ما أنْ يولد أي شخص حتى يبدأ عقله في التشكل بما تنقله حواسه إلى دماغه؛ فهو لا يولد بعقل جاهز، وإنما يولد بقابليات إيجابية فاعلة كفاعلية الجهاز الهضمي لهضم الطعام، إنها قابليات مفتوحة للتشكل بأي نسق ثقافي ينشأ المولود في أحضانه؛ فيكتسب اللغة واللهجة ونمطًا عقليًا يخص بيئته، يختلف عن العقول المتشكلة بأنساق ثقافية مغايرة، ومن هنا أتت مقولة العقل العربي والعقل الأمريكي إلى غير ذلك من أنماط العقل التي هي نتاج أنساق ثقافية متوارثة. فخلال السنوات الأولى بعد ولادة الفرد تتكوَّن له بنية ذهنية قاعدية، ومنها ينبثق وعيه فتكون هذه البنية الذهنية القاعدية هي أداته للتعلم. إن البنية الذهنية القاعدية هي المُنتِجة لوعي الفرد لذلك فهي أقدم منه فلا سلطة للوعي على البنية الذهنية القاعدية، ومن هنا تأتي صلابة وعناد وتحجر البنية الذهنية القاعدية. ثم مع التعلم خلال مراحل عمر الفرد، ومنذ بزوغ وعيه تبدأ أنماطه الذهنية بالتشكل وتكون هذه الأنماط الذهنية التي نتجت عن التعلم منفصلةً عن البنية الذهنية القاعدية؛ فهي قابلة للنمو وللتغيُّر وللنسيان وللتعديل لكن دون تأثير على البنية الذهنية القاعدية التي تكون منفصلة عن فاعلية الوعي إنها تؤثر ولا تتأثر. إن البنية الذهنية القاعدية تبقى مهيمنة على اتجاه الفرد؛ فإذا جوبه الفرد بما يتعارض مع بنيته الذهنية القاعدية؛ فإنه يناضل بحرارة من أجل الإبقاء على قناعاته الموروثة، ويبقى وعيه في صراع حاد مع مقتضيات بنيته الذهنية القاعدية، وفي الغالب يكون الانتصار للبنية الذهنية القاعدية؛ لأن العقل دليل ذاته فيبقى الفرد يُكافح لإقناع ذاته بما تقتضيه البنية الذهنية القاعدية، ويحاول تجاهل ونسيان كل ما يتعارض مع هذه القناعة. أمَّا إذا استمر الصراع بين وعي الفرد وبنيته الذهنية القاعدية؛ فإن هذه البنية قد تنكسر فيخرج الفرد من تلقائية الانتظام في السائد إلى الانطلاق في كل الآفاق.
يستمطر الفكر والمعرفة من كل السُّحُب ويرتوي من كل الروافد، ويتذوق كل المذاقات؛ وبهذا يكتسب الشخص فردية حقيقية فيصير نتاج ذاته وليس نتاج التبرمج التلقائي…
0