منذ بداية العام الميلادي 2024 حتى نهاية يوليو الماضي (فقط)، باشرت هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة) عددًا من قضايا الفساد، وتم التحقيق مع عدد (2249) من المشتبه بهم، ومن ضمنهم موظفون من وزارات (الداخلية، الدفاع، الحرس الوطني، العدل، الصحة، التعليم،). هذا الرقم الكبير ليس محصورًا في قضايا الفساد المالي فقط (الرشوة – غسل الأموال – الابتزاز…) بل بعضهم متورط في قضايا فساد إداري أيضًا (استغلال النفوذ الوظيفي – المحسوبية – تعديل القرارات لتحقيق مصالح شخصية …). الفساد الإداري يعتبر أساس الفساد وأشده خطرًا؛ لأنه البيئة الحاضنة التي تنشأ وتترعرع فيها (كل) أنواع الفساد. القضاء على الفساد ليس بالأمر الهين، نحن نواجه (سرطانًا) انتشر بهدوء وتغلغل في جسد المجتمع، ولم ننتبه له إلا بعد أن بدأ ينهش في مفاصل الوطن من عدة نواحٍ (تنموية واقتصادية واجتماعية … إلخ)، لهذا فإن مكافحته لها أوجه عدة ومراحل مختلفة، ولا يمكن القضاء على الفساد بين ليلة وضحاها.
لست بصدد الحديث عن أسباب الفساد وآثاره على الوطن أو كيفية مكافحته، بل أريد تسليط (بعض) الضوء على مرحلة مهمة تعتبر الأساس في القضاء على الفساد (بكافة أنواعه) ألا وهي الشفافية. هناك علاقة (تناسب عكسي) بين الشفافية والفساد، كلما زادت الشفافية وتم تعزيزها كلما انخفض الفساد بأنواعه، ألا يقال بأن الوقاية خير من العلاج؟ عندما تغيب المعلومة الصحيحة (من مصدرها) ينشط هواة صناعة الأخبار! لذا يجب ألا نترك المجال مفتوحًا للباحثين عن (السبق الإعلامي) على حساب المصداقية! هناك صحف وبرامج وحسابات في التواصل الاجتماعي (تقتات) على الموضوعات (الرمادية) التي غابت عنها المعلومة، وتزرع تلك الوسائل بتساؤلاتها (المريبة) الفتنة، وتنشر الشائعات بسبب غياب المعلومة من المصادر الرسمية وصمت مسؤوليها!
سأتناول في مقالي هذا الشفافية من حيث كونها أداة ردع ودرعًا، ومن حيث المساءلة ومن حيث التنفيذ وأثر ذلك في مكافحة الفساد وكشف مواطن القصور.
يمكن أن تكون الشفافية وسيلة (ردع) يمنع تكرار الأخطاء، ويطور الأداء ويعالج السلبيات (إن وجدت)، ومن الأمثلة على هذا ما فعلته إدارة الشركة السعودية للكهرباء حيث أجرت (بعد انقطاع الخدمة الكهربائية في محافظة شرورة) تحقيقًا عاجلًا في (أسباب الانقطاع والتأخر في إعادة الخدمة الكهربائية)، وكانت شفافية الشركة (درعًا) عن الوطن، ولم تترك للأعداء المتربصين فرصة لبث الشائعات التي (قد) تؤثر على (الأمن الداخلي)، ولم تتأخر في الكشف عن نتائج التحقيق وتحديد الأسباب وأوجه التقصير والإهمال التي أدت إلى الانقطاع الشامل، والإجراءات الفورية لمعالجة تلك الأخطاء والتغييرات اللازمة لعدم تكرار ذلك.
أما من حيث التنفيذ، فتعتبر الشفافية عاملًا رئيسيًا في نجاح تنفيذ المشروعات. عندما يتم الإعلان عن (تاريخ بداية ونهاية مشروع ما) فنحن بهذا الإعلان نضع اللبنة الأولى الأساسية في (إدارة المشروعات) و(نمنع انحراف) تلك المشاريع عن أهدافها الأساسية! التأخر في التنفيذ أو التشغيل (حسب الخطة المعتمدة) سوف يدفع المسؤولون عن المشروع (في بعض الأحيان) للجوء إلى محاولات (غير مدروسة) لتعويض الوقت، (وربما) يضطرهم لاستخدام مواد أقل كفاءة، مما ينتج عنه بنية تحتية رديئة الجودة لا تلبث أن تنكشف مع أول تغيير مناخي (سيول – أمطار شديدة…) أو زيادة ساعات الاستخدام وضغط الاستهلاك، ومن أمثلة غياب الشفافية وأثره على التنفيذ ما نعانيه الآن في مشروع (قطار الرياض)! حيث لا يعلم (99.9)% من سكان الرياض (أكثر من 7 ملايين نسمة) متى سيتم انطلاقه فعليًا! (الرياض 2024 وما بعدها) تختلف تمامًا عن (الرياض 2015 وما قبلها)، أحياء وضواحٍ جديدة تم إنشاؤها، الرياض التي كانت حركتها تتوقف مع (العاشرة مساءً) تغير نمط الحياة والمعيشة فيها، تم إنشاء أماكن ترفيهية وسياحية، الرياض سوف تستضيف فعاليات عالمية قادمة (معرض الدفاع العالمي – مؤتمر الطاقة العالمي – فعاليات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني وعلم البيانات – كأس آسيا – اكسبوا – كأس العالم…..). كل هذا النمو لم يخطر على بال من صمموا (مشروع القطار) قبل عدة أعوام حيث لم يضعوا في حسبانهم إنشاء (محطات قطار) تغطي هذا العدد الجديد من المناطق الجديدة ! هذا الحراك التنموي المتسارع انعكس سلبيًا على انسيابية الحركة المرورية! وسوف يحول دون تحقيق (بعض) مبادرات (جودة الحياة) ومفاهيمها التي تتبناها رؤية 2030، ويجعلنا نتساءل: متى سوف ينطلق قطار الرياض حتى يخفف (نوعًا ما) من اختناق المدينة؟ ما الذي يمنع الجهة المسؤولة عن (قطار الرياض) من عقد المؤتمرات الصحفية (بشكل دوري) لتوضيح ما يجري (تحت الأرض) لمن يعانون الاختناق المروري (فوق الأرض)؟
أما من حيث المساءلة، فإن الشفافية لها دور هام في تحسين مخرجات وجودة أداء الكيانات (وزارة – هيئة …) لأنها تجعل الجميع (حذرًا من المساءلة). تعمل الشفافية على (ضبط سلوك المسؤولين) وتضمن ممارسة المسؤول للسلطة بشكل قانوني، وتوفر محاسبة المسؤول عن القرار (إن) خرج عن المسار. عندما تنعدم الشفافية، يصبح جماعة (مصادري الخاصة) و(فلان يجيب العلم) هم نجوم المشهد! ومن خلالهم تنتشر الشائعات! هذه الضبابية نعيشها بحذافيرها في أحد المشاريع الكبرى في السعودية ألا وهو (المشروع الرياضي) الذي لم يعد شأنًا داخليًا فقط،، بل صار حديث العالم (رياضيًا)، ولم يعد النقاش حول شؤون الدوري السعودي (استقطاب نجم عالمي، انتقال لاعب أو إعارته، تعاقد مع مدرب أو إلغاء عقده …) مقتصرًا على الجمهور الداخلي فقط،، بل صار حديث الجمهور الرياضي في الخليج والعالم العربي وينقل أخباره أحد أكبر مشاهير الإعلام الرياضي (فابريزو رومانو – 22 مليون متابع )! من خلال الشفافية يمكن مساءلة إدارة (فريق ما) على التقصير، لكن كيف نحكم على نجاح العمل الإداري من فشله وليس هناك (بيانات وأرقام) يمكن اعتمادها مرجعًا للنجاح والفشل وتكون أساسًا لمؤشر الأداء KPI ؟ نعم هناك العديد من الحوارات عن المشروع الرياضي مع بعض المسؤولين، لكن تلك اللقاءات الإعلامية (حضر) فيها الأسلوب الإنشائي المنمق و (غابت) عنها الأرقام والبيانات! إخفاء الأرقام والمبالغ عن (عامة الناس) كان أمرًا مقبولًا (سابقًا)؛ لأن تمويل الأندية كان من خلال مجموعة من الداعمين وبأموالهم الخاصة، أما وقد صارت (أربعة أندية) تابعة (لصندوق الاستثمارات العامة)، فيجب أن يسري عليها ما يسري على (كافة قطاعات الدولة) حيث يعرف (القاصي والداني) إجمالي الإيرادات والمصروفات (لكل قطاع: الدفاع – الصحة – التعليم… إلخ)، ثم تفند أبواب (بنود) الصرف وما تم اعتماده للصرف وأوجه ذلك الصرف في كل باب (بند).
خاتمة
“لن ينجو أحد من الفساد” حينما أعلنها ولي العهد -حفظه الله- ظن الكثيرون أنه مجرد شعار للاستهلاك الإعلامي! وخلال فترة زمنية قصيرة وبدعم (لا محدود) من خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين– حفظهما الله – تمكنت (نزاهة) من مباشرة اختصاصاتها، وتأدية مهامها بمكافحة الفساد بكافة أشكاله ومستوياته، فكان الحصاد أن حققت السعودية (المركز 51 عالميًا) من أصل 180 دولة على مؤشر مدركات الفساد CPI، وتقدمت في مركزها بين مجموعة (دول العشرين الاقتصادية – G20) لتحقق المركز (10)، ولا زال للنجاح بقية بإذن الله.