الحياة مدرسة قد تكون بلا مراحل ممنهجة ولكنها مليئة بالركض والترحال صعودًا وهبوطًا، مع عالم أيضًا مليء بالعجائب والممستحيلات، يضعك أحيانًا في مواقف لا تحسد عليها والشاطر فينا من يتعلّم سيما إذا كان ابن بيئة لم يغادرها البتة، مع منتصف العقد الثالث من العمر قبل (44) عامًا، كنت ضيفًا على مدينة وعاصمة الضباب لندن، وكانت تحت ضغط إعلام يحذر العرب من لندن وحيل المتاجر والفنادق، سكنت فندق إنتر كونتينتال، وأول ما طلبت صندوق أمانات، وعند تعبئة استمارة الإقامة، طلبت غرفة بدون مشروبات كحولية، فتوقف الموظف وذهب وعاد بزميل له وإذا به عربي مسئول عن النزلاء العرب، سألني لماذا لا تريد غرفة بكحول قلت له مزاج، فأردف هذا سيجعل البنات يتجاهلونك، قلت له خبر جميل وهذا المطلوب، وربما يقال لشقلئق التعامان ذات الجواب، وكأن هنالك ظاهرة تعكس حالة سلبية ليس هذا مجالها، في اليوم الثاني وأنا عائد من السفارة السعودية التي لا تبعد عن الفندق سوى أمتار، سمعت صراخًا في لوبي الاستقبال، وإذا به مواطن عربي مقيم بالسعودية من اليمن الشقيق، وهو يسجل معلومات الإقامة أمام الاستقبال فتح شنطته وأخذ الجواز وسلمه للموظف ووضع الشنطة بجواره أرضًا، وحينما انتهى من إجراء تسجيل المعلومات انحنى ليأخذ شنطته فلم يجدها، وكان موظفو الاستقبال في غاية البرود، ولأن لغتي الإنجيلزية على قدي، طلبت الموظف المسئول عن النزلاء العرب، الذي سرعان ما تواجد حينما رفضت المشروبات الكحولية، فجاء وشرحنا له الوضع وقلت أنت تمثلنا هنا ماذا نعمل؟ فرد بابتسامة: صاحبك هو المفرط . ! عندها قاطعته وقلت له أنت تمثلنا هنا، فرد أنا أمثل الفندق، طيب وأين رجال الأمن وما مهمة هذه الكاميرات، فدخل بي في دوامة ستطول، والرجل حاجز مساء الغد إلى اليابان، التفت لي وطلب مني مساعدته إذا أعرف أحدًا في السفارة السعودية، قلت له ولما السفارة السعودية، قال لأن التأشيرة بموجب إقامتي بالسعودية، ذهبت به إلى السفارة السعودية، وكان السفير يومها معالي الدكتور/ غازي القصيبي -رحمه الله- الذي أحالنا يومها إلى رئيس قسم اسمه يوسف البنيان ثم إلى رئيس آخر اسمه عبد القادر عقالا، وخلال ساعتين تم التنسيق مع سفارة بلده ومع الداخلية السعودية وتم إصدار الجواز من سفارة بلده، وكذلك جلب صورة من التأشيرة ثم الذهاب من قبله إلى سفارة اليابان لإنهاء الإجراءات وذلك قبل أكثر من 44 عامًا، وقبل الخروج وددنا شكر معالي السفير غازي القصيبي، وانتظرنا عند أحد موظفي مكتبه قليلًا تجاذبنا الحديث، وذكرت له غضب موظف الاستقبال حينما اشترطت غرفة بلا مشروبات كحولية، فحكى لنا قصصًا كثيرة يتعرض لها أبناء الخليج، منها أن أحدهم سكن الفندق أسبوعًا وعند المغادرة طالبوه بفاتورة بقيمة بـأكثر من 15 ألف جنيه يعني قرابة مائة ألف ريال، وكان معترضًا ليس لأنه لا يملكها لكن على المبلغ، وبالرجوع إلى الفواتير وجد أنها فعلًا صحيحة، لكن قيمة مشروبات روحية ووجبات، لأنه كان يستقبل فتيات فيبالغن في الشرب والأكل ويأخذن ما تبقى من زجاجات، وهو لأنه لا يشرب كحوليات ولا يجيد اللغة كان ضحية، قابلنا معالي السفير، وشكرناه وأكد لنا أن السفارة السعودية في خدمة أبناء الوطن، ومن يقيم فيه وكل من يطلب المساعدة أو يرون أنه بحاجة .
ما ذكرته أعلاه كان في زمن مواطنو الدول العربية إذا زاروا دولة عربية مجاورة؛ كأنهم طافوا العالم ويعودون مبهرين لما عايشوه، ومهما بلغ الإنسان من العمر أحيانًا يقع في أخطاء جسيمة، والواقع والروايات والمسلسلات والأفلام والمسرحيات تدعم ذلك .
أذكر قبل أكثر من أربعة عقود شخصين تم ابتعاثهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، قبل سفرهم، درسا اللغة الإنجيلزية 6 سنوات ثانوية و4 في الجامعة وموظفان لهما عدة سنوات، واشتركا في دورة كانت تشرف عليها جامعة الإمام محمد بن سعود لجميع المبتعثين قبل 44 عامًا، حينما خرجا لأول مرة من المملكة ونزلا في واشنطن، وكان على كل واحد أن يذهب إلى ولاية مختلفة وبعيدة، اكتشفا كل منهما عندما وصلا على وجهتيهما أنه كان يحمل جواز الآخر، والمواقف والقصص في ذكرها كثيرة .
اليوم صدق من قال: العالم أصبح قرية، حتى إن الطفل الذي لازال في مرحلة الروضة يطوف العالم ويعرف مدنه وأدغاله في لحظات، ثم كيف أصبح عالمنا العربي مدهشًا مثلما كنا نرى أوروبا وأمريكا عالمًا مدهشًا، وكيف أصبحت الرحلات السياحية عكسية، وما تشهده وتعيشه المملكة اليوم في شتى المجالات سياسة واقتصاد وتنمية وبناء وسياحة ورياضة .. و .. و .. ، يعتبر ثورة تنموية شمولية فعلًا مدهشة، وأصبحت في سباق مع الزمن، وذات رؤى ومبادرات خلاقة ومذهلة ولله الحمد.
0