” قصة قصيرة “
يداعب بقدميه كل شيء في طريقه فيعجب كل من يشاهده للمرة الأولى وقد تحولت كل الأشياء التي تعترضه لكرة قدم ولكن بمهارة أساطير الكرة ” مارادونا ” و” بيليه ” وعشقه لنجم النادي الأهلي السعودي الشهير الراحل ” أمين دابو ” لدرجة التشابه الكبير في الشكل والحركة والمهارة وفي كل شيء ..
منذ كنّا صغاراً وهو يلبس فنيلة الأهلي وتحمل الرقم ” 11 ” كان يجري في كل مكان وهو يردَد : ” ثعلب الكرة أبو الكعوب الفنان دابو ” ..
لم نبحث عن حقيقته وإن كانت غامضة ؛ لأننا نتحاشى سؤاله رغم الكثير من الروايات التي تقول :
إنَه هرب من دار الأيتام , وأخرى تقول :
إن أمّه حين ولدت به فارقت الحياة , وثالثة تقول :
إن أمَه من الرضاعة جاءت به صغيراً ومرضت وأوصت به جارتها حليمة قبل وفاتها .
دابو الذي كان له جهاز ” مُسَجِّل ” أحمر يستمع لأشرطة الكاسيت لعمالقة الفن العربي من أم كلثوم – عبد الحليم حافظ – أبو بكر سالم بالفقيه – فيروز – صباح – ميادة – وديع الصافي و طلال مدّاح …
حين يمتنع مُسَجِّله عن الغناء يصفعه عدّة صفعات فيعود للغناء ثانية ، ويوقد على بطارية مُسَجِّله النار حتى تحمى ثم يبدأ في تركيبها ثانيةً ؛ فيخبره عن أحداث العالم والكرة والأهلي ..
كان دابو مثقّفاً نخبويّاً ودرويشاً بسيطاً , وساخراً مليئاً بالحيوية والنكتة والابتسامة الدائمة ، وعند الغروب يحتاج مذياعه للكثير من أسلاك الملابس الحديدية والتنقّل من مكان لآخر ؛ حتى يلتقط ذبذبات برنامج المساء , وكان معه طائر ببغاء أخضر صغير يعلّمه ويدرّبه على كلماته المعتادة بأصوات المعلقين العرب :
الكويتي ” خالد الحربان ” ، والسعودي ” زاهد قدسي ” ، والعراقي ” مؤيد البدري ” والتي يجيدها بإتقان :
” ثعلب الكرة أبو الكعوب الفنان دابو ! “
حتى باتت لزمة يُعرف بها هو وطائره الببغاء الأخضر .
كان له قط أسمر اللون يسميه باسم المدرب البرازيلي الداهية ” تيلي سانتانا “وهو المدرب البرازيلي والذي حقق الأهلي معه الثلاثية الشهيرة !! يتقمصُ دور القبطان ” سيلفر ” ذا القدم الخشبية والببغاء ، ويجيد تقليده وضحكته الشهيرة الساخرة لدرجة تشعر بأنك في رواية جزيرة الكنز ويردّد :
” خمسة عشر رجلاً ماتوا من أجل صندوق ” .
الناس ينادونه دابو ، ينادونه بعبارته ومقطوعاته الغنائية ووقفاته الشعبية حتى باتت قصصه ونوادره أمثالاً يستشهدون بها في كل تفاصيل حياتهم ويتلذّذون بها .. يصدح بدمَته الشهيرة :
عيني تخوَل بارق في امطور يلمعي
شلّ الكباري واتفى في وسع موديه
يا كلّ مهبول ترى البراق يلمعي
حيَل بمالك عن مداقل وسع موديه
ثم يختمها بنفس فاخر طويل :
أوووووو لتهاااااامووووه !!!!!!
سرت امليلة .. سرت امليلة ..
سرت تيَة .. سرت تيَة !!!!!!!!!!!
الناس هناك تردّد مقطوعاته الشعبية وأغنياته وحركاته فإذا برق البرق ونزل المطر نادى أحدهم :
” الله يكفينا سيل تيَة ودمَة دابو ” !
لا يكاد يخلو بيتاً من ” دابو ” فهو العامل الوحيد الذي ينظّف كل أَفْنِيَة البيوت وهو الوحيد الذي يعرف كل أسرار بيوت قريتنا وظروفها وآمالها وقصص الحب أيضاً ، ويسكن بيتاً مهجوراً موحشاً هو الوحيد الذي أعاد له الحياة وجعل من هذا البيت مزاراً للجميع فقد كان فناناً تشكيلياً ماهراً ومضيافاً ومحبّاً للصغير والكبير !!! بيته الذي كان على قارعة الطريق فالكلّ يمرُّ ببيته وقد تزيّن باللونين الأخضر والأبيض والجدارية التشكيلية التي رسمها للَاعب الكبير : ” أمين دابو ” في صدر بيته ، ولأجل هذا الاخضرار تجده يشاكس كل من يخالفه في عشق النادي العريق الأهلي ونجمه الأول الكبير
” دابو ” الكلّ ينتظر مباراة الأهلي والكل يحفظ جدول مباريات الأهلي عن ظهر قلب لا لشيء إلاَ ليستمتعوا بالأهلي ويجادلون ” دابو ” أمام دكان العم إبراهيم ..
” دابو ” الذي يجيد سرد قصصه المضحكة الساخرة مع أخوته الأعداء ” الجن ” كما يقولها وكيف أصبحوا له جيراناً ؟!الجار قبل الدار كيف ؟
وحين تلسعه الباعوض يلعنها ، ثم يعضُّ على سبابته ندماً استغفر الله ، استغفر الله !!!
الصغار في كلّ الطرقات يعرفونه فيهربون منه فهو يطاردهم ، ويجعلهم مسوغاً ؛ كي يدخل كلّ البيوت التي تحفل بالمناسبات حتى يشاهد الفتيات الحسناوات فيقتحم الأبواب خلف الأطفال يصرخن الفتيات :
دابو ، دابو ، دابو في بادية الأمر ؛ ليضحكنَ عليه في نهاية الأمر ، وهو يتلوّن بألسنة الحيوانات خلف الأطفال ، ويتعثّرُ عمداً في طرف ثوبه فيسقط بينهنّ ، وقد امعن النظر فيهن طويلاً ، ثمّ يدّعي الألم ، ثم يقوم بتثاقل عجيب قبل أن يغادر المكان ، ويسرد حكاياتٍ يتمايلن منها الفتيات والعجائز عجباً ودهشةً وضحكاً ، ويختمها كانت بقصة ابتدعها تحت وطأة الحدث : كانت لي حبيبةً جميلة مثل هذه الفتاة ، يا سبحان الله يخلق من الشبه أربعين !!!!
قد يعضّه الجوع أحياناً فيقول :
وقد كان فقيراً جائعاً بائساً يتوسل كسرة خبز مثلي !!!!
وحين يكسونا الشتاء معاطفه الداكنة نجده ينزلُ ثوبه الأسود المصنوع من الصوف ؛ ليرتديه ويعلّق ثوبه الأبيض حتى يرحل الشتاء ، وعندها ينزل ثوبه الأبيض ويعلّق ثوبه الأسود وهكذا بين رحلة الشتاء والصيف ، لكنه لا يتخلى عن فنيلة ” دابو ” مهما كلّف الأمر فهي تلاصق جسده النحيل جداً .. جسده الذي فتك به مرض السرطان ، بعد أن حاول مكافحته بجرعات الكيماوي المؤلمة , ولكن أقدار الله كانت أقوى , ولم يمض على رحلة علاجه سوى الشهرين ورحل وحيداً بعد خمسة عقود ونيف لم يجد ولداً صالحاً يدعو له ولا زوجةً ترثيه ولا حتى ابنة تتذكره بصدقة فقد سرقته السنوات بعدما كانت له القرية كل شيء !!!
القرية تعلن الحداد وتصلي عليه الجموع من كل القرى التي تعرفه والتي لا تعرفه ، فالكل هناك يبكي دابو بعد أيام من رحيله لمحت نافذة بيته وفيه القط ” سانتانا ” تلك النافذة التي تطلّ على الطريق مفتوحة ، وقد تدلّت نحوها شجرة الحنّاء فكأنّها تأبين لكل هذا الاخضرار وقفتُ في نافذته في سلام الوداع الأخير قبل أن استعيد صوته وضحكته ونكاته وأخذتني الذكريات المثقلة بالفقد والألم والبكاء نحو بابه الأبيض الذي أعتدنا الدخول منه وسط حديث الأنس والسعد فتحت الباب فإذا بطائره الببغاء الأخضر, وقد خفت صوته فلا يكاد يُسمع إلا همساً ، أقتربت منه وهو يردّد عبارته :
” ثعلب الكرة أبو الكعوب الفنان دابو ” ..
” خمسة عشر رجلاً ماتوا من أجل صندوق ” .. ناولته يدي فقفز على كتفي والصمت يطبق على المكان .. جدارية اللاعب الراحل ” أمين دابو ” ، وملصقات نجوم الكرة وتأخذني اللحظات للكثير من الحكايات والقصص ” آآه يا دابو” كل شيء كما كنت تحب ، وهناك على طاولته علبة الدخان وكأس الشاي ومكعبات السكر ، وكتاب تقسمه ورقة بيضاء وجلستُ على كرسيَه وفتحت الكتاب رسالة مكتوبة بخطه الجميل وموسومة بتوقيعه وتاريخه وصوته المُتعب :أمي ..
يعتصرني الألم وأخشى الرحيل .. !
كل ما أتذكره يا أمي إنك هاجرتِ بنا لهذه القرية من مدينة جدة بعد أن رحل والدي ولم يعد لنا أحد بعده .. اعطيتني بطاقة الأحوال والتي سعى فيها شيخ القرية قبل رحيلك همستي لي :
كن قوياً يا بني وإن رحلت فهناك صرَة من المال تركتها لك عند عمتك جارتي حليمة.
لك الله يا دابو !
أمي ..
غداً نلتقي في الجنة بإذن الله .