المقالات

كيمياء السعادة

‏‏(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (سورة إبراهيم الآية 34)
وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (سورة النحل: الآية 18). هذه الآيات حددت أحد المستحيلات في حياة الإنسان. وهي عجز الإنسان عن إحصاء نعم الله، هذا لا يقدر عليه أحد أبدًا. والحقيقة نعم الله التي يغمرنا بها ظاهرية كانت أم باطنية يخفى علينا معظمها، ‏ويستحيل فهم حقيقتها وكنهها، وهي كثيرة ولكثرتها يستحيل إحصاؤها.

‏والمتأمل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدها حياة شكرًا لله، فإذا استيقظ من النوم قال: “الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أحْيَانَا بَعْدَ ما أمَاتَنَا وإلَيْهِ النُّشُورُ” البخاري: 6324، ملاحظة نعم المولى في أن أحياه، شعور بالسعادة وشكر المنعم. وقد لاحظت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- كثرة عبادته صلى الله عليه وسلم وقيامه والليل حتى تفطر قدماه أشقت عليه، طلبت منه أن لا يشق على نفسه، لأنها تحبه، فَقالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هذا يا رَسولَ اللَّهِ، وقدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ؟ قالَ: أفلا أُحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْدًا شَكُورًا” البخاري: 4837.
‏خلال الأيام الأخيرة من شهر شعبان ‏الماضي (‏1445 هجرية)، ‏ ‏زارتني أستاذة في مدرسة الشكر، علمتني الكثير من ما كنت أجهل، وعرَّفتني بنعمة لم أعرها الاهتمام الكافي. هذه الأستاذة هي شابة مسلمة تبلغ من العمر 26 عامًا. استقبلتها وأنا أظن أنها ستسألني عن أحكام الصيام لأننا قريبون من رمضان، أو أحكام الزكاة، أو غيرها من الأحكام الفقهية التي يسأل عنها الناس. ولم اكن أعلم أو أتصور أنها جاءت لتعلمني شيئًا لم أكن لأتلقاه في صفوف الدراسة أو مقاعد الجامعة، ولا في مراكز البحوث. قالت لي: أنا شابة خلقت بمتلازمة نادرة، فجسمي لا ينتج اللعاب، وهذا أمر شاق، ومرض مزمن، يتطلب مني أن أخذ العلاج بشكل مستمر، وأن أشرب الكثير من الماء ولا أستطيع الحديث كما أشاء ويصعب على إنسان في حالتي أن يتزوج نظرًا لتعقيدات المرض والعلاج وما يصاحبه. ولكن هذا لم يمنعني من مواصلة دراستي، وتخرجت طبيبة، ولأن مهنة الطب تعتمد على الحديث مع المرضى والأطباء والصيادلة، درست وغيرت اتجاهي لأعمل في المعامل الطبية لتفادي كثرة الحديث. وأنا راضية والحمد لله فلقد أخذ الله مني شيئًا وأعطاني أشياء كثيرة، وإنما جئت لأسألك سؤالًا واحدًا، وهو أنني أعاني كثيرًا من ألم أنني لم أصم في حياتي أبدًا؛ نظرًا لحالتي الصحية، وأجهشت بالبكاء.
قلت لها: يا بنتي أنت أستاذة، أرسلك الله إليَّ لتعلميني نعمة ما كنت أحسب أنها بهذا القدر من الأهمية. فوالله ما قدرت نعمة اللعاب، وتأثيره في الحياة بهذا الشكل. أنت يا بنتي في خير كثير وليس عليك الصيام فعبادة المستطيع القادر هي أن يصوم وعبادة المعذور المريض الذي لا يستطيع هي أن لا يصوم، وكل ذلك بفضل الله ورحمته.

‏تأثرت كثيرًا بهذه الواقعة، ‏فنعم الله علينا كثيرة، ومن بذل الجهد في عد النعم وتأمل حقيقتها بأن يتخيل حياته دونها، شعر بسعادة تنسيه بعض همومه. فهموم الحياة أكثرها من أننا لا نرى ما عندنا من خير، وكل منا يتطلع إلى ما ليس عنده ولو بذلنا الجهد وتأملنا في نعم الله الكثيرة لتغيرت حياتنا. ‏حقًا كيمياء السعادة تكمن ‏في التأمل في حقيقة النعم وشكر الإله المنعم. نسأل الله أن يجعلنا من الشاكرين، وأن يرزقنا السعادة في الدنيا والآخرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى