يتكرر في الثقافة العربية القول بأنه ما من مؤلف يفرغ من تأليف كتاب إلا وتطرأ على ذهنه الرغبة في العودة وإعاة التأليف لتدارك النقائص، وتجنب الهفوات واستكمال الجوانب.
ولو أن المؤلف أعاد تأليف كتابه؛ فإن اكتشاف النقائص سوف يُلازمه لأنه لا نهاية للتجويد ولأن الكمال محال.
إن الفرد يتعلم من كل ما يراه ويسمعه ويفعله؛ فهو في حالة تعلم دائم لذلك يشعر بالفوات بعد إنجاز أي عمل؛ فالنضج واكتساب الحكمة لا يأتي إلا متأخرًا.
وقد عبَّر الفيلسوف الأكبر “هيجل” عن هذه المعضلة حين أكَّد أن طائر الحكمة لا يطير إلا في الغسق أي عند المغيب الذي يعني الاقتراب من نهاية حياة الفرد، وهو يعني أن الفرد لا يكتسب الحكمة إلا بعد فوات الأوان.
أما “نيتشه” فيصور هذا المأزق البشري بأن كل فرد هو كمن لا يكتشف عيوب البيت الذي بناه إلا بعد الفراغ من تشييده، وفي هذا يقول نيتشه:
(حين ينجز المرء بناء البيت يكتشف أنه تعلَّم أثناء البناء أشياء كان عليه أن يعرف أنها ضرورية قبل البناء، وذاك هو فوات الأوان الأبدي، إنه ندم الفوات الذي يعقب كل إنجاز)، يقول ذلك كل مبدع وكل كاتب وكل مؤلف، وكل من أدار عملًا أو أنجز مهمة.
وهذا درسٌ مهم على كل فرد أن ينتبه له؛ ليدرك أن عليه أن يتعلم من كل خطوة من خطواته؛ فالعلم ما هو إلا تصحيح متواصل لأخطاء البشر؛ فكل اكتشاف علمي كبير هو تبديد لوهم أو تصحيح لخطأ.
إن هذه النتيجة التي لا تُكتشف إلا بعد فوات الأوان تستوجب من كل إنسان أن يتواضع وأن يتخلى عن الوثوق الأعمى، وأن يستحضر في ذهنه دائمًا أولوية الخطأ وأصالة النقائص واحتمالات الوهم، وأن يتدرب باستمرار على التفكير النقدي، وأن يقتنع أن احتمالات الخطأ قائمة مهما بذل من تمحيص.
0