حكاية
لم يكن ضوء الصباح قد بدأ يتسرب من خصاص النافذة المفتوحة، ولم يساعده ضوء المصباح الخافت على معرفة الوقت من المنبه الموضوع على حافة الكوميدينو ..ولم تتناهَ إليه أصوات عمال النظافة بسياراتهم الضخمة، وهم يقتحمون الشارع قبل أذان الفجر….عرف أنه استيقظ مبكرًا..عقد يديه خلف رأسه وأخذ يحدق في سقف الغرفة وقد زم شفتيه محاولًا العودة إلى النوم، ولما تنبه إلى الراديو الصغير بجواره نظر إليه لحظة ثم فتحه..جاءه صوت المذيع حزينًا وهو يلقي ملخصًا لآخر الأخبار.. أغلق الراديو ..رن جرس المنبه فجأة فانزعج قليلًا وغادر فراشه……غمره ضوء الصباح المبهر الآتي من نافذة الصالة..المفتوحة للشمس التي تنفذ أشعتها إلى مسام جسده وتشيع الدفء إلى داخله.. غادر الشقة متجهًا إلى المقهى الذي اعتاد الذهاب إليه كل يوم بعد أن أحيل إلى التقاعد..فجأة توقف المصعد عن العمل ..قال لنفسه..لا بد من معاتبة الحارس ..ألم يكفه أن حول مدخل العمارة إلى منتدى له ولزملائه من حراس العمائر المجاورة .. حينما هبط بالدرج كان الحارس يقف عند المدخل وهو يواجهه بنظرات لزجة وقبل أن يفتح فمه..قال له الحارس؛ وكأنه يقرأ أفكاره … : {مدير أنت لازم يدفع مائة وخمسين ريال ..حق مويه بياره.. وتنظيف سيارة}. فكر أن يواجهه بمشكلة المصعد.. ولكن الحارس أردف قائلًا..: ومائة وخمسون ريالًا {حق أسانسير.. الشركة يقول لازم يدفع ألف ريال حق الصيانة..}..و.. و.. دفع المبلغ الذي طلبه منه..الحارس .. اجتاز بوابة العمارة..ومضى….ساعة يقضيها في مقهى [الشمس] المطل على الساحل الممتد .. منهمكًا في القراءة حتى ينسى نفسه، ويذوب في الحروف والكلمات..ثم يخلع نظارته الطبية ليستريح ..يلوذ بصمت الذكريات التي لا تنتهي ويتأمل الناس من حوله .. ويستمع إلى لغو أحاديثهم يأخذ نفسًا عميقًا ويرشف من كوب القهوة المرة التي يحبها.. وينصت إلى وشوشات أمواج البحر وخفقاتها الهامسة، وهي تتوالد بين مد وجزر..يغمض عينيه ويسرح بعيدًا….
على امتداد الكورنيش يقف عشرات من هواة [الصيد] وقد ألقوا سناراتهم في عرض البحر وكأنها قوارب صغيرة انغرست في المياه الضحلة ثم لا يمضي وقت طويل حتى تشرق وجوههم في سعادة حين تهتز سناراتهم معلنة نجاحها في صيد سمكة ضلت طريقها إلى الساحل.. بينما طيور النورس المهاجرة من الشمال تملأ الفضاء الرحب بصخبها، وهي تمشي على الرمال البيضاء؛ تاركة آثار أقدامها الناعمة كنقش الحناء على الكفوف..نقوش متكررة بانتظام هنا وهناك..أو تقف بثبات على أطراف الشاطئ لا يزحزها فوران زبد البحر من تحت أقدامها النحيلة، وهي تقتنص نصيبها من الأسماك .
من بعيد يقبل عليه ذلك الرجل العجوز الذي يراه دائمًا يرتاد المكان مثله ..إنه يماثله في العمر أو ربما يزيد..لطالما أعجب بقوامه الممشوق ولباسه الرياضي الذي يبرز ما تبقى من آثار عضلاته المفتولة وصدره المنفوش..توقف الرجل أمامه للحظات وقال له في استغراب: كلما مررت بجوارك أراك منهمكًا في القراءة.. أريد أن أعرف ماذا تقرأ ..خلع نظارته وأجابه مبتسمًا أسلي نفسي بعد التقاعد.. يبدو أنه اعتبر إجابته دعوة له بالجلوس.. فجلس على المقعد المقابل، وقال للتسلية وجوه كثيرة فلماذا القراءة..قال له في تسليم: أنا لا أجيد هواية سواها.. وليس لدي معرفة بلعبة البلوت أو الطاولة.. أو غيرها …ولم أمارس في حياتي أي لعبة رياضية.. يبدو أن الإجابة لم تعجب الرجل .. وكما جلس قام وانصرف نهض هو أيضًا من مقعده ..أمسك بالكتاب الذي كان يقرأه ومسح نظارته الطبية قبل أن يضعها على عينيه ….حاول أن يتفادى بلاطة منزوعة من الرصيف قبل أن يخطو خارجه … من بعيد يأتيه صوت الأستاذ محمد عبد الوهاب..خارجًا من نافذة إحدى السيارات الواقفة، وهو يشدو بأغنية الجندول الرائعة ..وراح يترنم معه :
“أين من عيني هاتيك المجالي
يا عروس البحر يا حلم الخيال
أين عشاقك سمار الليالي
أين من واديك يا مهد الجمال
موكب الغيد وعيد الكرنفال “
…الساعة تجاوزت العاشرة مساءً..مد جسده على السرير يحاول أن ينام.. يتنادى إليه صوت تلفزيون الجيران وصراخهم ..وصراخ المعلق، وهو يصف مباراة كرة القدم بين فريقي الوحدة والاتحاد.. وهتافات مشجعي الفريقين التي تتعالى مع كل هجمة خطرة يقوم بها أحد لاعبي الهجوم ضد الفريق الآخر … في الصباح علم أن فريق الوحدة فاز بالنتيجة….