منتدى القصة

الدرس الأوَّل

حكاية

كان يُتابع عن قُرب حركة زوجة ابنه، وهي تعد ملابس ابنها الجديدة للمدرسة التي سيلتحق بها لأول مرة..نعم كبر الطفل الصغير ذو العيون اللامعة الذكية والابتسامة الحلوة..قالت له: ما أجمل الغد {يا عمي} إنه يوم ليس كباقي الأيام الأخرى..نظر إلى الملابس الجديدة والحقيبة الوردية التي وضعتها على الطاولة بعناية، وقد امتلأت عيناها بالدموع، وهي تتحسسها بأصابع مرتعشة.. آه كم هي حساسة هذه الفتاة تسبقها دموعها للتعبير عن مشاعرها..ضحك وهو يقول لها لم يبقِ يابنتي إلا أن تخرجي إلى البلكونة لتُعلني للعالم ما بداخلك من فرح وسعادة بدخول ابنك المدرسة الابتدائية … مع أذان الفجر استيقظ كل من في البيت، كانت رائحة الفرح تملأ المكان وبدأ الجميع متأهبًا للحظة الانطلاق إلى المدرسة في أول يوم من أيام السنة الدراسية الجديدة. ….كان الإفطار في هذا الصباح له طعم خاص..قال له {خلدون}: وهو ينتهي من لبس حذائه .. ماما تقول إنك ستذهب معي إلى المدرسة [ يا جدو]..قال له مبتسمًا سنذهب معك “أنا وأبوك” لهذه المرة فقط احتفالًا بهذه المناسبة السعيدة..
سرح بعيدًا.. وهو يتذكر لحظات الفرح الطفولي التي غمرته ..وهو يقف بين يدي أمه لتضبط على جسده الثوب السماوي الجديد الذي قام بتفصيله عم سليمان الخياط وتطوي الطاقية على هيئة كيس، وتدخلها على رأسه حتى غطت أذنيه، وأطبقت يديه على حقيبة القماش بلونها البني، وقد دست بداخلها “جزء عم ومرسمة ودفتر أبوعشرين”، وهي توصيه قائلة لا تدع أحدًا يأخذها منك .. ولا تدعها تسقط منك على الأرض ..ثم استدارت نحو أخيه الكبير، وهي تدس في يده ثمانية قروش وتقول له توكلوا على الله..انتبه على أخيك .. ودعه يأكل معك في الفسحة الكبيرة .. ولا تتأخروا في العودة .. وبقيت واقفة على باب البيت تلوح لهما بيدها..وتدعو ..بينما هما يمضيان مسرعين نحو المدرسة الابتدائية القريبة من الحارة..قال وهو يحدث نفسه انتهت أيام اللعب، ولم يعد هناك وقت للتسكع مع الأصحاب ولعب اللب والبرجوة..وصلا إلى المدرسة وقد امتلأ حوشها الواسع بعشرات من التلاميذ الذين وقف في وسطهم اثنان من الرجال عرف فيما بعد أن أحدهم هو وكيل المدرسة والآخر هو المراقب.. الذي كان يحمل بيده عصا نحيفة يلوح بها وهو يصيح في الأولاد ليصطفوا في طوابير كلًا حسب السنة الدراسية ..انفلتت يد أخيه منه وهو يجري نحو صفه، ويقول له مكانك هناك مع المستجدين..نلتقي في الفسحة الكبيرة..ودخل هو في زحام الأولاد المستجدين، وهم يتدافعون فرحين بأول يوم لهم في المدرسة …وفي الفصل تلقى أول ضربة بالعصا؛ لأنه لم يردد بصوت عالٍ ما كان يتلوه عليهم المعلم من قصار السور..وتلقى من مدرس آخر كلمة{ شاطر}؛ لأنه استطاع أن يعد من واحد إلى العشرة بدون أن يخطئ..وحين عاد من المدرسة إلى البيت جلس يحكي لأخواته وأمه، وهي تعد لهم طعام الغداء ما مر عليه من أحداث ذلك اليوم، وينصت إليها وهي تقص عليهم بعض أحوال مدرسة البنات التي تعمل بها لكسب بعض النقود إلى جانب ما تقبضه من راتب تقاعد والده الذي لا يكاد يكفي ما يبقى منه بعد الإيجار للصرف على كل ما تحتاجه هي وأطفالها .. من مصروفات ضرورية…. رفضت أمه الزواج بعد وفاة والدهم؛ حتى تتفرغ لتربيتهم وظلت تعارك الدنيا لكي تبقى لهم وحدهم.. مرت السنة الدراسية الأولى كأحلى ما تكون.. وانتقل بعدها إلى السنة الثانية ثم الثالثة وكبرت معه حقيبته الجلدية، واكتظت بما في داخلها من كتب ودفاتر ومراسم.. وبدأ يتعود على الأوامر والنواهي والتحذيرات، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يدس بين كتبه ودفاتره مجلة سمير التي كان يحرص على شرائها من مكتبة {القلم} القريبة من المدرسة بما يتبقى عنده من مصروف المدرسة.
– جدة

عبدالعزيز التميمي

كبير مديري العلاقات الإعلامية في الخطوط السعودية سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى