع الشعراء فلم يعرضوا له , ولقد عرض له بعض المحدثين ممن كان يحسن القول فبلغ من استكراهه لذلك ومن اضطرابه فيه إنه صار دليلا على سوء طبعه في الشعر . قال عنترة :

وخلا الذباب بها فليس ببارح      غرداً كفعل الشارب المترنم

هزجاً يحكّ ذراعه بذراعه          قدحَ المكبِّ على الزناد الأجذم

قال : يريد فعل الأقطع المكب على الزناد والأجذم : المقطوع اليدين , فوصف الذباب إذا كان واقفاً ثم حكّ إحدى يديه بالأخرى , فشبهه عند ذلك برجل مقطوع اليدين يقدح بعودين , ومتى سقط الذباب فهو يفعل ذلك ولم أسمع في هذا المعنى بشعر أرضاه غير شعر عنترة ” ( ) . قال البغدادي في الخزانة : لم يقل أحد في معناه مثله , وقد عدّه أرباب الأدب من التشبيهات العقم .

وقد عقد الجاحظ في البيان والتبيين باباً للتشبيه نعته { باب من الشعر فيه تشبيه الشيء بالشيء } أتى فيه بمثالين للتشبيه اختلفت فيهما الأداة , قال الشاعر :

بدا البرق من نحو الحجاز فشاقني    وكلُّ حجازيٍّ له البرقُ شائق

سرى مثل نبض العرق والليل دونه   وأعلام أُبْلَى كلُّها والأسالق .

أرقت لبرقٍ آخر الليل يلمع        سَرَى دائباً حيناً يهب ويهجع

سرى كاحتساء الطير والليل ضارب    بأرواقه والصبح قد كاد يسطع  ( ) .

ومن شواهده أيضاً قوله :

وعند الفزاري العراقي عارض    كأن عيون القوم في نبضة الجَمْر

فقد شبه عيون الناس في الحرب والغضب بنبضة الجمر ( ) . وتحدث عن وجه الشبه فذكر قول الشاعر :

إذا قامت لحاجتها تثنت     كأن عظامها من خيزران ( ) .

شبهت عظام المرأة بالخيزران في لينها وتمايلها إذ كانت الخيزران أعرف بهذا المعنى من أي شيء آخر  . وقد تنبه الجاحظ إلى أن الشيء الواحد يشبه به في أمور عدة كالغصن مرة يشبه به في النضارة وكثرة الإيراق , ومرة يجعل قضيباً يشبه به في العرى وفقدان النضارة , ومرة يشبه به في اللين والتثني ( ) . ومنه :

وليلٍ كجلباب العروس ادّرَعْتُهُ       بأربعة والشخصُ في العين واحدُ

قال الجاحظ : فإنه ليس يريد لون الجلباب , ولكنه يريد سُبوغه ( ) . أي : طوله , وادرعته : لبسته كما يلبس الدرع , والأربعة التي شخصها واحد في العين : أي التي يراها الناظر شخصاً واحداً .  

ومن الأمور التي تجعل التشبيه بعيداً غريباً أن يندر حضور صورة المشبه به في الذهن عند استحضار صورة المشبه لما يكون من بعد التناسب بين الصورتين , وقد ألمح الجاحظ إلى هذه الصورة فيما رواه من قول الطائي في صفة الأسد :

                    للصدر منه عويل فيه حشرجة      كأنما هو من أحشاء مصدور ( )

فالبعد واضح في هذا التشبيه إذ أن حضور صورة المشبه به وهو صوت أحشاء المصدور مما يندر عند استحضار صورة المشبه وهو صوت الأسد وعويله . وعرض للجمع بين التشبيهات فقال : لم أر أجمع من قول امرئ القيس :                      له أيطلا ظبي وساقا نعامة     وإرخاء سرحان وتقريب تتفل ( ) .

وقد سقنا بعض شواهده في الحيوان ( ) ؛ لنؤكد أنه ربما بحث في موضوعات البلاغة في كتب أخرى فأعفى نفسه من تكرارها في البيان والتبيين .

2** الاستعارة :

اقتصر الجاحظ في كتابه البيان والتبيين على بيان الاستعارة وما يدور حولها في أحاديث منثورة في كتابه , ولم يجر ذكر للمجاز المرسل فيما تعرض له في الكتاب , ولعل السبب في هذا هو ما للاستعارة من أهمية في صناعة الكلام وما تقوم عليه من دفة المسلك ولطف المآخذ ؛ لابتنائها على التشبيه , فالأمر فيها يحتاج إلى تأن في الفهم قد لا يحتاجه المجاز المرسل .

أول ما يلقانا تعريفه للاستعارة بأنها : ” تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه ( ) . وواضح أن البلاغيين استمدوا تعريفهم من هذا الإطار الذي حدده الجاحظ لمفهوم الاستعارة . وقد جاء تعريفه للاستعارة في معرض حديثه عن الاستعارة التبعية في قول الشاعر :

يا دارُ قد غيّرها بِلاها     كأنما بقلم محاها

أخربها عُمْران مَنْ بناها      وكَرُّ ممُساها على مَغناها

وطفِقتْ سحابةٌ تغشاها    تبكي على عِرِاصها عيناها

يقول : قوله : أخربها عمران من بناها : أي : عمّرها بالخراب , وأصل العُمْران مأخوذ من العَمْر وهو البقاء , فإذا بقي الرجل في داره فقد عمرها , ويقول : إنّ مدة بقائه فيها أبلت منها ؛ لأن الأيام مؤثرة في الأشياء بالنقص والبلى , فلما بقي الخراب فيها وقام مقام العُمران في غيرها سمي بالعمران .

وقوله : ممساها , يعني مساءها , ومغناها : موضعها الذي أقيم فيه , والمغاني : المنازل التي كان بها أهلوها , و  طفقت : يعني ظلت تبكي على عراصها , عيناها ههنا : للسحاب , فجعل المطر بكاء على طريق الاستعارة , وتسمية الشيء لاسم غيره إذا قام مقامه , ويقال لكل جدبة منفتقة ليس فيها بناء عرصة ( ) .

ونعتقد أن تحليله للاستعارة في هذا البيت ومات يماثله هي التي جعلت البلاغيين بعده ينظمون مثل هذه الاستعارة في باب الاستعارة التصريحية التبعية إذا أجروا الاستعارة في القرينة أي في مثل { تبكي } في البيت , وقد يجعلونها في باب الاستعارة المكنية أذا أجروا الاستعارة في السحابة . وكأن الجاحظ هو المسؤول عن إدخال مثل هذه الصورة في باب الاستعارة . ويؤكد معنى الاستعارة بالمثال الواضح من القرآن الكريم وهو قول الله عز وجل ” هذا نزلهم يوم الدين “ويعلق بقوله : والعذاب لا يكون نزلاً , ولكن لما قام العذاب لهم في موضع النعيم لغيرهم سُمّي باسمه ( ) .

وواضح من تحليله أن قد أوضح معنى الاستعارة العنادية . وكما وقف الجاحظ مع الاستعارة التبعية والاستعارة العنادية وقف مع كثير من أمثلة الاستعارة التصريحية الأصلية , قال النمر بن تولب :

أعاذل إن يصبح صدايَ بقفرةٍ    بعيدأ نآنى صاحبي وقريبي

ترى أنّ ما أبقيتُ ولم أكُ ربّه     وأنّ الذي أمضيتُ كان نصيبي .

يقول : الصدى ههنا : طائر يخرج من هامة الميت إذا بلي – يعني قبره – فينعى إليه ضعف وليّه وعجْزه عن طلب طائلته , وهذا كانت تقوله الجاهلية , وهو هنا مستعار أي أصبحت أنا ( ) . فالاستعارة هنا في اسم الجنس حيث استعير الصدى لشخص المتكلم .

ومن شواهد الاستعارة المكنية قول نصيب : فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهلُه   ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب فالحقائب تخبر من كثرة انتفاخها أنّ صاحبها كريم جواد , قال الجاحظ وهذا كثير جداً ( ) . ومن بليغ الشواهد وقد جعلها تحت عنوان الإشارة قول الشاعر ( ) :

أشارت بطرف العين خيفة أهلها    إشارة مذعور ولم تتكلم

فأيقنتُ أن الطّرف قد قال مرحباً  وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيّم

لقد أنطق الشاعر الطرف , وجعل الإشارة أبعد مبلغ الصوت

ويمتد حديثه إلى الاستعارة التمثيلية أو المجاز المركب , ويمثل لها بقول يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد , أما بعد : فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ( ) .

3**- الكناية

الواقع أن أفضلية الكناية وأبلغيتها على الإفصاح تدور عند الجاحظ حول تحقيق معنى المطابقة لمقتضى الحال في الكلام , فليس في كل موضع وجدت فيه الكناية تكون أبلغ من الإفصاح , فنراه يصرح بأن الإفصاح والكشف يعملان في العقول ما لا تعمله الكناية فيقول : ” أو ما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والكشف ” ( ) .

وهو لا يعني بذلك أن الإفصاح أبلغ من الكناية أو أنه يقلل من شأن الكناية في موضع الإفصاح , ولا الإفصاح في موضع الكناية , ولكن في الجملة فإن الكناية أبلغ من الإفصاح . وقد كشف عن مراده بقوله : ” ربّ كناية تربي على إفصاح ولحظ يدل على ضمير ” ( ) .

والجاحظ بإدراكه لفضيلة الكناية أدار حديثه عنها بما يشمل أقسامها الثلاثة , ففي الكناية عن الصفة ينقل عن شريح قوله : ” الحدة كناية عن الجهل , وعن أبي عبيدة قوله : العارضة كناية عن البذاء , وإذا قالوا : فلان مقتصد فتلك كناية عن البخل , وإذا قالوا للعامل : مستقصى فتلك كناية عن الجور ” ( ) .

وفي حديثه عن العصا يقولون : طارت عصا فلان شققا , كناية عن التفرق , وعصى الشمل كناية عن الجمع والالتئام . وألقت عصاها كناية عن الإقامة والاستقرار . وضعيف العصا كناية عن الشفقة والرحمة , وصلب العصا كناية عن صلابتها . وتقول العرب في مديح الرجل الجلد الذي لا يفتات عليه بالرأي : ذلك الفحل لا يقرع أنفه , كناية عن التمسك بالرأي ( ) .

وأما الكناية عن الموصوف فقد أشار إلى كثير من أمثلتها وعلق على كثير منها بما ينبئ عن فهمه , فمن أبلغ ما روى قول الشاعر يصف ذئباً :

أطلسُ يخفي شخصَه غبارُه   في شدقه شفرته وناره

هو الخبيث عينُه فرارُه     بَهْمُ بني مُحاربٍ مُزْداره ( )

فقد كنى الشاعر بأطلس عن الذئب الذي طلسته الغبرة السوداء من سرعته , وكنى بالشفرة والنار عن وحشيته وجوعه ؛ لأنه لا يحتاج لأكل فريسته إلى نار وسكين فقد استغنى بأنيابه .

ومن ذلك قول حارثة بن بدر لما تحالفت الأزد وربيعة :

لا تحسبنّ فؤادي طائراً فزعاً     إذا تحالفت ضبُّ البرّ والنُّونُ

فكنى عن الأزد بضب البر وبربيعة بالنون وهو الحوت البحري , ومن المعروف أن هذا التحالف محال .

ومن ذلك أيضاً ما رواه من قول الهذلي :

أعامرُ لا آلوك إلا مهنداً    وجلدَ أبي عجل وثيقِ القبائل .

يعني بأبي عجل : الثور . ويكنون برأس العصا عن صغير الرأس ( ) .

أما القسم الثالث وهو الكناية عن النسبة فقد كان حديثه عنه واضحاً لا غموض فيه , فقد أبرز هذا النوع في تعليقه على قول الشاعر :

                           إذا اخضرت نعالُ بني غُرابٍ    بغوا ووجدتَهم أشرى لئاما .

يقول : فلم يرد صفة النعل , وإنما أراد أنهم إذا اخضرت الأرض وأخصبوا طغوا وبغوا ( ) . فالمقصود من هذه الكناية نسبة الاخضرار إلى الأرض , فأثبتها للنعال ؛ لينتقل الذهن إلى نسبتها إلى الأرض , فهي كناية عن نسبة .

** علم البديع وفيه قضايا :

1-  البديع بين الجاحظ وابن المعتز

اشتهر الخليفة العباسي الشاعر عبد الله بن المعتز ( ت 296هـ ) بأنه أول من وضع فنون البديع وجمعها في كتاب سماه { البديع } وادّعى ابن المعتز سبقه إلى هذا العمل ( ) , ولا ينكر أحد فضله في أنه أول من جمع هذه الفنون في كتاب مستقل ووضحها , وأتى لها بشواهد من القرآن الكريم والحديث الشريف ومن روائع الأدب ويعترف بأن هذه التسمية – يقصد البديع – ترجع إلى المحدثين كبشار ومسلم وأبي نواس ( ) . وينكر ابن المعتز على علماء اللغة معرفتهم بالبديع وفنونه , فيقول : ” البديع اسم موضوع لفنون من الشعر يذكرها الشعراء ونقاد المتأدبين , فأما العلماء باللغة والشعر القديم فلا يعرفون هذا الاسم ولا يدرون ما هو ” ( )

وإذا كان لابن المعتز فضل الجمع لهذه الفنون وشرحها والاستشهاد لها فليس له فضل تسميتها بالبديع أو حتى الإطلاق الأدبي لهذه الكلمة , وأيضاً ليس له الفضل في سرد هذه الألوان , فقد سبقه الجاحظ إلى سرد الكثير منها في كتابه وأتى لها من الشواهد والأمثلة ما يشرحها ويوضحها ويجلي عن معناها وإن كان قد نسب هذه التسمية إلى الرواة .

ولا نبعد عن الحقيقة إذا قلنا إن ابن المعتز وضع كتابه بوحي من الجاحظ وجمع هذه الفنون بعد إدمان النظر في البيان والتبيين واستقى كثيراً من مادته العلمية من هذا الكتاب .

لقد ذكر الجاحظ البديع وذهب إلى أنه مقصور على العرب , ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة وأربت على كل لسان , كما أشاد بأصحاب البديع من الشعراء فالراعي كثير البديع في شعره , وبشار حسن البديع , ولم يكن من المولدين أصوب بديعاً من بشار وابن هرمة , والعتابي يذهب في شعره في البديع مذهب بشار, ويقول جميع من يتكلف مثل ذلك من شعراء المولدين كنحو منصور النمري ومسلم بن الوليد ( ) .

وقد صرّح الجاحظ بأن الرواة تطلق كلمة { البديع } على طريق الاستعارة أو ما تضمن المثل أو ما جرى مجراه , فقد ذكر قول الأشهب :

هم ساعد الدهر الذي يتقى به.. وما خير كف لا تنوء بساعد

ثم يقول : ” قوله : هم ساعد الدهر إنما هو مثل , وهذا الذي تسميه الرواة البديع ” ( ) . وقال الراعي :

هم كاهل الدهر الذي يُتّقى به.. ومنكبُهُ إنْ كان للدهر مَنْكِبُ .

وقد عالج الجاحظ في كتابه كثيراً من ألوان البديع وفنونه وأفاض في سرد الكثير من النصوص والشواهد لهذه الألوان ونعرض لها هنا بذكر أسمائها فقط , والإحالة إليها ؛ لكثرتها , ومنها : التقسيم ( ) , الهزل يراد به الجد ( )

السجع ( ) والازدواج ( ) والسرقات الشعرية ( ) , وبراعة الاستهلال ( ) , والأسلوب الحكيم أو اللغز في الجواب ( ) , والمذهب الكلامي ( ) , والاقتباس ( ) , والتقسيم ( ) , والاحتراس أو التتميم وقد سماه إصابة المقدار ( ) , ومزدوج الكلام ( ) , والهَزْل يراد به الجد ( ) .  

2-  أثر الجاحظ في عبد القاهر الجرجاني :

ليس هنا مجال لإبراز الجهد البلاغي الضخم الذي قدمه لنا عبد القاهر في كتابيه , فقد أفردت فيه المؤلفات والبحوث والرسائل , ولكن أشير إلى أن عبد القاهر بهذا الجهد الكبير ذهبت شهرته بين البلاغيين على أنه رجل البلاغة وقطبها وأنه الذي فتق أكمامها , بل عدّه كثير من الباحثين في ميدان البلاغة واضع هذا العلم ومؤسسه , يقول يحيي بن حمزة العلوي : ” إن عبد القاهر أول من أسس من هذا العلم قواعده وأوضح براهينه ورتب أفانينه وفتح أزهاره من أكمامها وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها بكتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة ” ( )

وإذا كان عبد القاهر قد احتل هذه المكانة بين حلقات التاريخ البلاغي حتى عد واضع هذا العلم فإنه قد تتلمذ على قطب البلاغة الأول الجاحظ , وعكف على بيانه عكوفاً طويلا يستمد منه أفكاره البلاغية فتأثر به تأثراً واضحاً نلمسه في عرضه للمسائل البلاغية ومعالجته لها في كتابيه .

وأول ما يلقانا من ذلك في كتابه دلائل الإعجاز تأثره به في معرض حديثه عن الفصاحة , ويعرض لشبهة أ

يدعي أن لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظي وتعديل مزاج الحروف حتى لا يتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان كالذي أنشده الجاحظ من الشاعر :

لم يضرها والحمد لله شيء .. وانثنت نحو عزف نفس وذهول.

ويتابع عبد القاهر نقله من الجاحظ فيقول : ” فتفقد النصف الأخير من هذا البيت , فإنك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض ” ( ) . فنراه في هذا النقل يسترشد برأي الجاحظ في جانب من جوانب فصاحة الكلام وهو كون الكلام خالياً من التنافر . وحين يتحدث عن حذف المفعول به يبين حسن ذلك الحذف وروعته في قول البحتري :                       قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ   دد والمجد والمكارم مثلا .

” فالمعنى قد طلبنا لك مثلا , ثم حذف لأن ذكره في الثاني يدل عليه , ثم إن في المجيء به كذلك من الحسن والمزية والروعة ما لا يخفى , لأن الأصل في المدح والغرض بالحقيقة هو نفي الوجود عن المثل , فأما الطلب فكالشيء يذكر لينبني عليه الغرض ويؤكد به , وإذا كان هذا كذلك فلو أنه قال : قد طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلا فلم نجده لم تر من هذا الحسن الذي تراه شيئاً , لكان يكون قد ترك أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل وأوقعه على ضميره , ولن تبلغ الكناية مبلغ الصريح أبداً “. ويؤكد كلامه بما ذكره الجاحظ في كتابه البيان والتبيين ، ” والسنة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب …. ” ( ) .

وفي حديثه عن المعاظلة واستعمال الغريب يوضح عبد القاهر أن الغريب مذموم ينبغي تجنبه , ويتعجب من أن الغريب يدخل في باب الفضيلة وقد ثبت عنهم أنهم كانوا يرون الفضيلة في ترك استعماله وتحاشيه , ثم يرجع إلى الجاحظ فينقل عنه كثيراً مما أثاره في هذا الباب فيقول : ” قال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين : ” ورأيت الناس يتداولون رسالة يحي بن يعمر عن لسان يزيد بن المهلب إلى الحجاج ( إنا لقينا العدو فقتلنا طائفة بعراعر الأودية , وأهضام الغيطان وبتنا بعرعرة الجبل وبات العدو بحضيضه .. ” ( ) .

ومما هو جدير بالذكر تأثر عبد القاهر ببيان الجاحظ لم يقف عند حد الاقتفاء والمتابعة بل إن أثر الجاحظ عليه امتد إلى ما يشبه مخالفته له في بعض المسائل , وأوضح مثل لذلك حديثه عن اللفظ والمعنى , وإلى أيهما ترجع البلاغة ؟ فقد أخذ عبد القاهر على أستاذه إهماله جانب المعاني وجعلها مطروحة في الطريق , ومن ثم فقد أخذ عبد القاهر يدافع عن المعاني ويورد كثيراً من النصوص التي توهم انتصار الجاحظ للألفاظ واطراحه المعاني , ثم يأخذ في الرد عليها مشيداً بالمعاني وما لها من أثر في بلاغة الكلام () .

ومما لا يفوتنا في هذا المقام أن ننبه إلى أن هذا الذي يبدو وكأنه خلاف بين الجاحظ وعبد القاهر حول قضية اللفظ والمعنى إنما هو في ظاهر الأمر فقط , وعند التحقيق نجد أنه لا خلاف بين الرجلين , فالجاحظ لما وجد اهتمام الأدباء في عصره بالمعاني وإهمالهم الألفاظ أراد أن يرفع من شأنها ويبين أثرها في بلاغة الكلام وارتفاع شأنه , وعبد القاهر عندما أشاد بالمعاني فإنما عنى بها المعاني الثانوية , وهي الخصائص واللطائف التي تستفاد من اللفظ عند التركيب , وعندما أهمل جانب الألفاظ فإنما عنى الألفاظ المفردة والكلمات المجردة من غير اعتبار تركيبها وتأليفها  فلا خلاف بين الجاحظ وعبد القاهر حول هذه القضية .

فإذا انتقلنا إلى كتابه { أسرار البلاغة } الذي عالج فيه نظرية البيان نجد تأثر عبد القاهر ببيان الجاحظ واضحاً كل الوضوح . فأول ما نجده في مقدمة الكتاب حيث نجد روح الجاحظ تتجلى في إبرازه فضيلة البيان وأن المزية تعود إلى التأليف فالكلام لا يفيد إلا بالتأليف ( ) . ونراه وهو يتحدث عن السجع لا يقبل  إلا ما جاء مطبوعاً لا استكراه فيه ولا بعد , وهي فكرة استمدها من الجاحظ مصرحاً بذلك في قوله : ” لا تجد سجعاً حسناً حتى يكون المعنى هو الذي استدعاه وساق نحوه .. ” ( )

ولعبد القاهر عبارة رائعة يقول فيها أثناء حديثه ” القول في معنى الصورة , يكفيك قول الجاحظ : وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير ( ) . وفي حديثه عن وصف الشعر والإدلال به قوله : ” ومما هو في غاية الندرة من هذا الباب ما صنعه الجاحظ بقول نُصيب :    ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

حين نثره فقال , وكتب به إلى ابن الزيات : ” نحن أعزك الله نسحر بالبيان ونموّه بالقول والناس ينظرون إلى الحال ويقضون بالعيان فأثّر فيّ أثراً ينطق إذا سكتنا , فإن المدّعي بغير بينة متعرض للتكذيب ” ( ) .

وللحديث بقية بإذن الله ……

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى