المقالات

التسامح فطرة إنسانية (1ـ4)

عندما أنشأ الإسلام حضارته لم يضق ذرعًا بالأديان السابقة بل رأت الدنيا لأول مرة دينًا يتسع صدره للأديان الأخرى، ولا يتعصب ضدها (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) (سورة البقرة الآية 136)
التسامح في أبسط صوره يعني قبول الآخرين والتعايش معهم سواء كان هذا الاختلاف في الدين أو العرق أو الرؤية السياسية .. ويكتسب التسامح أهمية خاصة إذا كان على هؤلاء الذين يحملون قناعات دينية وأيديولوجية وسياسية مختلفة أن يعيشوا معًا في مجتمع تعددي .. فالتسامح الديني تنبع أهميته من كونه ذا بُعد وجودي أي أنه ضروري ضرورة الوجود نفسه .. لقد اقتضت إرادة الله أن يكون وجود الناس على الأرض في شكل تجمعات بشرية، وهي وإن اتفقت فيما يجمع بينها من وحدة الأصل والحاجة إلى التجمع والحرص على البقاء والتمكن من مقومات الحياة، والسعي في إقامة التمدن والعمران والتوق إلى الارتقاء والتقدم؛ فإنها قد تباينت فيما تتفرد به كل مجموعة من خصوصية عرقية ودينية وبيئية وثقافية .. وقد صرح القرآن بهذه الحقيقة الوجودية فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (سورة الحجرات الآية 13).. إن الإنسان مدني بطبعه فلا تتحقق حياته ولا يبني كيانه، ولا تكتمل ذاته ولا يكتسب ما تصبو إليه قدراته إلا داخل مجتمع يتشابك فيه الخير والشر والحب والبغض والتجانس والتنافر، ويعيش فيه الأنا والأنا الآخر .. وهذا التنوع بين الناس الذي يُمثل ظاهرة ضرورية اقتضتها الفطرة الإنسانية واستلزمتها النشأة الاجتماعية يقتضي التعايش لا التصارع والتعارف لا التناكر، والتعاون لا التطاحن والتكامل لا التعارض؛ فقد أشار القرآن إلى ضرورة هذا الاختلاف النمطي، وإلى حتمية وجوده حتى يتمكن كل فرد أو مجتمع من العيش حسب ما لديه من إرادة وحرية واختيار وبالطريقة التي يهواها ويرتضيها: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)) (سورة هود الآية 118) أي أن لهذا التنوع والاختلاف حكمة عُليا؛ فهو تنوع في الطبائع والأمزجة والمواهب والميول والمؤهلات والطموحات يمثل ثراء وخصوبة وتلاقحًا يحفز على قيام الحضارات وعمران الأرض.
إن التسامح الديني يقتضي الاحترام المتبادل ويقر الاختلاف ويقبل التنوع ويعترف بالتغاير، ويحترم ما يميز الأفراد من معطيات نفسية ووجدانية وعقلية ويقدر ما يختص به كل شعب من مكونات ثقافية، امتزج فيها قديم ماضيه بجديد حاضره ورؤية مستقبله، ويعتبر ذلك سبب وجوده وسر بقائه وعنوان هويته ومبعث اعتزازه .. وقيمة التسامح الديني تتمثل في كونه يقتضي المساواة في الحقوق والتسليم المطلق بعدم المساس بخصوصيات الآخرين الثقافية، ويستوجب الاحترام المتبادل ويستلزم التقدير المشترك، ويفرض التعامل في نطاق الدائرة الموضوعية دون المساس بدائرة الخصوصية من غير إثارة لحساسيتها، وانتهاك لحرمة ذاتيتها وهي دائرة تبادل المعارف والمنافع والمصالح والشراكة الفاعلة التي يعود مردودها بالخير على الجميع.

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. يقول الله سبحانه وتعالى ” فمن عفا وأصلح فأجره على الله “، هذآ ما وعد الله عز وجل ، المتسامحون من الأجر والثواب ، وقد أحسنتم واجدتم إيضاح اهمية التسامح ، سعادة البروفيسور عائض ، نفع الله بكم وبعلمكم ومساهماتكم ، لسعادتكم خالص التحية والتقدير والاحترام .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى