المقالات

تبًّا للمال !

تواصلت مع صديقي القديم أسأله عن العرض الوظيفي المبهر الذي تلقيته من جهة مرموقة لعلمي التام أنه وأنا نجتمع في خصلة من خصال الطموح، وهي المجازفة طلبًا للتغيير الإيجابي.!

وبعد أن عرضت عليه الموقع الجديد والمميزات الوظيفية المغرية، صمت قليلًا على غير عادته، ثم طلب مني أن أحدثه عن طبيعة العمل، تحدثت عن طبيعة المهام وما يتوقعه مني صاحب العمل من محوري الوقت والإنجاز، وأسهبت في ذلك. كنت أتحدث عن الفروض المتعددة المتوقعة مني في الموقع الجديد، والطبيعة الديناميكية للواجبات المهنية، والتقسيم الحاد للوقت الذي يجب أن أضبطه لتحقيق تطلعات وأهداف تلك المنشأة، عاود الصمت صديقي للمرة الثانية؛ وكأنه يتهيأ ليقذفني بروشتة حياة كانت مختبئة في أحد أدراج عقلي السفلية.

قال لي: كنت بالأمس في المشفى ضمن سلسلة مراجعات طبية تتعلق بإصابتي بالديسك وتصلب عضلات الرقبة وتشنج اليد اليمنى.. لم يصنع رده لدي أدنى ارتباط منطقي بين سؤالي وإجابته؛ ولأنه يعي تمامًا مدى حرصي على فهم الارتباطات العلائقية في سائر شؤون حياتي فإنه لم يشأ أن تطول حيرتي فاستطرد قائلًا: أنا على ثقة تامة ياعبدالله أنك تدرك اتساع طموحي بحكم الصداقة التي جمعتنا طويلًا، وأنا أثق أنك تعرف كم يسيل لعابي للمواقع التي تقدم أجرًا ماليًا مغريًا، وأنا متيقن أنك مازلت تذكر عبارتي الشهيرة: حينما يمنحني رب العمل مرتبًا مغريًا سأواصل الليل بالنهار، صمت صمتًا يشبه صمته السابق وكأنني بدأت أشتم رائحة تشاؤمية في أفق الحوار.

مضى ليخبرني بأنه نظر إلى صورة شخصية له قبل أربع سنوات من التحاقه بوظيفته الحالية، وكيف أنه كان ممتلئًا بالحيوية، مشرق الوجه، باسم الثغر، مستقيم القوام، وكيف آلت إليه حاله اليوم وهو فاقد للشغف، شحيح الابتسامة، أصفرًا باهتًا، يستل من كل أسبوع عمل يومًا أو يومين؛ ليراجع المشفى لترميم ما يمكن ترميمه من تبعات العمل المنهك والساعات الطويلة، كانت عباراته سردية مؤلمة في ليلة مظلمة لا تختلف كثيرًا عن تشاؤمية شوبنهاور وفلاسفة الظلام.

كان حديثه حزينًا جدًا، وكان لا بد للنقاش أن يصل إلى النتيجة الحتمية: تبًّا للمال.. لم يكتفِ بذلك بل أخبرني بأنه افتقد جلسته البريئة مع أسرته، وحديثه مع أولاده، وتناول الإفطار سويًّا قبل اصطحابهم بسيارته إلى مدارسهم؛ فهو الآن في مدينة بعيدة عن مدينتهم.. تبًّا للمال؛ قالها الآن بصريح العبارة بعد أن أغلقت وأوصدت دونه أبواب الإغراء ولم يعد له أي عزاء.

تملكني الذهول حينها فلم أعد أدري هل أواسيه أم أواسي نفسي..؟!! لم أكن أتصور أن الوصفة الطبية، والجلسات العلاجية، والآلام المبرحة التي حدثني عنها كانت جميعًا بسبب ساعات العمل الطويلة والمنهكة، والجلوس المفرط أمام شاشات الحاسب، كانت بسبب السفر المتكرر، السهر الطويل، الكافيين اللازم لإنجاز العمل، الشحن النفسي لتقبل الواقع، الصبر على بُعد الأسرة وغياب المرشد والموجه، الرضا بأبناء وبنات يكبرون سريعًا وهو بمنأى عنهم دون أن يستمتع بطفولتهم أو يهنأون بجواره !
صرخت حينها بصوت عالٍ: تبًا للمال، وأمن معي بصوت فاتر: تبًا للمال !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى