المؤلف أبو الحسن حازم بن محمد القرطاجنّي ( ولد 608هـ , وتوفي 684هـ ) .كان حازم ناقداً بارعاً عالج مسائل البلاغة والنقد بقَدْرِ كبير من النفاذ والتبصر والشمول , وكتابه غاية في الصعوبة لأسباب تعود إلى لغة مؤلفه ومزج فنّه الأدبي بالفلسفة واتباع منهج المناطقة في تقسيمات كتابه , وكثرة القيود التي وضعها والاحترازات فلا تصل إلى آخر الجملة الذي لا يتم المعنى إلا به إلا وقد غاب عنك أولها . بالإضافة أحياناً إلى اكتفائه باللمحة الدالة وإشارته إلى القوانين الكلية وابتعاده عن التحليل ممّا أكسبه جفافاً , وأحَالَه قواعدَ تحنّ إلى التمثيل . كما لوحظ انتشارُ البترِ في كتابه وهو بترٌ قد يبلغ أحيانا مقدار ورقة , وفقدان القسم الأول منه وهو ما يُؤثر كلياً على عدم قدرتنا لإدراك كلّ النظرية ويًؤثر جزئياً بعدم قدرتنا على الفهم الكامل لبعض المباحث .
وقد استفاد كثيراً من كتابيّ الشعر والخطابة لأرسطو عبر كتب فلاسفة الإسلام الفارابي وابن سينا وابن رشد , مع عناية خاصة بكتب ابن سينا وأقواله .
كما استفاد من كتاب سرّ الفصاحة لابن سنان الخفاجي , وكتاب العمدة في محاسن الشعر وآدابه لابن رشيق القيرواني , وكتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر . ودارت رحى مسائل كتابه منهاج البلغاء وسراج الأدباء حول القضايا الآتية :
أولاً : المعاني الشعرية : حظيت معاني الشعر باهتمام بالغ لدى هذا الناقد إذ وقف على معالجتها في كتابه المنهاج ,فبدأ كتابه بالمنهج الأول وموضوعه الإبانة عن ماهيات المعاني أي الجهات التي تستخرج منها . وأنحاء وجودها ومواقعها والتعريف بضروب هيآتها وجهات التصرف فيها ( ) , ولم يبق منه إلا صفحة واحدة فيها إشارات جيدة تفيد أن ماهيات المعاني تسكن الوجود الذي نعيشه لأن المعاني قائمة في الأعيان يعني الأشياء التي تراها عيوننا وتعلقها عقولنا ولكل شيء من هذه الأعيان الخارجية صورة ذهنية وأن هذا العالم الخارجي كله يعيش في أذهاننا .
والمنهج الثاني موضوعه الإبانة عن طرائق اجتلاب المعاني وكيفيات التئامها وبناء بعضها على بعض وما تعتبر به أحوالها في جميع ذلك , من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها ( ), والمراد باجتلاب المعاني استخراجها واستدعاؤها والمراد بكيفيات التئامها ارتباط بعضها ببعض .
ويعرف المعاني عامة بقوله : ” المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان “( ), ومن ثمّ فإن للمعاني حقائق وصوراً , أما الحقائق فهي أعيان الأشياء الموجود في العالم الخارجي , وأما صور المعاني فلها ثلاثة أنواع من الوجود ( ):
1- وجودٌ تمثله الصور الذهنية لأشياء العالم الخارجي بعد إدراكها ” كل شيء له وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق ما أدرك منه “
2- وجودٌ تمثله دلالات الألفاظ على هذه الصور الذهنية ” فإذا عبر عن تلك الصور الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم .
3- وجود تمثله دلالة الكتابة على الألفاظ الدّالة على الصور الذهنية ” فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على الألفاظ مَنْ لم يتهيّأ له سمعها من المتلفظ بها , صارت رسومُ الخط تقيم في الأفهام هيئات الألفاظ فتقوم في الأذهان صور المعاني ” ().
ويحدد حازم شيئاً من طبيعة المعنى الشعري عندما يذهب إلى أن الشعراء ينبغي أن يختاروا من المعاني ما فُطِرت النفوس على استلذاذه أو التألم منه , يقول حازم : ” أعرق المعاني في الصناعة الشعرية ما اشتدت عُلْقَتُه بأغراض الإنسان وكانت دواعي آرائه متوفرة عليه , وكانت نفوس الخاصة والعامة قد اشتركت في الفطرة على الميل إليها أو النفور عنها ” () . ويزداد الأمر وضوحاً عندما يبين حازم أن المعاني الشعرية التي تتولى الأقاويل الشعرية تخييلها وتقديمها للإدراك أربعة أنواع من جهة معرفتها والتأثر بها :
معانٍ يعرفها جمهور من يفهم لغة الشعر ويتأثر لها . ومعانٍ يعرفها ولا يتأثر لها . ومعانٍ يتأثر لها عندما يعرفها . ومعانٍ لا يعرفها ولا يتأثر لها عندما يعرفها . وأحق هذه الأنواع بأن يستخدم في الشعر اثنان :
ما عرفه الجمهور وتأثر له . وما كان مستعداً لأن يتأثر له إذا عرفه . يقول : ” وأحسن الأشياء التي تُعرف ويُتأثر لها , أو يُتأثر لها إذا عرفت هي الأشياء التي فطرت النفوس على استلذاذها أو التألم منا , أو ما وجد فيه الحالان من اللذة والألم . كالذكريات للعهود الحميدة المتصرمة التي توجد النفوس تلتذ بتخيّلها وذكرها وتتألم من تقضيها وانصرامها ().
وابتغاء تأكيد انتماء هذه المعاني إلى الشعر يسميها حازم { المتصورات الأصيلة } , أما الصنف الآخر من المعاني الذي لا تجد له النفوس فرحاً أو ترحاً فيسميه حازم { المتصورات الدّخيلة } . فالمتصورات التي في فطرة النفوس ومعتقداتها العادية أن تجد لها فرحاً أو ترحاً أو شجواً هي التي ينبغي أن نسميها المتصورات الأصيلة . وما لم يوجد ذلك في النفوس ولا معتقداتها العادية فهي المتصورات الدّخيلة ؛ وهي المعاني التي إنما يكون وجودها بتعلّم وتكسّب كالأغراض التي لا تقع إلا في العلوم والمهن ().
ويقسم المعاني الشعرية تبعاً لارتباطها بقصد الشاعر وغرض الشعر إلى ضربين :
المعاني الأُوّل . والمعاني الثواني . ويريد حازم من المعاني الأوّل تلك التي يستلزمها غرض الشعر ويُعتمد إيرادها أما الثواني فتلك التي لا يستلزمها غرض الشعر ولا يعتمد إيرادها في الكلام بل تحاكي بها المعاني الأوّل لتكون أمثلة لها أو استدلالات عليها . يقول ” والمعاني الشعرية منها ما يكون مقصوداً في نفسه بحسب غرض الشعر ومعتمداً إيراده ومنها ما ليس بمعتمد إيراده ” ().
ويوضح حازم شيئاً من الوظيفة الإيضاحية والتقريرية للمعاني الثواني فيبيّن أنها ينبغي أن تكون أشهر في معناها من الأوّل, أو مساوية لها في شهرة معناها ؛ ليتأكد المعنى الأول بما هو آكد منه ()
ثم يضبط حازم معاني الشعر كلها في أمرين يتولد منهما ثالث وهذان الأمران هما البواعث المحركة والثاني وصف أحوال الذين حركتهم هذه البواعث والثالث المتولد من هذين وهو الشعر الجامع لوصف الأحوال المحركة والذين حركتهم البواعث وهذا أفضل الشعر .
ويتحدث في المنهج الرابع عن الإبانة عن الأحوال التي تعرض للمعاني في جميع مواقعها من الكلام فتوجد ملائمة للنفوس أو منافرة لها (). ومن هذه الأحوال كمال المعنى وصحته , ويعني ذلك أن يكون المعنى مستوفياً أجزاءه فإذا وقع التعدد في المعاني وكان أجزاء متعددة رجع ذلك إلى التقسيم () . ومنها أيضاً تمكّن المعاني () والمراد به دراسة تمكّن المعنى مع ما يقاربه لشدة الربط بينهما فقد يقترن المعنى بما يكون غيره أولى به منه , كما قيل عن قول امرئ القيس :
كأني لم أركب جواداً للذة *** ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبا الزق الرّوي ولم أقل *** لخيلي كُرّي كرة بعد إجفال
فقد ذكروا أن الشطر الثاني من البيت الثاني أولى بالشطر الأول من البيت الأول , وهذا هو التمكين الذي قصده حازم .
أما وضوح المعاني وبيانها وغموضها واستغلاقها فيقوم على أمرين : الأول الانبهام الراجع إلى دقة المعاني وخفائها مع صحة العبارة وسدادها , والثاني : الانبهام الراجع إلى سوء العبارة إما باستعمال ألفاظ مشتركة أو سوء ترتيب الكلمات ().
ثم ينتقل حازم إلى ما يقع في المعاني من تدافع بين بعضها وبعض , وأراد بهذا المبحث وجوب تجنب المعنى الذي هو أشبه بمضاد المعنى الذي أتت فيه فلا تذكر ما هو أشبه بالذم في باب المدح ولا تذكر ما يبعث على التشاؤم وانت في مقام البشارة . منهاج البلغاء ()
ثم ينتقل إلى بحث المعاني من جهة استيفائها لأركانها وأقسامها , وبعد ذلك ينتقل إلى بيان المعاني الأصيلة في باب المدح والذم والمعاني غير الأصيلة وقد عَوّل في هذا الباب على ما قاله قدامة في أمهات الفضائل الأربع التي هي : العقل والعفة والعدل والشجاعة ().
ثم ينتقل إلى الحديث عن وضوح المعاني وغموضها ويوضح أن وضوح المعاني هو أكثر مقاصد الكلام ومواطن القول وقد يكون إغماضها في بعض المقامات هو أكثر مقاصدهم ويزيد حازم قسماً ثالثاً هو الجمع بين الوضوح والخفاء ().
ويرى أن الغموض قد يكون راجعاً إلى المعنى لتضمنه معنى علمياً أو خبراً تاريخياً أو حكمة أو مثلاً , وقد يكون الغموض راجعاً إلى أن المعنى لم يدل عليه باللفظ دلالة مباشرة وإنما دلّ عليه اللفظ دلالة لزوم كما هو الحال في الكنايات وبعض المجازات . وقد يكون غموض المعنى راجعاً إلى أن صورة المعنى ركبت على غير ما يجب فتنكره الأفهام كأسلوب القلب لأن المعنى فيه ركب على غير ما ألفت الأفهام() .
أما أسباب الغموض الراجعة إلى العبارة فأولها أن تكون الكلمات غريبة وحشية أو يقع في الكلام تقديم وتأخير يُلِبس المعنى أو أن يفصل في أثناء العبارة بسجع أو أن تطول العبارة ويفصل بين طرفي الجملة ().
وختم هذا الباب بدراسة عن المعاني من جهة كونها عامة – قديمة متداولة ,أو جديدة مخترعة -: لأن معانيه ثابتة في وجدان الناس كتشبيه الشجاع بالأسد والكريم بالغمام , ومثل هذا لا تدخله السرقة لأن معانيه ثابتة في وجدان الناس منقسمة في خواطرهم سواء ولا فضل فيها لأحد على أحد إلا بحسن تأليف اللفظ، فإذا تساوى تأليفا الشاعرين في ذلك فإنه يسمى الاشتراك .
ويتفرع من هذا النوع القسم الثاني , وهي المعاني التي قلّت في أنفسها أو بالإضافة إلى غيرها ، ويجوز للشاعر أن يتعرض له بشروط : منها أن يركّب الشاعر على المعنى معنى آخر، ومنها أن يزيد عليه زيادة حسنة، ومنها أن ينقله إلى موضع أحق به من الموضع الذي هو فيه ().
وأسمى مراتب المعاني هو القسم الثالث الذي يتمثل في استنباط المعاني واختراعها ؛ “من بلغها فقد بلغ الغاية القصوى من ذلك ، لأن ذلك يدل على نفاذ خاطره وتوقّد فكره حيث استنبط معنى غريبا واستخرج من مكامن الشعر سرًا لطيفا , وهذا النوع المبتكر لا يمكن أن يسرق وإنما يتحاماه الشعراء لضيق المجال في إخفاء السرقة() كقول عنترة :
وخلا الذباب بها فليس ببارح *** هزجا كفعل الشارب المترنم
غردا يحك ذراعه بذراعه *** قدح المكب على الزناد الأجذم
لقد ارتفع كرم الشعر بالذباب إلى أعلى سموات الإبداع , تأمل قول الشاعر : { خلا , هزجاً , كفعل الشارب } وكيف علت به حمَيّا الطرب ؟ ثم تأكيد هذه الغنائية بقوله : { غردا } ثم هذه الملاحظة التائهة التي لا تقع عليها غير عين المبدع { يحك ذراعه بذراعه } ثم هذا التفوق في تأليف صورة القادح فهو مكب وهو أجذم . هذه مفردات هذه الصنعة جاء ابن الرومي وهو ممّن اقتدروا على الإبداع وممّن وصفوا بتوقد الخاطر وأراد أن يضع ميسمه على لسان عنترة فقال :
وغرد ربعيُّ الذباب خلالها *** كما حثحث النشوان صنجاً مشرعا
فكانت لها زنج الذباب هنا كم *** على شدوات الطير ضرباً موقعا
قال حازم : (على أن ابن الرومي قد نحا بالمعنى نحوًا آخر حين جعل تغريد الذباب ضرباً موقعا على شدوات الطير , وهذا تخييل محرّك إلى ما قصد ابن الرومي تحريك النفوس إليه وإيلاعها به , فمثل هذه المعاني النادرة إذا وقع فيها مثل قول ابن الرومي ووقع فيها زيادة ما من جهة , وإن كان فيها تقصير من جهة أخرى يجب أن يصفح عن قائليها فيما وقع لهم من التقصير إذا وقع لهم بإزاء ذلك زيادة , وإن كان ما قصروا عنه أجل مما زادوا ) () .
يقول أبو موسى : ” وهذا كلام جيد وفهم دقيق من حازم لصنعة ابن الرومي , وقد أقام صنعته على ما أشرنا إليه في كلام عنترة وأن غناء الذباب وهزجه وترنمه وتغريده هو المعنى الغالب وعليه أقام ابن الرومي صنعته واختصر وأصاب وذكر الضرب والتوقيع , وما كان أشيع ذلك في عصر ابن الرومي , وراجع كلامه تجد فيه صورة لفرقة غناء : يغرد ربعي الذباب فيجيبه الذباب الذي جعله ابن الرومي زنجيا ثم في المشبه به حثحث ترى نشوانا يحثحث صنجا فتجيبه توقيعات على بقية الآلات ” (). وقد يزيد الشاعر المتأخر على المتقدم زيادة في المعنى وزيادة في تحسين اللفظ يستحق بهما المعنى كما استحق الطرماح معنى النابغة :
من وحش وجرة موشيُّ أكارعه *** طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
قال الطرماح : يبدو وتضمره البلاد كأنه *** سيف على شرف يُسلُّ ويُغمد
قال حازم : ” فزاد الطرماح عليه أن جعله مسلولا في حال ظهوره مغمداً في حال إضمار البلاد له “()
وهذه المعاني وأنواعها تجعل الشعراء على أربع مراتب بالنظر إلى وجود هذه المعني في أشعارهم، وهي : اختراع واستحقاق ، وشركة ، وسرقة. , فالاختراع هو الغاية في الاستحسان، والاستحقاق تال له، والشركة منها ما يساوي الآخر فيه الأول فهذا لا عيب فيه، ومنها ما ينحط فيه الآخر عن الأول فهذا معيب، والسرقة كلها معيبة وإن كان بعضها أشد قبحا من بعض( ).
ثانياً : مفهوم الشعرية : لغة : كلمة تعني الإبداع أو الفن الشعري , نظرية علمية ونقدية وأدبية ومعرفية تهتم بقواعد الإبداع والفن الجمالي . أو قل : خصائص الكتابة الأدبية والإبداعية ومقوماتها وسماتها المختلفة .
الشعرية اصطلاحاً : جاء مفهومها في الحقل النقدي والبلاغي العربي القديم بأسماء مختلفة كالصناعة وصناعة الشعر ونظرية النظم وفن الشعر والتّخييل , وهذه نماذج عن بعض مصطلحات الشعرية الواردة في أقوال النقاد والبلاغيين يقول ابن سلام : ” وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات , منها : ما تثقفه العين , ومنها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان ” استخدم لفظة الصناعة , وقد أشار إليها عبد القاهر بلفظة ( النظم ) , يقول : ” واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها ” ().
وإذا ما اطّلعنا على مصطلح الشعرية في النقد العربي الحديث والمعاصر نلفي تعدد الترجمات الخاصة به منها : الإبداع والفن الإبداعي والشعرية والإنشائية وعلم الأدب والشاعرية والأدبية وغيرها غير أن المصطلح الأكثر شيوعاً هو مصطلح الشعرية . وقد ارتبط مفهوم الأدبية دائماً بمفهوم الشعرية وصار موازياً له في أهدافه وطرائقه
و الشعرية عند حازم القرطاجني نظر إليها على أنها مجموعة من القوانين والقواعد التي تضبط عملية الصناعة الشعرية وتكسبها خاصيتها وسماتها المحددة , كل عمل لغوي لا يخضع إلى تلك القوانين إنما هو كلام ليس فيه من الشعر إلا الوزن والقافية . وهو إذ يشير إلى ضرورة إخضاع الصناعة الشعرية إلى قوانين وحدود تضبط حركتها فإنه يؤكد أن هذه القوانين لا تتأتى من خارج جنس العمل الشعري وإنما هي قارة فيه وتستنطق من داخله .
ومع تقدير حازم لكل العناصر الفنية التي تتولد منها الشعرية فإنه يؤكد أن جوهرها يكمن في ركيزتين أساسيتين هما التخييل والتأليف المتقن , فمن هاتين العلتين تتولد الشعرية وتصبح العناصر الأخرى من الدعامات التي تسمو بالشعرية إلى أقصى درجات الإبداع ولذلك ذكر لنا أسس الشعرية عنده , ومنها :
( أ ) – مفهوم الشعر عنده : هو ” كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبّب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها , ويكرّه إليها ما قصد تكريهه , لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه بما يتضمن من حسن تخييل له ومحاكاة مستقلّة بنفسها أو متصورّة بحسن هيئة تأليف الكلام أو قوة صدقه أو قوة شهرته أو بمجموع ذلك وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب , فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها الخيالية قويَ انفعالها وتأثيرها “( ) .
وقال عنه : ( الشعر كلام مخيّل موزون مختص في لسان العرب بزيادة التقفية إلى ذلك والتئامه من مقدمات مخيلة صادقة كانت او كاذبة لا يشترط فيها – بما هي شعر – غير التخييل )( ). وهو بهذا التعريف للشعر يتفوق على قدامة بن جعفر فقد أقامه على التخييل والمحاكاة قبل أن يقيمه على الوزن والقافية , وقال إن : ( المعتبر في حقيقة الشعر إنما هو التخييل والمحاكاة في أي معنى اتفق ذلك )( ).
وهو يفرق أيضاً هنا بين أمرين ملتبسين جداً هما : معاني الشعر , وحقيقة الشعر فمعاني الشعر العريقة فيه هي ما فطرت النفوس على التأثر به , فيؤنسها أو يوحشها . أما حقيقة الشعر فهو التخييل والمحاكاة .
وقال أيضاً : (( واعتماد الصناعة الشعرية على تخييل الأشياء التي يعبر عنها بالأقاويل وبإقامة صورها في الذهن بحسن المحاكاة )().
والشعر عند حازم تخييل ومحاكاة وهو ما ذهب إليه أرسطو وفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وابن رشد ولذا أقام كتابه على هذين الركنين اللذين هما جوهر الشعر , أي : { النظم و المطابقة لمقتضى الحال – هما الصياغة والنسج والتصوير } عند حازم , وهو ما لا نجده عند النقاد العرب في القديم .
يتبين من مفهوم حازم للشعر بأنه الكلام المقفى , وأن الشعر عنده إن كان مما يأتلف مع النفس مالت إليه وطلبته وإن كان مما تستكرهه النفوس وتستنكره نفرت منه ولم تطلبه , ويستوجب الشعر حسن التّخييل والمحاكاة وقوة الصدق والشهرة إضافة إلى استعمال الاستغراب والتعجب .
( ب ) – أفضل الشعر وأردأه عند حازم :
1- أفضل الشعر عنده :
ميّز حازم بين الشعر الجيد والشعر الرديء بحيث يرى أن ” أفضل الشعر ما حسنت محاكاته وهيئته وقويت شهرته أو صدقه أو خفي كذبه وقامت غرابته , وإن كان قد يعدّ حذقاً للشاعر اقتداره على ترويج الكذب وتمويهه على النفس وإعجالها إلى التأثر له قبل , بإعمالها الروية في ما هو عليه فهذا يرجع إلى الشاعر وشدة تحيّله في إيقاع الدُلسة للنفس في الكلام ” ().
يتضح أن جيّد الشعر عنده ما كانت فيه الصفات التالية : ( حسن المحاكاة والهيئة – قوة الشهرة أو الصدق – اختفاء الكذب – استعمال الغريب من الألفاظ – براعة الشاعر في الكذب وقدرته على التأثير في النفوس ) ترجع هذه الصفات في نظر حازم إلى قوة حيلة الشاعر وذكائه وهكذا يكون الشاعر الحاذق .
ومراد حازم من قوله { لفظ الشاعر أو كلامه } يعني لفظه ومعناه وأسلوبه ونظمه , وقوله : { وتقوم في خياله صورة } شرح منه لكلمة { تتمثل } وقوله : { أو تصور شيء آخر بها } تابع لتخيلها وتصورها لأن الصورة قد تبعث صورة أخرى , والخيال قد يثير خيالاً , وهو ما يوحي به قوله : ” ينفعل لتخيلها وتصورها أو تصور شيء آخر بها انفعالا ” وبالتالي فهو يقسم المحاكاة إلى محاكاة الشيء في نفسه، وهي الوصف؛ ومحاكاة الشيء في غيره، وهي التشبيه ؛ وقد جاء تأكيد ذلك في أثناء كلامه في هذا الموضوع بوضوح .
2- أردأ الشعر عند حازم : ” وأردأ الشعر ما كان قبيح المحاكاة والهيئة , واضح الكذب خلياً من الغرابة , وما أجد ما كان بهذه الصفة ألاّ يسمى شعراً وإن كان موزوناً مقفى إذ المقصود بالشعر معدوم منه , لأن ما كان بهذه الصفة من الكلام الوارد في الشعر لا تتأثر النفس لمقتضاه لأن قبح الهيئة يحول بين الكلام وتمكنه من القلب , وقبح المحاكاة يغطي على كثير من حسن المحاكي ويشغل عن تخيّل ذلك , فتجمد النفس عن التأثر له ووضوح الكذب يزَعها عن التأثر بالجملة ” ()
ويبدو من القول أن صفات الشعر عند حازم هي : ( قبح المحاكاة والهيئة لأن ذلك لا يجعله ينفذ إلى القلب , أي لا يستحوذ على القلوب فيمتلكها ولا يهز الأنفس – جلاء الكذب فلا يكون له أثر على النفس – الخلو من الغرابة فلا تكون فيه عذوبة ) إن الشعر الرديء حتى وإن جاء موزوناً ومقفى فإنه ليس بشعر في نظر حازم لاتصافه بصفات الرداءة وهو بعكس الشعر الجيد .
ثالثًا- الوزن والقافية :
( أ ) الوزن : أعطى حازم لعنصري الوزن والقافية أهمية بالغة في المنهاج إذ عدّ الشعر كلاماً موزوناً مقفى , والوزن قاعدة جوهرية يُبنى عليها الشعر تناوله حازم بكثير من الاهتمام بحيث رأى أن الأوزان العروضية ثلاثة أصناف يقول : ” إن الأوزان المستعملة عند أهل النظم – مما ثبت استعمال العرب له وماشك في ثباته وما لم يثبت أصلاً بل وضعه المحدثون متركبة من ثلاثة أصناف من الأجزاء خماسيات وسباعيات وتساعيات وإن لم يسلم في هذا العروضيون .. ” ” فأما ما تركب من الخماسية الساذجة فالمتقارب , والسباعية الساذجة الرجز والكامل والوافر والرمل والهزج, وأما ما تركب من التساعية الساذجة فالخبب وبناء شطره متفاعلتن متفاعلتن . وتحدث عن البحور الشعرية التي ثبت وضعها عن العرب وحصرها في أربعة عشر وزنا , وهي المشهورة , واستثنى المضارع والخبب لأن ذوق العرب في نظره أكبر من هذين الوزنين بحيث اعتبر المضارع بحراً مختلفاً لا أساس له من الصحة , في حين جعل الخبب موضع شك ( )
(ب) القافية : ترتبط القافية بالوزن عنده , وهي عبارة عن وحدة صوتية مطردة اطراداً منظماً في نهاية الأبيات حتى لكأنها فواصل موسيقية متوقعة بالنسبة لسامع الشعر العربي بين فترات زمنية منتظمة وتعتبر ضابط الإيقاع في البيت الشعري ويرى حازم أنها أساسية يقول : ” أجيدوا القوافي فإنها حوافز الشعر أي عليها جريانه واطراده , وهي مواقفه فإن صحّت استقامت جريته وحسنت مواقفه ونهاياته ().
والذي يجب اعتماده في مقاطع القوافي أن تكون حروف الروي في كل قافية من الشعر حرفاً واحداً بعينه غير متسامح في إيراد ما يقاربه معه ( ) . وهو يقصد خلو القصيدة من عيب الإكفاء . ومما يوجبه الاختيار أن تكون حركات حروف الروي من نوع واحد لا يجمع بين رفع وخفض ( ) يقصد بذلك عيب الإقواء .
رابعًا- المحاكاة والتخييل عند حازم القرطاجني :
( أ ) المحاكاة : ما عُرِف عن حازم القرطاجني أنه كان مولعاً بالمحاكاة الأرسطية , فأرسطو رأى بأن الفن محاكاة – تقليد أو تشبيه – للحقيقة التي تتجسد في الشخصيات والانفعالات والأفعال, وقد ارتبطت المحاكاة بالتخييل عند حازم , وهما من أهم مرتكزات الشعر وضروريان لتركيبه , ولتوضيح مفهوم التّخييل والمحاكاة عند حازم هذه بعض التعريفات التي جاءت في المنهاج :
أقرّ حازم أن المحاكاة هي تصوير وتمثيل للعالم الخارجي لأن محصول الأقاويل الشعرية ” تصوير الأشياء الحاصلة في الوجود وتمثيلها في الأذهان على ما هي عليه خارج الأذهان من حسن أو قبح حقيقة أو على غير ما هي عليه تمويها واتهاما “( )
وفي موضع آخر يقر بأنها جبّلة إنسانية يقول : ” لما كانت النفوس قد جبلت على التنبه لأنحاء المحاكاة واستمالها والالتذاذ بها منذ الصبا , وكانت هذه الجبلة في الإنسان أقوى منها في سائر الحيوان “().
ولا يجوز أن نغفل الصلة المتينة بين التخييل والمحاكاة , وأن المحاكاة هي الباعثة للخيالات لأن المحاكاة هي العبارة عند حازم , وإن كانت المحاكاة قد تتسع فتشمل المحاكاة بالصوت والمحاكاة بالنحت والمحاكاة بالتصوير , وكل هذا لم يلتفت إليه حازم وإنما التفت إلى المحاكاة القولية لأنها هي موضوع هذا العلم .
وتعددت أقسام المحاكاة عنده , يقول : (لا يخلو المحاكي من أن يحاكي موجوداً بموجود أو بمفروض الوجود مقدره , ومحاكاة الموجود بالموجود لا تخلو من أن تكون محاكاة شيء بما هو من جنسه , أو محاكاة شيء بما ليس من جنسه , ومحاكاة غير الجنس لا تخلو من أن تكون محاكاة محسوس بمحسوس أو محاكاة محسوس بغير محسوس ,أو مدرك بغير الحس بمثله في الإدراك , وكل ذلك لا يخلو من أن يكون محاكاة معتاد بمعتاد أو مستغرب بمستغرب , أو معتاد بمستغرب أو مستغرب بمعتاد , وكلّما قرب الشيء مما يحاكي به كان أوضح شبهاً , وكلّما اقترنت الغرابة والتعجيب بالتخييل كان أبدع ” ()
ويوجد تقسيم آخر للمحاكاة عنده : محاكاة تحسين أو تقبيح أو مطابقة يقول : ” وتنقسم التخاييل والمحاكاة بحسب ما يقصد بها إلى : محاكاة تحسين وقد تكون محاكاة تقبيح وقد تكون محاكاة مطابقة لا يقصد بها إلا ضرب من رياضة الخواطر والمُلح في بعض المواضع التي يعتمد فيها وصف الشيء ومحاكاته بما يطابقه ويخيّله على ما هو عليه , وربما كان القصد بذاك ضرباً من التعجب والاعتبار. فإذا كان الشيء حسناً في محاكاة المطابقة ألحقت بمحاكاة التحسين , وإن كان الشيء قبيحاً ألحقت بمحاكاة التقبيح . وقد يحاكي الكلي بالكلي وقد يحاكي الكلي بالجزئي أو العكس , وقد يحاكي الجزئي بالجزئي ويحاكي المطلق بالمطلق أو المطلق بالمقيد … ()
ونلاحظ أن معظم الأقسام هنا ممّا جرت في التشبيه , ومن أهم ما قاله حازم تقسيمه التخييل إلى تخاييل أُوّل وتخاييل ثوان , والتخاييل الأوّل هي الصور والخيالات التي يثيرها القول في المقول فيه , يعني الموصوفات التي يصفها الكلام , ويبرزها صوراً في النفس من حيث كلام .
والتخاييل الثواني : هي التي تتخلق من الألفاظ من حيث هي ألفاظ ومن إتقان الصياغة وحسن التآلف والاقترانات وامتداد المعاني وتتابعها وبناء بعضها على بعض واستدعاء بعضها بعضاً مما يسميه حازم الأسلوب , ومن حيث الوزن ودرجات النغم لأن الرنين يحمل صوراً وخيالات فالألفاظ من حيث هي ألفاظ تتعلق بها أخيلة ويذكر حازم أن هذه الثواني بمثابة النغمات والنقوش الصغيرة والزينة , وأن التخاييل الأول هي بمثابة الخطوط الأساسية للصورة وهذه التخاييل الثواني بمثابة ما تمتلئ به فراغات الصورة , وهو زينتها وحليُها وبراعتها وجمالها وميل النفس موقوف أكثره على هذا ( ) .
ويذكر حازم قسمة أخرى وهي أنها : تنقسم المحاكاة من جهة تخيل الشيء بوساطة أو بغير وساطة إلى قسمين : محاكاة الشيء بنفسه وبأوصافه التي تحاكيه .
ومحاكاة الشيء في غيره . وعمل الشاعر في هذين النوعين كمن يمثل صورة الشيء نحتاً أو خطاً فتعرف المصوّر بالصورة , أو الذي يتخذ مرآة يبدي لك بها تمثال تلك الصورة فتعرف المصوّر بتمثال الصورة المتشكل في المرآة , ولا بد في كل محاكاة من أن تكون جارية على هذين الطريقين : إما أن يحاكي لك الشيء بأوصافه التي تمثل صورته وإما بأوصاف شيء آخر تماثل تلك الأوصاف ()
وتنقسم المحاكاة من جهة أخرى إلى التشبيه المتداول والتشبيه المخترع وهذا النوع ” أشد تحريكاً للنفوس إذا قدّرنا تساوي قوة التخييل في المعنيين لأنها أَنِست بالمعتاد فربما قلّ تأثرها له , وغير المعتاد يفجؤها بما لم يكن به لها استئناس قط فيزعجها إلى الانفعال بديها بالميل إلى الشيء والانقياد إليه أو النفرة عنه والاستعصاء عليه . وأما المعنى في نفسه فحقيقة واحدة ولا فرق بالنظر إلى حقيقته بين أن يكون جديداً مخترعاً وان يكون قديماً متداولاً , وإنما الفضل في المعنى المخترع راجع إلى المخترع له وعائد إليه ومبين عن ذكاء ذهنه وحدة خاطره “( ) . ويجب في محاكاة أجزاء الشيء أن ترتب في الكلام على حسب ما وجدت عليه في الشيء لأن المحاكاة بالمسموعات تجري من السمع مجرى المحاكاة بالمتلوّنات من البصر () .
وينتقل حازم إلى مناقل الفكر في التخييلات التي يرام بها إيقاع التحسينات والتقبيحات . والمراد بمناقل الفكر الخطوات التي يخطوها الفكر في إيقاع التخييلات التي يراد بها التحسين والتقبيح , يعني بناء القصيدة , ويجعلها ثماني حالات أربعة منها في إنجازات كلية , وأربعة منها في إنجازات جزئية :
الحالة الأولى : يتخيل فيها الشاعر مقاصد غرضه الكلية التي يريد إيرادها في نظمه .
الحالة الثانية : أن يتخيل لتلك المقاصد طريقاً وأسلوباً أو أساليب متجانسة أو مختلفة ينحو بالمعاني نحوها .
الحالة الثالثة : ان يتخيل ترتيب المعاني في تلك الأساليب . ومن أهم هذه التخييلات موضع التخلص والاستطراد .
الحالة الرابعة : أن يتخيل تشكل تلك المعاني وقيامها في الخاطرة في عبارات تليق بها .
وهذه الأربع في التخاييل الكلية , أما التخاييل الجزئية فهي :
الحالة الخامسة : أن يشرع الشاعر في تخيل المعاني معنى معنى بحسب غرض الشعر .
الحالة السادسة : أن يتخيل ما يكون زينة للمعنى وتكميلاً له , من اقترانات وتشبيهات وأمثال وتعجيبات واستغراب .
الحالة السابعة : أن يتخيل لما يريد أن يضمنه كل مقدار من الوزن الذي قصد ,عبارة توافق نقل الحركات والسكنات فيها ما يجب في ذلك الوزن في العدد والتركيب .
الحالة الثامنة : أن يتخيل ,في الموضع الذي تقصر فيه عبارة المعنى عن الاستيلاء على جملة المقدار المقفى معنى يليق أن يكون ملحقاً بذلك المعنى , وتكون عبارة المعنى الملحق طبقاً لسد الثلمة التي لم يكن لعبارة الملحق به وفاء بها (). وهذا ما تؤيده التجربة الشعرية فالشاعر المطبوع لا يفكر في هذه المراحل وإنما تتداخل في عملية الخلق والإبداع . ويرجع حسن موقع المحاكاة في النفوس إلى الالتذاذ بالمحاكاة وحب الناس للتأليف المتفق طبعاً ()
ولا تبلغ المحاكاة الغاية القصوى من هزّ النفوس وتحريكها دائماً وإنما تتأثر بحسب ما تكون عليه درجة الإبداع فيها , وبحسب ما تكون عليه الهيئة النطقية المقترنة بها , وبقدر ما تجد النفوس مستعدة لقبول المحاكاة والتأثر بها ولها ( ) . فإذا اكتملت هذه الأمور كان التذاذ المتلقي بالشيء المحكي نفسه أكثر من التذاذه بالمحاكاة نفسها لما فيها من غرابة وتعجيب وإبداع .
ولا يقتصر في المحاكاة على العناية بالصور والمعاني وإنما ينبغي أن يكون للفظ نصيب كبير “فمنزلة حسن اللفظ المحاكى به وأحكام تأليفه من القول المحاكى به , ومن المحاكاة بمنزلة عتاقة الأصباغ وحسن تأليف بعضها ببعض وتناسب أوضاعها من الصور التي يمثلها الصانع , وكما أن الصورة إذا كانت أصباغها رديئة وأوضاعها متنافرة وجدنا العين نابية عنها غير مستلذة لمراعاتها ,وإن كان تخطيطها صحيحاً , فكذلك الألفاظ الرديئة والتأليف المتنافر ,وإن وقعت بها المحاكاة الصحيحة فإنا نجد السمع يتأذى بمرور تلك الألفاظ الرديئة القبيحة التأليف عليها يشغل النفس تأذي السمع عن التأثر لمقتضى المحاكاة والتخييل فلذلك كانت الحاجة في هذه الصناعة إلى اختيار اللفظ وإحكام التأليف أكيدة جداً” ().
( ب ) التخييل : في أبسط تحديداته عند حازم هو : ” أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر المخيّل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه , وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها وتصوّرها , أو تصوّر شيء آخر بها انفعالا من غير رويّة إلى جهة الانبساط أو الانقباض ” () .
ويفهم من هذا أن حازماً يربط بصورة جلية بين التخييل والجانب النفسي لدى المتلقي , أي أن عملية التخييل هي عملية استجابة نفسية أو إدراكية لمؤثر أو أكثر انطوت عليه الصناعة الشعرية . وعلى الرغم من أن مصطلح التخييل هو المهيمن على استخدامات حازم القرطاجني لعناصر العملية الشعرية وتلقيها فإن مصطلحات أخرى تتداخل معه أحياناً , مثل : المحاكاة والتخيّل والقوّة المخيّلة والقوة المتخيلة فالتخيّل يعني عنده القوة الإدراكية الفاعلة لعملية المزج بين الأشياء وإدراك العلاقات الظاهرة والكامنة فيها , أي انه يرتبط بالجانب الإبداعي في حين يرتبط التخييل بالجانب التأثيري وتحريك النفس لمقتضى الكلام وحملها على طلب الشيء أو الهرب منه . إذاً التخيل هو فعل المحاكاة في تشكله , والتخييل هو الأثر المصاحب لهذا الفعل بعد تشكله .
ويدرك حازم أن العملية الشعرية تخضع لعناصر أربعة تشكل مجتمعة أطراف الرسالة الشعرية وهي : العالم الخارجي , والمبدع , والرسالة الشعرية والمتلقي , وكل طرف من هذه الأطراف يقوم بوظيفة محددة أثناء إبداع الرسالة الشعرية لذلك ؛ إذا كان حديثه عن علاقة الشاعر بعالمه فإننا نجده أميل إلى استخدام مصطلح المحاكاة وحده , وإذا تحدث عن طاقات الشاعر الإبداعية وقواه الابتكارية فإنه يستخدم في هذه الحالة مصطلح التخييل والمتخيلة أو المخيلة , وهو يستخدم المصطلحات الثلاثة الأخيرة نفسها في حديثه عن الطرف الثالث – العمل الفني أو الشعري – على أساس أن العمل الفني ينتج عن عمل تلك القوة الإبداعية . أما حين يتحدث حازم عن المتلقي – الطرف الرابع في العملية الفنية – فإننا نراه أميل إلى قصر الاستعمال على مصطلح واحد هو التخيل .
” وطرق وقوع التخييل في النفس : إما أن تكون بأن يتصور في الذهن شيء من طريق الفكر وخطرات البال , أو بأن تشاهد شيئاً فتذكر به شيئاً , أو بأن يحاكي لها الشيء بتصوير نحتي أو خطي أو ما يجري مجرى ذلك , أو يحاكي لها صوته أو فعله أو هيأته بما يشبه ذلك من صوت أو فعل أو هيئة , أو بأن يحاكي لها معنى بقول يخيّله لها ” ()
والتخييل عنده أربعة أنحاء : يقول : ” والتخييل في الشعر يقع من أربعة أنحاء : من جهة المعنى ومن جهة الأسلوب ومن جهة اللفظ ومن جهة النظم والوزن () . وأفضل التخييل ما يكون له تأثير في نفس المتلقي. ثم يبين أن التخييل من جهة المعنى ضروري في الشعر , والتخييل من جهة الأسلوب مؤكد وليس بضروري ومثله التخييل من جهة اللفظ والوزن وإن كان في الأسلوب آكد , وكل تخييل لا بد أن يراد به إنهاض النفس إلى طلب الشيء أو الهروب منه ().
أما مواقع التخييل فيجب أن يكون التخييل في المعاني المناسبة للغرض المسوق له الكلام , فإذا كان الغرض في التهاني مثلاً فيجب أن تكون التخاييل في المعاني السارّة , وإذا كان الغرض في التفجع فيجب أن تكون التخاييل في المعاني التي هي من التفجع بسبيل فإن مناسبة المعنى للحال التي فيها القول وشدة التباسه بها مما له أثر حسن في النفس ().
ثم يذكر أن بناء الكلام على التعجيب مما تحسن به مواقع الخيالات في النفس , والمراد بالتعجيب الوقوع على الأمر المستغرب سواء كان هذا في إبداع فكرة تهدّى إليها الخاطر أو كان في كشف علاقة خفية بين معنى ومعنى كعلاقة تشبيه أو علاقة سببية أو علاقة تضاد , المهم مفاجأة النفس بما لا عهد لها به بأي فكرة كانت أو علاقة .
ويقول أيضاً : أنه يجب ألاّ يسلك بالتخييل مسلك السذاجة في الكلام ولكن لا بد من ضرورة حسن التأليف وشد أزر المحاكاة كما يقول بحسن الترتيب وقوة التآلف ودقة المناسبة وحسن نسق الكلام وتتويج الكلام بالقصص والتمثيل والاستدلالات والتشبيهات ().
واتصالا بقضية التخييل يعرض حازم لقضية الصدق والكذب في الشعر , ويرى أن التخييل لا يقصد منه إلا التأثير النفسي للقول ذاته , دون النظر إلى مطابقة ذلك القول لشيء خارج عنه . وبإهماله لقضية الصدق والكذب في القول الشعري يطلق العنان لدور التخييل في إنتاج شعرية القول , وإذا حدث تعارض بين التخييل والتصديق فإن التخييل مقدم عليه أبداً لاشتداد ولوع النفس بالتخييل والانفعال له .
ولم يجوز حازم وقوع الكذب في الشعر مطلقا، بل اشترط أن يكون خفيا حتى يكون الشعر حسنا. وخلاصة رأي حازم في هذه القضية أن الشعر إنما ينظر إليه من ناحية تأثيره وقدرته على إحداث الانفعال النفساني، فقد يكون صادقا والصدق فيه عاجز عن إحداث الانفعال، وحينئذ يكون الكاذب القادر على إحداث الانفعال خيرا منه.
والفرق بين المحاكاة والتخييل أن التخييل يتصل مباشرة بالمتلقي بما يحدثه في نفسه من أثر , أما المحاكاة فإنها تتصل بالمبدع باعتبار أن الأخير يحاول أن يحاكي الأشياء التي قامت في نفسه سواء بصورتها الحسية أو المجردة أو الوهمية ويصوغها في لغة فنية جمالية . لذلك يمكننا القول أن مصطلح المحاكاة عنده يكون أقرب في دلالته إلى مصطلح التخيّل منه إلى مصطلح التخييل , فالمحاكاة ترتبط أصلاً بعملية الخلق الفني بينما يرتبط التخييل بعملية التلقي والانفعال بها .
خامسًا : الصورة :
ويتصل بالتخييل والمحاكاة تشكيل الصورة , يقول حازم : “إن المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان فكل شيء له وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه , فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللفظ المعبّرُ به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم ” () . ويتم اقتباس المعاني واستثارتها وتشكيل الشاعر لصوره بطريقين : الأول : تقتبس منه لمجرد الخيال وبحث التفكير . والثاني : تقتبس منه بسبب زائد على الخيال والفكر () .
سادسًا : النظم والتركيب : ( المباني )
من مقومات الشعرية التي أولاها حازم عناية كبيرة حسن اختيار الألفاظ والتأليف بينها بطريقة جيدة تنطوي على جانب عظيم من الجدة والابتداع بحيث تؤدي أثرها النفسي في نفس السامع وتغريه بالقبول والرضا أو النفور . وقد بدأ هذا القسم ببيان القدرات التي يجب أن تتوفر لصناعة الشعر وحظوظ الشعراء من هذه القدرات , وقد مهد لبيانها بقوله : ” إن النظم – يقصد الشعر – صناعة آلتها الطبع , والطبع هو استكمال للنفس في فهم أسرار الكلام والبصيرة بالمذاهب والأغراض ” ( )
ولما كانت المحاكاة تمثل عنده جوهر العملية الشعرية بما يتصل بها من حسن التخييل والبعد عن التجريد فإنه يقرن – عادة – بينها وبين جودة التأليف كعنصرين أساسيين في شعرية القول . ومن ثم فإن المحاكاة وحدها – على أهميتها – لا تبلغ درجة الإقناع والإمتاع عند السامع إن لم يصاحبها إبداع في البناء اللغوي الذي يحتويها أو يجسدها . فليست المحاكاة في كل موضع تبلغ الغاية القصوى من هزّ النفوس وتحريكها بل تؤثر فيها بحسب ما تكون عليه درجة الإبداع , وبحسب ما تكون عليه الهيئة النطقية المقترنة بها , وبقدر ما تجد النفوس مستعدة لقبول المحاكاة والتأثر .
ولذلك فهو يرى أن العملية الشعرية عملية معقدة لا تؤتي ثمارها إلا بما يقوم بين عناصرها من تناسب وتوافق وتكامل بحيث يؤدي إهمال أحد عناصرها إلى هدم بقية العناصر أو إضعافها إلى الحد الذي يجردها من فاعليتها الشعرية .
فهو يلح دائماً على ضرورة انتقاء الألفاظ المناسبة والخضوع لمبدأ الاختيار في كل عملية شعرية سواء من حيث اختيار المفردات أو التراكيب النحوية التي تتألف فيها , وأن تكون علّة الاختيار والقبول بهذه أو تلك مبررة بما ينشأ بينها من تلاؤم وتناسب واستقصاء للمعنى الشعري القائم في نفس المبدع
ويدرك حازم في إطار عنايته بالألفاظ وطرق نظمها أن النسج على منوال واحد أو طريقة معتادة قد يضعف من فاعلية القول الشعري ويدفع به إلى مستوى لغوي أدنى من مستواه المبتغى لذلك ينبغي على المبدع أن تظل لغته في عملية تنام وتجدد مستمرين سواء من الناحية الإفرادية أم التركيبية بما يحفظ له حق السبق والتميز والخصوصية ؛ لأن تكرار عبارات بعينها أو نظم تعبيرية مخصوصة يذهب بريق العبارة ويحد من جاذبيتها الشعرية .
ومن فهم أسرار الكلام معرفة المذاهب التي من شأن الشعر أن ينحو نحوها , ولا تستطيع النفوذ في مقاصد الشعر وحسن التصرف فيه إلا بقوى فكرية واهتداءات خاطريّة تتفاوت فيها أفكار الشعراء , وهذه هي التي عليها المعول لأنها هي الطبع المعين على فهم أسرار الكلام ومذاهبه وأغراضه , وهذه القوى عشر :
= القوّة على التشبيه فيما لا يجري على السجية ولا يصدر عن قريحة بما يجري على السجية ويصدر عن قريحة . وهي إشارة تؤذن بقدرة المبدع على تلبس حالة ليست له على الحقيقة .
= القوّة على تصوّر كليات الشعر والمقاصد الواقعة فيها والمعاني الواقعة في تلك المقاصد .
= القوّة على تصوّر صورة للقصيدة تكون بها أحسن ما يمكن , وكيف يكون إنشاؤها أفضل من جهة وضع بعض المعاني والأبيات والفصول من بعض إلى صدر القصيدة ومنعطفها من نسيب إلى مديح .
= القوّة على تخيّل المعاني بالشعور بها واجتلابها من جميع جهاتها .
= القوّة على ملاحظة الوجوه التي يقع بها التناسب بين المعاني وإيقاع تلك النسب بينها .
= القوّة على التهدّي إلى العبارات الحسنة الوضع والدلالة على تلك المعاني .
= القوّة على التخيّل في تسيير تلك العبارات متزنة وبناء مباديها على نهاياتها ونهاياتها على مباديها .
= القوّة على الالتفات من حيّز إلى حيّز والخروج منه إليه والتوصل به إليه .
= القوّة على تحسين وصل بعض الفصول ببعض والأبيات بعضها ببعض ,وإلصاق بعض الكلام ببعض على الوجوه التي لا تجد النفوس عنها نبوة .
= القوّة المائزة حسن الكلام من قبيحه بالنظر إلى نفس الكلام وبالنسبة إلى الموضع المُوقَع فيه الكلام .
وهذه هي القوّة الوحيدة من العشر التي يورد فيها إحدى القوى الثلاث الضرورية للإبداع : الحافظة والمائزة والصانعة . أما القوى الثماني الباقية فمندرجة مع مراحل الإبداع .
وفي ضوء هذه القوى ينقسم الشعراء إلى ثلاث مراتب : أهل المرتبة العليا وهم الشعراء في الحقيقة , وأهل المرتبة السفلى وهم غير شعراء في الحقيقة وأهل المرتبة الوسطى وهم شعراء بالنسبة إلى من دونهم غير شعراء بالنسبة إلى من فوقهم ()
وبعد أن ذكر هذه القوى انتقل إلى وصف الممارسة وخطوات بناء الشعر أو كيفيات مآخذ الشعراء في نظم الكلام وإنشاء مبانيه وما يقدمونه بين يدي ذلك من تصور أغراض القصائد مبتدئاً بوصية أبي تمام للبحتري , وقد ذكر البحتري في أولها أنه كان في حداثته يروم الشعر وأنه كان يرجع فيه إلى طبع ولم يكن يعرف تسهيل مأخذه ووجوه اقتضابه , وهاتان كلمتان عزيزتان لأنهما تجمعان صناعة الشعر .
وكان أهم ما أوصاه به أبو تمام هو تخير الوقت { كالسحر لأن النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم } , وجمام النفس { قليل الهموم صفر الغموم } ومراعاة المعاني واللغة ومطابقتها للمقاصد , فإذا أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً , وأكثر فيه من بنات الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق . وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه .
ومن أهم ما قاله : ” وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك , ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين “( )
ثم يصف لنا عمل الشاعر فيقول : ” حقيق عليه إذا قصد الرّوية أن يحضر مقصده في خياله وذهنه والمعاني التي هي عمدة له بالنسبة إلى غرضه ويتخيلها تتبعاً للفكر في عبارات بدد , ثم يلحظ ما وقع في جميع تلك العبارات طرفاً أو مهيّئاً لأن يصير طرفاً من الكلم المتماثلة المقاطع الصالحة لأن تقع في بناء قافية واحدة ثم يضع الوزن والروي” ( )
ثم يقسم المعاني والعبارات على الفصول ويبدأ بما يليق بمقصده أن يبدأ به ثم يتبعه من الفصول بما يليق أن يتبعه ثم يشرع في نظم العبارات التي أحضرها في خاطرة فيصيرها موزونة إما بأن يبدل فيها كلمة مكان كلمة مرادفة لها أو بأن يزيد في الكلام ما تكون لزيادته فائدة فيه أو بان ينقص منه ما لا يخل به ..()
ويتحدث عن البحر الذي يبنى عليه شعره فقد يكون طويلاً , أو قصيراً أو متوسطاً : ” فأما الطويل فكثيراً ما يفضل مقداره عن المعاني فيحتاج إلى الحشو , وأما القصير فكثيراً ما يضيق عن المعاني ويقصر عنها فيحتاج إلى الاختصار والحذف , وأما المتوسط فكثيرا ما تقع فيه عبارات المعاني مساوية لمقادير الأوزان فلا يفضل عنها ولا تفضل عنه فلا يحتاج فيه إلى حذف ولا حشو لكنه يشارك الطويل والقصير في الاحتياج فيه إلى الوجوه الباقية وهي : العدل والبدل والتقديم والتأخير أو مجموع أكثر من واحد من ذلك “( )
ويشير حازم إلى ملاءمة البحور للمعاني فمن البحور ما هو رصين فخم يصلح للمديح والفخر كالطويل والبسيط , وأن المديد والرمل تصلح للأغراض التي فيها إظهار الشجو والاكتئاب لأن أعاريضها فيها حنان ورقة .
وينبه إلى أنه يتأتى وزن الشعر لمن له طبع وموهبة , والشاعر المتمكن لا يخرج على الوزن إلا إذا عرض له عارض كالتعب او الانشغال بالمعنى أو السهو أو تقارب البحور ولكنه سرعان ما ينتبه ويعود إلى إصلاح الوزن ولذلك لا ” يعتاص وزن الكلام على المطبوعين إلا حيث يريدون صوغ الكلام على هيئات بديعة يحتاج فيها إلى إمرار الفكر على الألفاظ … فأما سوى ذلك فالوزن أيسر شيء على من له أدنى بروع في هذه الصناعة “( وينبه أيضاً إلى أن الشاعر المتمكن قد يكون أبطأ في إعداد القصائد من غير الشاعر المتمكن وذلك لأنه يتروى ويراجع وينقح ويختار شريف المعاني مع شريف اللفاظ في أحسن العبارات ويبين حازم أن الشاعر المروى ينجز شعره من خلال أربعة مواطن :
الأول: قبل الشروع في النظم وهي مرحلة التخيّل , والغناء فيها لقوة التخيل ,
والموطن الثاني : في حال الشروع , والغناء فيها للقوة الناظمة ,
والموطن الثالث : عند الفراغ من إنتاج الشعر والمعول عليه فيها القوة المائزة ,
والموطن الرابع : بعد الفراغ بزمن متراخ والشاعر فيها يراجع شعره فيرى وضع شيء مكان شيء ويظهر له بعد الزمن ما كان خفي عليه زمن إنشاء شعره فيرى موضعاً خليقاً بالتغيير ( )
وينتقل حازم إلى كيفية التصرف في مقاصد الشعر وجهاته أي أبوابه التي تتعلق بها المعاني في القصيدة كالغزل والمديح والفخر وهذه الجهات كل جهة منها لها معان أصلية وهي ما يجب ذكره مما يتعلق بالغرض ويسميها حازم المعاني الأول , ولها معان ثوان وهي ما تتعلق بالغرض تعلقاً ليس من جهة الأصالة , ولكنها تتعلق بالمعاني المتعلقة بالغرض , وتذكر تابعة لها على جهة المحاكاة التي هي التشبيه أو على جهة الإحالة كالقصص والتواريخ والحكم ().
ثم إن الشعراء تتفاوت مذاهبهم في إيراد هذه المعاني , وقد كان الأوائل يهتمون بالمعاني الثواني وكانت خواطرهم وخيالاتهم تسعفهم في إحضار المعاني التي لها صلة بما هم فيه , وكانوا يحسنون التصرف والانتقال إليها على جهة الاستطراد أو الاستدراج كما ترى ذلك مثلاً في وصف الرحلة بالنسبة لغرض المديح , وكحديث امرئ القيس عن رحلة المتحمل وهو يذكر صبواته .
ومن قوة الكلام أن يجعل ذكر هذه المعاني الثواني راجعة إلى المعاني الأول فتؤكدها أو تبالغ فيها أو توضح غوامضها ,أو تزيد حقائقها وتجليها ().
ويشير حازم إلى أن المعاني الأول ضيقة ويمكن حصرها والمعاني الثواني متسعة ولا يمكن حصرها لأن كل معنى من المعاني الأول يمكن أن تتعلق به جملة من المعاني الثواني على وجه من وجوه التعلق ()
ويقول : ومن الشعراء من يحسن القول في جهة واحدة ولا يحسن أن يردف قوله في جهة بقوله في جهة , وأن ينتقل من إحداهما إلى الأخرى انتقالاً لطيفاً . ومنهم من لا يحسن ذلك الانتقال ( ) .
وللشعراء أنحاء ومذاهب مستحسنة كالأوصاف والتشبيهات والتواريخ والحكم والأمثال وهذه الأربعة أبواب البراعة , فباب الوصف برع فيه البحتري , وباب التشبيه برع فيه ابن المعتز , وباب الأمثال برع فيه أبو الطيب المتنبي , وباب التاريخ برع فيه ابن دراج القسطلي ()
وختم هذا المبحث بالإشارة إلى معرفة طرق تحسين العبارات والتأنق في اختيار موادها التي هي الكلمات المفردة وإجادة وصفها ورصفها . وأشار إلى أن قوة الطبع التي تهدي إلى العبارات المستحسنة يجمع فيها ثلاث صفات : العذوبة وتكون بحسن الألفاظ والصيغ والائتلاف والاستعمال المتوسط .
والصفة الثانية الطلاوة وتكون بائتلاف الكلم من حروف صقيلة وتشاكل يقع في التأليف ربما خفي سببه وقصرت العبارة عنه .
والثالثة : الجزالة تكون بشدة التطالب بين كلمة وما يجاورها وبتقارب أنماط الكلم في الاستعمال , وشدة التطالب يعني شدة المناسبة بين الكلمات من حيث معانيها ( )
سابعاً : وتحدث حازم عن المطالع والمقاطع فذكر أن للعلماء وجهين في تحديد المراد بالمطلع , هل هو البيت الأول في القصيدة الذي تستهل به ؟ وهل المقطع هو البيت الأخير من القصيدة ؟ أم أن المطلع أول كل بيت في القصيدة , والمقطع آخر كل بيت في القصيدة ؟
فإذا كان المطلع هو البيت الذي تستهل به القصيدة فالواجب فيه أن تكون العبارة في المصراع الأول حسنة والمعنى شريفاً والعبارة واضحة الدلالة , وأن تكون الألفاظ الواقعة فيه لا سيما الأولى والواقعة في مقطع المصراع مستحسنة غير كريهة من جهة مسموعها ومفهومها ()
ثم يركز حازم على كلمة المقطع في المصراع الأول في أول بيت وأنه من المستحسن أن تكون مختارة متمكنة واقعة موقعاً حسناً , وأن تكون متناسبة مع القافية في قطعها وأن تتلاءم معها في الوزن وأن تتلاءم في التأسيس والردف والوصل بالضمائر وهذا هو التصريع الذي اهتم به الدارسون , واختاروا له هذا اللفظ الذي هو من تصريع الجواهر( ) . يقول :” فإن للتصريع في أوائل القصائد طلاوة وموقعاً من النفس لاستدلالها به على قافية القصيدة قبل الانتهاء إليها ولمناسبة تحصل لها بازدواج صيغتي العروض والضرب وتماثل مقطعها لا تحصل لها دون ذلك”( ) .
وينبه حازم إلى خطأ قد يقع , وهو أن يكون مقطع المصراع الأول مشعراً بالقافية , وأنه تصريع ثم تأتي القافية على غير ما يلائمه لأن هذا مما يوحش النفس بتهيؤها ثم مفاجأتها بهذا التغيير ()
ويؤكد حازم على توفير الوسائل التي تجعل صدر المصراع الأول قادراً على إمالة النفوس وأن يوفر لها ما تستعذبه الآذان من لفظ حسن المسموع ومن دقة ولطافة في المعاني التي تثير الشجو كالمنجاة والتذكر , وأن يضيف إلى ذلك من معاني القلوب ما يستثيرها كالتعجب والاستفهام والتودد , ويضرب لذلك قول أبي تمام : يا بعد غاية دمع العين إن بعدوا *** هي الصبابة طول الدهر والسهد
وقول المتنبي : أترها لكثرة العشاق *** تحسب الدمع خلقة في المآقي . ()
وهذا من أكرم المعاني في أحسن الألفاظ , وقد أحسن أبو تمام لما بدأها بهذا النداء الذي يراد به التعجب والاستعظام , وأحسن أبو الطيب لما بدأ بهذا الاستفهام الدال على التحقيق , وأنها تحسب الدمع خلفة في المآقي لأنها لم تقع عينها على عين إلا ورأت فيها دمعاً . أما صدر المصراع الثاني فإنه مما يتسامح فيه لأنه سيكون محوطاً بحسن فائق في المصراع الأول , وفي مقطع البيت .
أما بيت المقطع وهو آخر بيت في القصيدة فكما حسن في المطلع أن يكون دالاً على الغرض فإنه يحسن أن يكون مستوعباً أفضل ما في القصيدة وأحسن ما اندرج في حشوها وان يحترز أشد الاحتراز من كل لفظ كريه أو معنى منفر للنفس عما قصدت إمالتها إليه . وإنما وجب الاعتناء بهذا الموضع لأنه منقطع الكلام وخاتمته ()
ثامناً : ثم انتقل إلى ( التماسك النصي ) أي إلى ما يجب في تقدير الفصول وترتيبها ووصل بعضها ببعض وتحسين هيآتها , والمراد به إحكام مباني الفصول ووصل بعضها ببعض , حيث يقول : “والفصول المؤلفة من الأبيات نظائر الكلم المؤلفة من الحروف , والقصائد المؤتلفة من الفصول نظائر العبارات المؤلفة من الألفاظ ” ()
يؤكد حازم الربط بين الأبيات داخل الفصل وذلك بتشبيهها بترابط الحروف في الكلمة , فكما لا يجوز تقديم حرف على حرف في الكلمة كذلك لا يجوز حذف بيت من الفصل ثم يؤكد ربط الفصل بالفصل وبناء الثاني على الأول بتشبيهه ترتيب الفصول داخل القصيدة بترتيب الكلمات داخل العبارة .
ويستحسن حازم هذا الربط ويقول وكما أن الكلمة ينظر فيها من جهتين جهة المادة اللغوية من حيث تلاؤم الحروف وتباعدها وتقاربها وخفتها على اللسان وجهة معناها وربط هذه المادة بالمعنى ووجوه الدلالة كذلك ينظر إلى الفصول من حيث مادتها وهيآتها وترتيبها وعلاقاتها ومن جهة معانيها وما تدل عليه من أوصاف ومحاكاة وتخييلات ()
ويحدد لهذا الكلام أربع جهات : ( الأولى انتقاء مادة الفصول , والثانية ترتيب الفصول وموالاة بعضها لبعض , والثالثة ترتيب الجهات داخل الفصول , والرابعة الروابط بين الفصول . ويجب في الجهة الأولى أو ما يسميه حازم القانون الأول أن تتوفر فيه صفتان صفة تتعلق بالأذن وهي حسن المسموع يعني حسن التلاؤم وجلال النغم وعذوبة الرنين , والثانية تتعلق بالعقول وهو حسن المفهوم , تستحسن العقول معاني هذه الفصول وتهش لما فيها من جدة وصواب وحسن () .
واشترط حازم لهذه الفصول تماسك النسج وألا يتميز بعض الفصول عن بعض تميزا يجعل كل بيت كأنه منحاز بنفسه , ولا بد أن تكون بين الأبيات جامعة معنوية أو بنية معنوية . ويكون منزلة البيت من الذي قبله منزلة العجز من الصدر ومنزلته من البيت الذي بعده منزلة الصدر من العجز , فالقصائد التي نسجها على هذا مما تستطاب ()
والقانون الثاني : الذي هو ترتيب الفصول داخل القصيدة ليس فيه إلا أنه يقدم أدخلها في الغرض وأقربها إلى المقصود وأكثرها حضوراً في نفس الشاعر ثم الذي يليه في الأهمية
والقانون الثالث : أهم وأخصب وهو ترتيب الأبيات داخل الفصول ووجود الروابط بينها التي يستجاد بها الشعر , وأهم ما في ذلك أنه يبدأ بالبيت الذي هو عمدة المعنى والذي له نصاب الشرف , وهذا هو أفضل ما تبدأ به وتطرق به النفس وتفتح شهيتها لحسن الإصغاء .
وعلى الرغم من أن عملية الإبداع لا تخضع لقوانين ثابتة محددة سلفاً وإنما يُنتج كل نص قوانينه الخاصة التي تميزه عن غيره , فإن عملية التماسك الدلالي عند حازم تسير في خطين رئيسين متكاملين :
الأول : أن ينشأ الترابط بين الأبنية الصغرى المتمثلة عنده في الأبيات الشعرية بحيث يكون لمعنى البيت علقة بما قبله ونسبة إليه وأن يردف البيت الأول من الفصل بما يكون لائقاً به من باقي معاني الفصل.
والثاني : أن يحدث الترابط بين الفصول المتعاقبة بحيث يتصل كل فصل بالذي يليه اتصالا عضوياً وهو ما أطلق عليه الاطراد في تسويم رؤوس الفصول .
ويلاحظ حازم أن كثيرا من الشعراء يؤخرون المعنى الأشرف ليكون خاتمة الفصل , وليكون خلاصة ما سبق حتى يستقر في القلب . وأما من يردف الأقوال الشعرية بالخطابية ويزاوج بينها فإن الأحسن له أن يفتتح الفصل بأشرف معاني الأقاويل الشعرية ويختمه بأشرف معاني الإقناع , وهذا مسلك المتنبي كما يقول حازم () . والقانون الرابع وهو وصل بعض الفصول ببعض فالتأليف في ذلك على أربعة أضرب ( ):
( ضرب متصل العبارة والغرض{ المعنى } , وضرب متصل العبارة دون الغرض { بمعنى أن كلمة في البيت الأخير من الفصل تتعلق بكلمة في البيت اللاحق من الفصل على وجه من وجوه التعلق الإعرابي } , وضرب متصل الغرض دون العبارة , وضرب منفصل الغرض والعبارة ) وأفضل الوجوه هو الاتصال من جهة المعنى لا غير بمعنى أن يكون البيت الأول من الفصل رأس كلام وأن يكون في صياغته ما يشعر بذلك وأن يكون الذي نيط به من العبارات ما له مزيد عُلقة بالنفس كالتعجب والتمني والدعاء .
تاسعاً : ثم ينتقل حازم إلى موضوعات الشعر كالمديح والنسيب والأوصاف أو ما يسميه حازم مسانح أقناص المعاني , ومعاضدة التخييل (), فإذا كان موضوع الشعر في المديح كانت الأوصاف والمعاني والأحوال التي يمدح بها هي مسانح أقناص المعاني يعني هي الجهات التي نستثير منها المعاني .
وقوله : (( معاضدة التخييل فيهما بالإقناع )) يقصد طريقة عرض المعاني وبنائها إما على وجه التخييل والتصوير وإما على وجه الاستدلال . ثم ينتقل حازم إلى التسويم وهو العناية الشديدة بالبيت الأول من كل فصل وهو مأخوذ من السمة وهي العلامة ( ) . وأشار إلى أن الذي يحسن الاطراد في تسويم الفصول وتحسينها أبو الطيب وعرض لذلك القصيدة التي قالها في مدح كافور ():
أغالبُ فيك الشوقَ والشوقُ أغلبُ *** وأعجبُ من ذا الهجر والوصلُ أعجبُ
وهذا البيت رأس معنى وأنيط به التعجيب من الهجر الذي لا يعقبه وصل في الشطر الثاني والبيت الذي يلي هذا , وهو قوله : أما تغلط الأيام فيّ بأن أرى *** بغيضاً تُنائى أو حبيباً تُقرّب
وهذا البيت كما قال حازم يؤكد التعجيب وهو نهاية الفصل الأول , ورأس الفصل الثاني هو قوله :
ولله سيري ما أقل تئيّة *** عشية شرقىّ الحَدَالى وغرّبُ
يقول حازم ” فكان هذا الاستفتاح مناسباً للبيتين المتقدمين من جهة التعجب وذكر الرحيل وحال من ودعه عند الوداع ” () . والحدالى موضع بالشام والتئيّة المكث وهو يتعجب من قلة مكثه ويقول ما أسرع سيري وأقل تلبثي عشية كان هذان الموضعان على جانبي الشرقي والموضعان هما الحدالى والغرب .
ويفتتح حازم الفصل الثاني بالتعجب من وشك تئية وسرعة سيره .
وافتتاح الفصل الثالث هو قوله :
وكم لظلام الليل عند من يد *** تُخبّر أن المانوية تكذب
وهذا يعني أن الفصل الثاني كالأول مكون من بيتين بيت هو غرته وهو { لله سيري } والبيت الثاني قوله :
عشية أحفى الناس بي من جفوته *** وأهدى الطريقين الذي أتجنب
والفصل الثالث مكون من بيتين :
وكم لظلام الليل عند من يد *** تُخبّر أن المانوية تكذب
يعني حين يفضلون النور على الظلمة , والبيت الثاني قوله في بيان فضل الليل :
وقاك ردى الأعداء تسري عليهم *** وزارك فيه ذو الدلال المحجب
وافتتاح الفصل الرابع هو البيت السابع في القصيدة :
ويوم كليل العاشقين كمنته *** أراقب فيه الشمس أيّان تغرب
ونجده يقسم القصائد من حيث المقدار إلى مطولات ومقصرات ومتوسطات ثم يقسم كل واحدة منها إلى بسيط ومركب. والمراد بالبسيط ماله موضوع واحد كالغزل أو الرثاء أو المديح .
والمركب ما تكونت فيه القصيدة من غرضين كالنسيب والمديح , ويضع حازماً للنسيب منهجاً وطريقاً وللمديح منهجاً وطريقاً .
يقول : ” فأما المقصرات فإن القول فيها إذا كان منقسماً إلى غرضين لم يتسع المجال للشاعر لأن يستوفي أركان المقاصد التي بها يكمل التئام القصائد على أفضل هيئاتها , وربما استوفى ذلك الحذاق مع ضيق المجال عليهم باقتضاب الأوصاف الضرورية في الجهات بالنسبة إلى الغرض والتلطف في إبداع النقلة من بعضها إلى بعض على الوجوه الملائمة الموجزة , فأما المتوسطات والمطولات فالمجال فيها متسع لما يراد من ذلك “( ).
والقصائد منها بسيطة الأغراض مثل التي تكون مدحاً صرفاً أو رثاء صرفاً . والمركبة هي التي يشتمل الكلام فيها على غرضين مثل أن تكون مشتملة على نسيب ومديح . وهذا يعني المركبة أشد موافقة للنفوس الصحيحة الأذواق لما فيها من ولع النفوس بالافتتان في أنحاء الكلام وأنواع القصائد () .
ويرتب حازم المعاني الراجعة إلى النسيب فذكر أن الحديث يدور فيه حول المحبوب وأوصافه وأحواله كأيام اللهو ومرابع أنسه وحول المحب وصبواته وسهده وشجوه .
يقول :” وأحسن ما ابتدئ به من أحوال المحبين ما كان مؤلماً من جهة ملذاً من أخرى كحال التذكر والاشتياق فإن هذه الأحوال وإن كانت مؤلمة للنفوس فإن لكثير من النفوس في تخيل ما يتذكر ويشتاق إليه ويحن إلى عهده لذة مّا وتشفياً يكاد ينقع الغلة من حيث أذكاها ويُسر لنفس من حيث أشجاها وأبكاها , ثم يتدرج من ذلك إلى ذكر ما يؤلم من بعض الأحوال التي لها علقة بهما … ثم ينتقل منت ذلك غلى ما يخص المحبوب من الأوصاف والمحاكاة … وهو الذي يعتمده امرؤ القيس في كثير من قصائده “( ).
ويتحدث عن الإبداع في الاستهلال ويدعو إلى تحسين الاستهلالات والمطالع وأنها من أحسن شيء في هذه الصناعة لأنها الطليعة الدالة على ما بعدها المتنزلة من القصيدة منزلة الوجه والغرة تزيد النفس بحسنها ابتهاجاً ونشاطاً لتلقي ما بعدها ( ) . وينبه إلى أمر وهو أن يكون في المطلع ما يثير النفس ويوقظها ويبعث هواجعها من تعجب أو تمن أو استفهام , وأن يكون المطلع ما يشعر بأنه راس كلام ويرجع الإبداع إلى الألفاظ والمعاني و النظم و الأسلوب فهذه العناصر الأربعة التي يجب العناية بها في تحسين الشعر وفي المطلع خصوصاً () . قيل لبعض الحذاق بصناعة الشعر : “لقد طار اسمك واشتهر ” فقال : ” لأني أقللت الحز وطبقت المفصل وأصبت مقاتل الكلام وقرسطت نكت الأغراض بحسن الفواتح والخواتم “
الشعر – كما تعلمون – قفل أوله مفتاحه وينبغي للشاعر أن يجود ابتداء شعره فإنه أول ما يقرع السمع وبه يستدل على ما عنده من أول وهلة وليجتنب { ألا – و خليلي – وقد } فإنها علامات الضعف والتكلان إلا للقدماء الذين جروا على عرف () . روي أن ذا الرمة أنشد هشامًا قصيدته البائية فلما ابتدأ وقال :
ما بال عينك منها الماء ينسكب *** كأنه من كُلى مفرية سربُ
فقال هشام : بل عينك .
ويجب أن تكون المبادئ في القصيدة البسيطة جزلة حسنة المسموع والمفهوم دالة على غرض الكلام وجيزة تامة وكثيرا ما يستعملون فيها النداء والمخاطبة والاستفهام , ويكون صدر المديح حسن السبك عذب العبارات مستطاب المعاني ليناسب ما اتصل به النسيب ويجب أن تعتمد فيه مع ذلك الجزالة والمبالغة في الأوصاف وهو حسن التخلص . وكذا القصائد المركبة ( ) . ومن روائع الابتداءات () قول امرئ القيس :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *** بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد , وقوله :
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي *** وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وقول النابغة الذبياني :
كليني لهم يا أميمة ناصب *** وليل أقاسيه بطيء الكواكب
وقول القطامي التغلبي :
إنّا مُحيّوكَ فاسلم أيها الطلل *** وإن بُليْتَ وإن طالت بك الطّيلُ
أما الخاتمة فيجب أن يكون فيها عذوبة اللفظ وجزالة التأليف وتناسب الاختتام في كل غرض بما يناسبه من معان سارة أو مؤسية .
عاشراً: الاستغراب والتعجب , ويعنى بهما الشيء المجهول أو الشيء غير المعروف , والشيء المجهول يلتفت إليه بعكس المعروف , يقول : ” والتعجيب يكون باستبداع ما يثيره الشاعر من لطائف الكلام التي يقل التهدّي إلى مثلها , فورودها مستند مستطرف “. ويعد الإغراب والتعجيب من وسائل الشعرية التي ترتبط بالمبدع وتؤثر بقوة لارتباطهما بعنصر الخيال
الحادي عشر: النظم والوزن – التناسب بين الأغراض الشعرية : من مكونات التخييل الشعري عند حازم باعتبار أن الوزن والتناسب الصوتي بين أجزاء الكلام يلعب دوراً مهماً في جذب النفوس وإدخال السرور إليها . فالمتلقي عند سماعه أو قراءته للقول الشعري تتكون في مخيلته صورة نظمية معينة عن النمط الإيقاعي أو الموسيقي المستعمل في النص الشعري , فيترتب على ذلك أن التوافق الصوتي بين ما هو في النص وما قد تشكل في مخيلة المتلقي ذو أثر كبير في التأثير عليه وجذب انتباهه .
كما يرى أن هناك تناسباً بين الأغراض والأوزان يقول : ” ولما كانت أغراض الشعر شتى وكان منها ما يقصد به الجد والرصانة وما يقصد به الهزل والرشاقة , ومنها ما يقصد به البهاء والتفخيم وما يقصد به الصغار والتحقير وجب أن تحاكي بما يناسبها من الأوزان ويخيلها للنفوس “. وعليه فالأغراض لا تأتي عبثاً وإنما هي خاضعة للوزن الشعري .
الثاني عشر: الأسلوب :
يعرّف حازم الأسلوب بأنه هيئة تحصل عن التأليفات المعنوية بينما النظم هيئة تحصل عن التأليفات اللفظية فيمتاز بها شعر عن شعر وهذه الهيئة تحصل عن مجموعة من الكيفيات هي : كيفية الاستمرار وكيفية النقلة والاطراد وكيفية الوضع والترتيب وهي كيفيات تتعلق كلها بالمعاني().
ويستمد حازم مفهوم الأسلوب من مفهوم الكلام فيذهب إلى أن الكلام ثلاثة أنواع بحسب أنواع النفوس : فمنه ما يوافق أغراض النفوس الضعيفة , ومنه ما يوافق أغراض النفوس الخشنة ومنه ما يوافق أغراض النفوس المقبلة على ما يبسط أنسها ()
فإذا لاحظنا أن الضعف والخشونة والإقبال على الأنس سمات للطبع نرى أن الأسلوب مظهر لكون النص مرآة تعكس سمات الطبع . وعلى أساس من هذه الأساليب يتركب عشرة أنحاء من الأساليب وهي :
= أن يكون أسلوب الكلام مبنياً على الرقة المحضة , أو على الخشونة المحضة , أو على المتوسط بينهما أو على الرقة ويشوبه بعض ما هو راجع إلى الأسلوب الوسط , أو على الوسط ويشوبه بعض ما هو راجع إلى الرقة , أو بعض ما هو راجع إلى الخشونة , أو أن يكون مبنياً على الخشونة ويشوبه بعض ما يرجع إلى الأسلوب الوسط , أو على الرقة ويشوبه بعض الخشونة , أو على الخشونة ويشوبه بعض الرقة ,أو يكون مبنياً على الأسلوب المتوسط ويشوبه بعض ما هو راجع إلى الطرفين “( ).
وقد استقبح حازم الثلاثة الأخيرة ما لم يكن كل طرف من النقيضين المجتمعين فيها منصرفاً إلى غير ما انصرف إليه الآخر .
ويتبين لنا من خلال هذه الأساليب العشرة أن أسلوب الكلام المبني على الرقة المحضة هو شعر النسيب . وأن أسلوب الكلام المبني على الخشونة المحضة هو الشعر الحماسي والهجائي والملحمي . وأن أسلوب الكلام المبني على المتوسط بين الرقة المحضة والخشونة المحضة فقد يأتي منه شعر الهجاء المعتدل وأشعار السخرية والزهد والعتاب .
ويقول : “ولما كان الناس بحسب تصاريف أيامهم وتقلب أحوالهم كأنهم ثلاثة أصناف : فصنف عظمت لذاته وقلت آلامه حتى كأنه لا يشعر بها , وصنف عظمت آلامه وقلت لذاته حتى كأنه لا يشعر بها , وصنف تكافأت لذاتهم وآلامهم “( ). وكانت أحوال الصنف الأول مفرحة وأحوال الصنف الآخر مفجعة وأحوال الصنف الوسط شاجية ؛ لذا وجب أن تكون الأقوال الشعرية منقسمة في بساطتها وتركيبها إلى سبعة أقسام :
أقوال مفرحة وأقوال شاجية وأقوال مفجعة وأقوال مؤتلفة من سارة وشاجية وأقوال مؤتلفة من سارة ومفجعة وأقوال مؤتلفة من شاجية ومفجعة وأقوال مؤتلفة من سارة وشاجية ومفجعة ().
الثالث عشر: منازع الشعراء :
يقول حازم : ” المنازع هي الهيئات الحاصلة عن كيفيات مآخذ الشعراء في أغراضهم , وأنحاء اعتماداتهم فيها … والمعين على ذلك أن ينزع بالكلام إلى الجهة الملائمة لهوى النفس من حيث تسرها أو تعجبها أو تشجوها حيث يكون الغرض مبنياً على ذلك , نحو منزع ابن المعتز في خمرياته والبحتري في طيفياته فإن منزعهما فيما ذهبا إليه من الأغراض منزع عجيب “( ).
والمنزع أيضاً : ” كيفية مأخذ الشاعر في بنية نظمه وصيغة عباراته . ويمثل حازم لمنزع النظم هذا بمأخذ المتنبي في توطئة صدور الفصول للحكم التي يوقعها في نهاياتها , فإن ذلك منزع اختص به أو اختص بالإكثار منه والاعتناء به . وقد يعنى بالمنزع غير ذلك إلا أنه راجع إلى معنى ما تقدم فإنه أبداً لطف مأخذ في عبارات أو معان أو نظم أو أسلوب”( )
ويوضح ذلك حيث يقول : ” ولا يخلو لطف المأخذ في جميع ذلك من أن يكون من ستة أنحاء أو جهات هي : من جهة تبديل , أو تغيير , أو اقتران بين شيئين , أو نسبة بينهما , أو نقلة من أحدهما إلى الآخر , أو تلويح به غلى جهة أو إشارة به إليه “( ).
الرابع عشر: طريقة المفاضلة بين الشعراء :
خصص حازم المنهج الرابع من القسم الرابع من كتابه للحديث عن المنازع الشعرية وطرق المفاضلة بين الشعراء . وعدّ الدكتور إحسان عباس حازما أقرب النقاد العرب إلى الواقع في فهمه لمبدأ المفاضلة. فهو قد استطاع أن يحقق ما عجز عنه من سبقه من النقاد، وأن يضع ضوابط واقعية لهذه العملية.
إن المفاضلة عند القرطاجني أمر تقريبي لا قطعي، حيث إن الوصول في المفاضلة إلى درجة الجزم أمر غير ممكن ، فالترجيح في ذلك على سبيل التقريب. وسبب ذلك يكمن في الأمور التالية :
= أن الشعر يختلف باختلاف أنماطه وطرقه، فشاعر يحسن في النمط الذي يقصد فيه الجزالة والمتانة من الشعر، ولا يحسن طريقة الرقة واللطافة؛ وآخر يحسن في النسيب دون غيره من الأغراض .
= أن الشعر يختلف بحسب اختلاف الأزمان وما فيها من الأمور يولع الناس بالتعلق بها في أشعارهم، فهناك زمن تشيع فيه وصف القيان والخمر وما ناسب ذلك ويجيدون فيه، وزمان آخر يشيع فيه وصف الحروب أو الغارات، أو نيران القرى وإطعام الضيوف…
= أن الشعر يختلف بحسب الأمكنة وما يوجد فيها مما شأنه أن يوصف؛ فبعض الشعراء يحسن في وصف الوحش (البادية) بينما يحسن البعض الآخر وصف الروض أو الخمر (الحاضرة).
= أن الشعر يختلف بحسب اختلاف أحوال القائلين وأحوال ما يتعرّضون للقول فيه، فواحد يحسن الفخر، والآخر يحسن المدح…
= أن الشعر يختلف بحسب اختلاف الأشياء فيما يليق بها من الأوصاف والمعاني، كما يختلف بحسب ما يختص به كل أمة من اللغة المتعارفة عندها… ().
وإذا أخذت هذه الأمور بعين الاعتبار، ” فواجب أن يضاف الثناء على الشاعر إذا أحسن في وصف ما ليس معتاداً لديه ولا مألوفاً في مكانه ولا هو من طريقه ولا مما احتنك فيه ولا ممّا ألجأته إليه الضرورة، وكان مع ذلك متكلما باللغات التي يستعملها في كلامه.
وبالجملة إذا أخذ في مأخذ ليس ممّا ألِفَه ولا اعتاده فإن الشاعر إذا أخذ في مأخذ ليس ممّا ألفه ولا اعتاده فساوى في الإحسان فيه من قد ألفه واعتاده، كان قد أربى عليه في الفضل إرباء كثيرا، وإن كان شعرهما متساويا “( ) . بمعنى أنه إذا اجتمع الشاعران في غرض ووزن وقافية يحكم بالتفضيل للذي قال في الغرض الذي لم يألفه على الذي قال في الغرض الذي ألفه وإن تساويا في الجودة.
وردَّ حازم على الذين يفضلون المتقدمين على المتأخرين بمجرد تقدم زمانهم ويخرج أمثال هؤلاء من دائرة الصناعة النقدية جملة . وقال إننا نقيم المفاضلة بين الشعراء إذا كانت البواعث والهيئات عند بعضهم أكبر منها عند بعض آخر ( )
وقال صاحب المنهاج خاتما حديثه عن المفاضلة وواضعا المعيار النهائي لها : ” فأما المفاضلة بين جماهير شعراء توفّرت لهم الأسباب المهيّئة لقول الشعر والأسباب الباعثة على ذلك، وقد أومأت إليها في صدر الكتاب، وبين جماهير شعراء لم تتوفّر لهم الأسباب المهيئة ولا البواعث، فلا يجب أن نتوقّف فيها بل نحكم حكما جزما أن الّذين توفّرت لهم الأسباب المهيئة والباعثة أشعر من الذين لم تتوفّر لهم . وذلك كما نفضّل شعراء العراق على شعراء مصر . ولا نتوقّف في ذلك، إذ لا مناسبة بين الفريقين في الإحسان في ذلك، كما لا تناسب بينهم في توفّر الأسباب، وإن كان أكثر تلك الأسباب أيضا في الصقع العراقي قد تغيّر عمّا كان عليه في الزمان المتقدّم “( )
الخامس عشر : مذهب المطابقة والمقابلة والتقسيم والتفريع :
جاء القرطاجني ببعض القوانين الجزئية التي تساعد على الإتيان بالكلام على أمثل صورة, وبدأ كلامه في هذه المسائل بقوله : ” وأما المتخالفات والمتضادّات فالصيغ فيها تقسيمية وتفسيرية. وبعد هذا التقسيم دخل في شيء من التفصيل فتحدث عن الطباق وخالف قدامة في تسميته بالتكافؤ، وقسّم المطابقة إلى محضة وغير محضة ( كلمتان متضادتان) . هذا عن التضاد (). وأما المخالف فهو مقارنة الشيء بما يقرب من مضادّه كقول عمرو بن كلثوم :
بأنا نورد الرايات بيضا *** ونصدرهن حمرا قد روينا
ومن أبدع ما ضوعفت فيه المطابقة وجاءت العبارة الدالة عليها في أحسن ترتيب وأبدع تركيب قول المتنبي :
أزورهـم وسـواد اللـيل يشفع لي *** وأنثني وبياض الصبح يغري بي
فهذا البيت قد اشتمل على صفتي المطابقة : المحضة وغير المحضة (). ورأى أنه مما يجري مجرى المطابقة تخالف وضع الألفاظ لتخالفٍ في وضع المعاني مثل :
أنـت للــمال إذا أصـلـحـته *** فإذا أنفقته فالمال لك
وتناول المقابلة مُورِداً في ذلك أقوال قدامة وابن سنان الخفاجي واستشهاداتهم . وفرّق بين المقابلة الصحيحة والمقابلة الفاسدة () .ومما تعرض له من هذه المسائل الجزئية : التقسيم وضروبه ، والتفسير وأنواعه . وأوجب أن يتحرّى في التفسير مطابقة المفسِّر المفسَّر ( ) . والمثال على ما جاء فيه التفسير غير مطابق للمفسَّر قول بعضهم :
فيا أيها الـحَـيَـرَان في ظلم الدجى *** ومن خاف أن يلقاه بغيٌ من العدا
تعالَ إلـيه تلـق مـن نور وجـهه *** ضياءً ومن كفيه بحرا من الندى
قال: ” فمقابلة ما في عجز البيت الأول بما في عجز الثاني غير صحيحة. والتسامح في إيراد التفسير على مثل هذا مُخِلٌّ بوضع المعاني ومُذْهِب لطلاوة الكلام، فينبغي أن يُتحرّز منه وألا يتسامح في مثله”( )
ثمّ تحدث عن التفريع في آخر مأمّ من هذا المنهج، فعرّفه بأنه ” أن يصف الشاعر شيئا بوصف ما , ثم يلتفت إلى شيء آخر يوصف بصفة مماثلة، أو مشابهة، أو مخالفة لما وصف به الأول ، فيستدرج من أحدهما إلى الآخر، ويستطرد به إليه على جهة تشبيه أو مفاضلة أو التفات أو غير ذلك ممّا يناسب به بين بعض المعاني وبعض ، فيكون ذكر الثاني كالفرع عن ذكر الأول ” ومثّل على ذلك بقول الكميت :
أحلامـكم لسقام الجهـل شافـية *** كما دماؤكم يشفى بها الكَلَب
وطلب أن تكون النُّقلة بين المعنيين متناسبة، وأن يكون بينهما اتصال وحسن اقتران وإلا كان حشوًا، والتفريع يحسن في البيت الواحد وفي غير كثرة حتى لا ينقلب إلى عكس المقصود منه () .
السادس عشر : ما انفرد به حازم
سبق أن ذكرنا أن كتاب { منهاج البلغاء وسراج الأدباء } لم يكن مجرد إعادة لكتابات السابقين وتوجيها لكلامهم ؛ بل استطاع في مؤلفه أن يعيد بناء النقد الأدبي ويقيمه على أركان سليمة. وقد تفرد حازم بمسائل نقدية وبلاغية كثيرة , فمن ذلك أننا لاقينا أول ناقد يتحدث عمّا يسمى اليوم { التجربة الشعرية } المستمدة من الواقع ، وذلك حين يردّ الشعر إلى العوامل النفسية دون غيرها.
ومن ناحية الأسلوب، تفرد حازم بتناوله لقضايا كتابه بأسلوب حكمي فلسفي دقيق؛ ويستعمل كثيراً من المصطلحات الفلسفية ، وخاصة مصطلحات المناطقة.
ولا يتعرض حازم في ملاحظاته النقدية والبلاغية إلى أنظار المتكلمين الذين انشغلوا بمشكلة الإعجاز في القرآن الذين يظنون أنهم يقدرون على القول في هذا الفن . فهو يضعف مذاهبهم، كما سبق ذلك في موضعه ، ويصرف الدارسين عنها.
وفي مجال المصطلحات ، فقد أحدث حازم بعض المصطلحات الخاصة به؛ فمن ذلك التسويم والتحجيل، اللذان ذكرهما عند حديثه عن أقسام القصيدة، فالتسويم هو اعتماد الأغراض الأصلية في رؤوس الفصول، والتحجيل هو تذييل أواخر الفصول بالأبيات الحكمية والاستدلالية .
ولأنه نظر للشعر نظرة كلية ورسم للشعر صورة دقيقة جوهرها التخييل والمحاكاة وإطارها الوزن والقافية والتحسين .
وما يلفت النظر خاصة من هذه التجديدات، هو التسميات التي يطلقها حازم على فصول كتابه. قال الدكتور إحسان عباس محلّلا ومعلّلا هذه المصطلحات: ( المنهاج ) هو الطريق الواسعة ولذلك كان كل فصل بهذا العنوان (في الإبانة عن ماهيته) ، وعلى طول هذا الطريق ( معلم ) أي إشارة تدل على ( طرق العلم ) و( معرف ) أي إشارة تدل على( معرفة ) والفرق بين الاثنين أن العلم يومئ إلى القواعد التي تستند إلى شؤون الذهن والقواعد المتصلة بالتفريعات المنطقية ، وأن المعرف يدلّ في الغالب على التقديرات النفسية ، أما ( المأم ) فإنه يدل على مذهب يفضي إلى غاية أو مقصد.
وهذه المصطلحات الثلاثة متصلة من عنوان الكتاب بلفظة ( منهاج البلغاء ) غير أن الساري على الطريق بحاجة إلى ( سراج ) (القسم الثاني من العنوان) , وهذا السراج هو الذي يمنح الماشي على المنهاج ( إضاءة ) و ( تنويرا ) والفرق بينهما أن الإضاءة أقل سطوعا من التنوير، لكل فقرة تحمل عنوان إضاءة هي بسط لفكرة فرعية ، وكل تنوير فهو مزيد بسط لفكرة جزئية قد تجيء في الإضاءة نفسها.
السابع عشر : الفرق بينه وبين الاتجاه المشرقي
إن أول ما يميز عمل حازم القرطاجني عن غيره من العلماء أنه لم يبحث البلاغة على الطريقة المدرسية مثل ما فعل السكاكي ومن سبقه من البلاغيين . فهو، بخلاف المشارقة ، قد بنى نظريته النقدية على أسس منطقية حكمية ، وعلى ذوقه النابع عن نفس شاعرة.
ففي مسألة مصدر الشعر قد اختلف حازم اختلافا شديدا مع ناقد كبير آخر، هو عبد القاهر الجرجاني , فإن الجرجاني الناقد جعل الشعر مربوطا بالعقل ، من جهة المعاني حتى في حالة التخييل ، وبذلك قصر التخييل على الحيل العقلية في رفع درجة الشيء المخيل إلى درجة المعقول ؛ ومن ثمّ كان التذاذ الناشئ عن تذوق الشعر لديه أمرا عقليا . أما حازم فإنه استطاع لدقته أن يميز بين الحيل التمويهية والتخييل…
وكذلك نرى حازما يتخطّى الخلاف الشديد والعقيم في قضية الصدق والكذب، يمنح التخييل ومقداره في الكلام الأهمية القصوى في العمل الشعري؛ كما أنه تجاوز القضية الأخرى المعقدة حول اللفظ والمعنى، والتي شغلت كثيرا من النقاد المشرقيين.
ومن ناحية أخرى نرى حازما يتأثر بقدامة في مواطن عدة، واستطاع هذا الأخير أن يضلله في غير موطن، ولكن القرطاجني نجح في التخلص مما أوقعه في قدامة حيث أتى بالرأي الذي لا يتعارض مع رأي قدامة ولا مع الأسس النقدية التي يتبناها.
وبعد : ذلكم حازم وتلكم نظريته وآراؤه لو قدر لها السيادة لكانت حالة النقد غير ما آلت إليه بعد زمانه ولأنطلق الشعر من أساره وجال في رحاب بعيدة المدى وحلّق في عوالمَ تزخرُ بكل مبتكر بديع , وهذا كله يعني أن هذا الكتاب الثمين يحتاج إلى وقفة أوسع وقتا ومساحة , فإن البحث فيه لا يزال جديدًا بكرًا ويظل هذا المؤلف منتظرًا جهوداً أخرى للدراسة والتحليل …
– جامعة الملك خالد