المقالات

صحافة المواطن… تحوّل الإعلام من النخبوي إلى التشاركي

عند تسليط الضوء على صحافة المواطن، نجد أن ذلك يعكس النقلة النوعية التي حققتها صحافة المواطن في عالم الإعلام، عندما كسر الاحتكار الرسمي للإعلام، وانتقال الدور الإعلامي من النخب والمؤسسات التقليدية إلى الأفراد والجماهير؛ مما جعلنا نعيش في بيئة إعلامية أكثر تنوعًا وتشاركية.
وقبل استعراض وضع صحافة المواطن، ننتطرق إلى لمحة تاريخية للإعلام وجذوره من العصور القديمة إلى العصر الحديث، حيث استخدم الناس وسائل مختلفة لنقل الأخبار والمعلومات، وتحوّل الإعلام من مجال أجير إلى مجال شريك للإعلام الرسمي، وتطوره وتحوله إلى جزء أساسي من الحياة اليومية العامة والخاصة إلى الحياة السياسية والاجتماعية. فنجد أن الإعلام قد مُورس قديمًا على شكل الرموز والنقوش الحجرية لتوثيق الأحداث ونقل المعلومات عبر الرسائل والحمام الزاجل، وفي العصور الوسطى نجد الإعلام كان بشكل المخطوطات ومن ينسخها يدويًا، ثم المنادون لنقل الأخبار بشكل شفهي في الأسواق، ثم اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر، وظهور أولى الصحف في أوروبا في ستراسبورغ عام 1605.
وفي القرن التاسع عشر ظهرت الصحافة الحديثة على شكل صحف ومجلات يومية وأسبوعية، عملت على تشكيل الرأي العام بالنقد السياسي والاجتماعي، ثم اختراع التليغراف في القرن التاسع عشر بثورة لنقل الأخبار. وفي القرن العشرين ظهر الراديو والتليفزيون في النصف الأول منه وتحوّل الإعلام إلى الجماهيرية بقاعدة شعبية. ثم انتقالنا إلى الثورة الرقمية لأواخر القرن العشرين بظهور الإنترنت والبريد الإلكتروني، فتغيرت الكيفية التي يتم من خلالها نقل المعلومات والتفاعل معها.
وفي بداية القرن الحادي والعشرين وتطور الإنترنت وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، برز الإعلام التفاعلي وتحوله من اتصال أحادي الاتجاه ومحتكر رسمي إلى مشاركة الجمهور في صناعة المحتوى ونقله للآخرين. ووصلنا بعد ذلك إلى صحافة المواطن؛ مما أدى إلى وجود الإعلام الشعبي كشكل من أشكال الاتصال الموازية للإعلام الرسمي والخاص، ومكنت صحافة المواطن الأفراد من نشر الأخبار والمعلومات بشكل مستقل عبر الإنترنت. وتحول الإعلام من شكل بسيط إلى شبكة معقدة وشاملة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة، وتحولت عملية تشكيل الرأي العام من النقوش القديمة إلى الإعلام التقليدي، والرقمي وشبكات وسائل التواصل الاجتماعي.
وتوسع نطاق صحافة المواطن ليشمل قيام الأفراد العاديين بتقديم الأخبار والمعلومات عبر شبكات وسائل الإعلام وشبكات وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، مثل: المدونات، مواقع التواصل الاجتماعي، ونشرات الفيديو، وانتشر الجدل حول جدوى صحافة المواطن فكان من إيجابياتها وجود التنوع والشمولية في وجهات النظر حول قضايا لا تغطيها وسائل الإعلام التقليدية، السرعة في نشر الأخبار، زيادة المشاركة المجتمعية للأفراد ليكونوا جزءًا من العملية الإعلامية، مكافحة الرقابة. فكسرالاحتكار الرسمي، وضعفت الرقابة الحكومية على صحافة المواطن؛ مما أدى أيضًا إلى رفع سقف الحرية في الإعلام الرسمي؛ حيث اطلع الناس على آراء غير خاضعة للرقابة.
ومع ذلك كانت هناك بعض التحديات، كالمصداقية والدقة لعدم وجود الاحترافية ومتطلباتها، الانتشار السريع للمعلومات المضللة واحتمالية عدم التحقق من صحة المعلومات إلى انتشار الشائعات والمعلومات الخاطئة بسرعة، والتأثير على الإعلام التقليدي مما أدى إلى تراجع ثقة الجمهور في وسائل الإعلام التقليدية لتضارب المعلومات أحيانًا. ولذا أن جدوى صحافة المواطن تكمن في قدرتها على توسيع نطاق التغطية والمشاركة العامة، وضرورة التأكد من صحة المعلومات، لاعتبارها مكملًا للإعلام التقليدي وليس بديلًا عنه. وفرض وجود صحافة المواطن وانعكاسها على التغييرات الاجتماعية والتكنولوجية والسياسية في العالم الحديث، بالتمكين المجتمعي وتعزيز قوة الأفراد العاديين في التأثير على الخطاب العام وتحول الإعلام من المركزية التقليدية إلى الإعلام الديمقراطي بمشاركة جماعية. ضعف السلطة التقليدية وتحول رسائل الإعلام من اتجاه واحد إلى اتجاهات متعددة، التغيُّر في مفهوم الصحافة بكسر احتكار المشاركة الصحفية من المحترفين ومشاركة الهواة لهم بمشاركة الشعوب لمن لديه جهاز اتصال بالإنترنت لممارسة العمل الصحفي فاتسع حجم المشاركة الجماهيرية. وتحول الوسيلة تكونولوجيًا وما أحدثته صحافة المواطن من تأثير اجتماعي عبر الهواتف الذكية، وسائل التواصل الاجتماعي، والمنصات الرقمية لمشاركة شعبية واسعة لنشر المعلومات والأخبار. ثم الأخذ في الاعتبار مخاطر المعلومات المضللة، مما أوجد الحاجة المتزايدة للوعي النقدي لدى الجمهور، لكثرة المصادر غير الموثوقة، وضرورة تعزيز مهارات التحقق والتفكير النقدي لدى الجمهور، ودفع صحافة المواطن إلى التحول نحو مجتمعات أكثر انفتاحًا وديمقراطية، مما يُشكل خطرًا على المصداقية والمسؤولية الإعلامية.

ومع خطورة الأمر من هذا الانفتاح، فقد وفرت صحافة المواطن التغطية الواسعة للأحداث، وزيادة الشفافية وتعزيز المساءلة حول القضايا التي يتم التعتيم عليها رسميًا. وخرج التنوع الكبير في وجهات النظر المختلفة التي قد لا نجدها في الإعلام التقليدي؛ حيث حدث التفاعل المباشر للجمهور مع الأحداث والمعلومات، والمشاركة المجتمعية، والاستجابة السريعة من الجماهير لصحافة المواطن بما تنشره من معلومات عن الطوارئ أثناء الكوارث وسرعة المشاركة المجتمعية للإغاثة وتوفر الدعم المجتمعي لها مما يسهم في حل مشكلات اجتماعية، وتقليل التحيز الإعلامي لتنوع مصادر الأخبار.
وتقع صحافة المواطن في منطقة وسطى بين الصحافة الرسمية والخاصة فرغم مواجهتها لتحديات المصداقية والتأثير، فهي أكثر استقلالية ومرونة، ويمكن اعتبارها مكملة للصحافة التقليدية؛ حيث توفر منبرًا وتنقل صوتًا للأفراد والمجتمعات، وتملأ الفراغات التي تتركها وسائل الإعلام الأخرى. ويعتمد مستقبل صحافة المواطن على قدرتها على التكيُّف مع متغيرات التكنولوجيا، وتحسين مصداقيتها، واستغلالها للفرص المتاحة، ورغم التحديات الكثيرة التي تواجهها، فإنها تمتلك قدرة مؤثرة في المشهد الإعلامي العالمي؛ خاصة في ظل تزايد الطلب على الأخبار المستقلة والمتنوعة.
كما أن صحافة المواطن يمكن لها أن تعمل في السلم والحرب، حيث تمثل أداة قوية كبيرة لممارستها في السلم بمساهمتها في بناء مجتمعات ديمقراطية واعية، وفي الحرب أيضًا كوسيلة فاعلة في كشف الحقائق، وأداة للصراع إذا لم تستخدم بحكمة. هذا بالإضافة إلى قدرتها على لعب دور حيوي في خدمة القضايا الوطنية بتعزيز الوعي، مراقبة السلطة، ودعم العدالة الاجتماعية. ويمكنها أن تكون قوة إيجابية لدفع التغيير وتحقيق التقدم في المجتمع، إذا مارست عملها بمسؤولية ودقة لضمان مصداقيتها بما تقدمه من أخبار وتقارير ومعلومات.
وبإمكانها تقديم دعمها المهم للصحافة والإعلام الرسمي، بمساهمتها في تعزيز التغطية المحلية للأخبار، وتوفير محتوى فاعل من مصادر متعددة، وتعزيز التفاعل مع الجمهور، وتقديم وجهات نظر متنوعة. وقد ترتقي بدورها عندما يتم دمج محتوى صحافة المواطن بشكل متوازن في وسائل الإعلام الرسمية، مما يعزز من مصداقية تغطياتها الإخبارية، وزيادة التفاعل والثقة بين وسائل الإعلام والجمهور.
ورغم دور صحافة المواطن الكبير لخدمة المجتمعات، إلا أن هناك من يراها أنها غير مستوفية للمعايير التقليدية للصحافة، مع أنها تقدم قيمة مضافة للعمل الصحفي، من خلال تقديم وجهات نظر متنوعة، وتوسيع نظاق التغطية الإخبارية، وكشف القضايا التي قد تكون مهملة من الإعلام الرسمي، كما يكمن دمج صحافة المواطن مع الصحافة التقليدية كوسيلة لتعزيزالشفافية والشمولية في التغطية الإعلامية. إلى جانب ذلك تغطياتها الواسعة، وتنوع موضوعاتها، والاستجابة السريعة للأحداث بشفافية، لكونها جزءًا من مشهد إعلامي متنوع، حيث تتعاون مع الصحافة التقليدية لتحقيق تغطية أكثر شمولًا وموثوقية، ومن أهم الخدمات التي تقدمها صحافة المواطن أنها تقدم تجربة تعليمية للممارسة الصحفية لطلاب كليات وأقسام الصحافة والإعلام، بالإضافة إلى استيعاب أعداد من الخريجين لاكتساب الخبرة عبر المهارات العملية لبناء محفظة مهنية، والتعرف على أحدث الاتجاهات والتقنيات في مجال الإعلام، وبناء شبكة علاقات، مما يمكنهم أن ينتقلوا إلى وظائف في وسائل تقليدية؛ مستفيدين من تجربتهم السابقة ولتطوير أنفسهم ومهنتهم في بيئات إعلامية أكبر وأوسع. ومن هنا يمكن أن تمثل صحافة المواطن نقطة انطلاق قوية نحو مهنة الصحافة والإعلام المحترف بمعايير مهنية وتطوير مستمر لمهاراتهم وخبراتهم.

• عضو هيئة تدريس سابق بقسم الإعلام – جامعة أم القرى
مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

د. فيصل أحمد الشميري

عضو هيئة التدريس بقسم الإعلام بجامعة أم القرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى