حبيب بن أوس الطائي , يكنى بأبي تمام , وبها عرف ولد بقرية جاسم من أعمال دمشق سنة 188هـ وتوفي 231هـ بالموصل .
يرفض أبو تمام أن يختص بوطن وأن ينسب مذهبه الشعري إلى أي مذهب فني إقليمي , فوطنه فسيح مترامى الأطراف يشمل كل أرجاء الدولة الإسلامية يقول ([1] ):
خليفة الخضر من يربع على وطن *** في بلدة فظهور العيس أوطاني
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا *** بالرقتين وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى بما صنعت *** حتى تُطوّح بي أقصى خراسان
ويقول ابن المعتز في طبقاته : ” لأبي تمام 600قصيدة , و 800 مقطوعة أي ما مجموعه 1400قصيدةومقطوعة بينما الموجود في ديوانه المطبوع والمشروح لا يصل إلى 500قصيدة ومقطوعة .
ولعل ما ذكر من اختلاف الناس في شعره واضطراب روايتهم فيه وكثرة ما دار حول مذهبه من خصومات نقدية وشدة حسد الشعراء له كانت من ظهور الأسباب التي شاركت في ضياع بعض شعره “([2] )
ولأبي تمام مختاراته الشعرية التي تعتبر من أجود أنواع الدراسات الأدبية وأفضلها من شأنها أن تضع أبا تمام في صف أصحاب المدّونات كالمفضل الضبّي صاحب المفضليات والأصمعي صاحب الأصمعيات . وهي مختارات تمثل في ذاتها مدرسة مستقلة ذات طابع ومميزات تفردها عن غيرها . وقد رتب مرجليوث هذه الاختيارات فوجدها ستة هي :
* كتاب الاختيارات من أشعار القبائل ,ويشمل على مختارات من أغاني القبائل .
* كتاب الاختيارات من أشعار الشعراء ويشمل على مختارات من أغان لشعراء لا نعرف عنهم إلا القليل .
* الفحول وهو مختارات من أجود قصائد الجاهلية والإسلام ينتهي بابن هرمة .
* الحماسة جمعها بدار أبي الوفاء بن سلمة بهمذان عندما اضطرته الثلوج إلى الالتجاء إلى هذه المدينة أثناء عودته من زيارة عبد الله بن طاهر , ورتبها على عشرة أبواب وضمنها عيوناً من الشعر العربي . وهي : { الحماسة والمراثي والنسيب والهجاء والأضياف والمديح والصفات والسير والنعاس والملح ومذمة النساء } ([3] ) .
وأطول حماسيات الكتاب حماسية زياد بن حمل التي يذم فيها صنعاء , ويتشوق إلى بلاده وقومه وعددها أربعة وأربعون بيتاً ومطلعها :
لا حبذا أنت يا صنعاء من بلد *** ولا شعوب هوي مني ولا نقم .
* اختيار المقطعات ورتبه على نسق الحماسة لكنه بدأه بالغزل .
* مختارات من شعر المحدثين ([4]) .
ولم يصل إلينا من هذه المجموعات سوى ديوان الحماسة والوحشيات , وهي الحماسة الصغرى ذكرها التبريزي في مقدمة شرح الحماسة والقاضي الجرجاني في كتابه إعجاز القرآن . ونص التبريزي على أن أبا تمام في اختياره الحماسة أشعر منه في شعره ([5]).
ويعود سبب تسمية الكتاب بالحماسة إلى أن باب الحماسة هو أكبر أبواب الكتاب ويحتل مكان الصدارة فيه .
وشعر أبي تمام معروف بالإشكالات التي دارت حوله فقد قرئ هذا الشعر , وما زال يقرأ فيه ما قيل , وقد اختلفت الأقوال ولا تزال حول هذا الشعر بين مؤيد ومعارض ,وتباينت وجهات النظر تبايناً يدعو إلى التمهل والتروي .
وقد عُدّتْ الحركةُ النقدية التي دارت حول شعر أبي تمام من أهم الحركات النقدية في تاريخ الشعر العربي فقد كانت الخصومة حول مذهبه الفني البديع ميداناً لدراسة الكثير من قضايا النقد ومسائله كالغموض والصورة والتباين الكبير في شعره من حيث الجودة والرداءة .
*= جذور الخصومة حول شعر أبي تمام وأسبابها :
كان العصر العباسي أخصب العصور إذ شهد تطوراً وتغييراً على كافة المستويات السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية انعكست جميعها على الحياة والنتاج , وأصبح الإنسان العباسي يواجه صراعاً صعباً بين التاريخ والواقع , فهل يتمسك بالتراث الماضي أم يتكيف مع الواقع الجديد ممثلاً في الحياة الجديدة المتحضرة ؟ يعبر عن تجاربه ويستجيب لذوق مجتمعه وثقافته , فقد نشأ بينه وبين الأشكال التقليدية أشكال من الصراع وكذلك الذوق وألفينا الشعراء العباسيين قسمين :
شعراء وجدوا أنفسهم مشدودين إلى الماضي يعيشون تراثه ويحتذون حذو أسلافهم في القيم والتعبير ,والقسم الثاني : شعراء أخلصوا لتجارب عصرهم ,واستقوا معانيهم من واقعهم الحضاري , كبشار وأبي نواس وأبي العتاهية , وهم قادرون على النسج على المنوال القديم , فلم تكن المسألة مسألة ضعف وقوة , وإنما مسألة ذوق وتكيّف وتجربة .
ولعل أبا نواس كان أبرز من حمل لواء التجديد في ذلك العصر مع صاحبيه بشار ومسلم بن الوليد غير أنه برز على صاحبيه , فكانت له تلك المكانة المتميزة في التجديد في تاريخ الشعر العربي بحيث عدّه نقاد الشعر مجدداً ثائراً , وعدّوا الدور الذي قام به خصومة واعية بين الجديد والقديم .
بيد أن خصومته كانت خصومة من جانب واحد ؛ إذ لم يقم حوله من الجدل ما قام حول أبي تمام ,ولم ينقسم الناس حوله إلى أنصار وخصوم , ولعل سبب ذلك يعود إلى أن أبا نواس في تجديده ثار على العرف العام وعلى موضوعات الشعر دون أن يتنكب عن عمود الشعر العربي والدليل على ذلك أن النقاد القدماء كانوا راضين عنه جملة ما عدا إفحاشه في القول وجرأته على العرف وخروجه عن العادات الحميدة .
في حين ثاروا على أبي تمام لأنه تناول في تجديده { بنية الشعر وتركيبه } أو عموده كما يقول القدماء , ولأنه اتخذ من هذه الثورة مذهباً طبّقه في شعره دون أن يدعيه ادعاء .
وممّا مهّد للخصومة حول شعر أبي تمام ظهور الشاعر البحتري , فكان بذلك أمام النقاد نموذجان من الشعر أحدهما يمثل القديم , والآخر يمثل الجديد .
ولأن كلّ حركة أدبية أو نقدية تستدعي جملة من السمات فقد كان من سمات المعركة النقدية التي أثيرت حول شعر أبي تمام ومذهبه الفني سمتان رئيستان هما :
1- التأثرية , فاللغويون والنحاة في القرن الثاني والثالث ليس لهم مذهب في النقد وليست أحكامهم النقدية إلا أحكام تأثرية , تفوّه بها من تقدمهم في العصرين الجاهلي والإسلامي . وساعد على استمرار المقياس التأثري في نقد أبي تمام كونه وُجد قبل أن تستقر أصول البلاغة وقواعد النقد .
2- الجزئية : مما يؤخذ على نقاد أبي تمام أنهم لم ينظروا إلى قصائده جملة , وإنما كانوا يقفون عند أبيات مفردة وتعابير وصور مقتطعة عن سياقها ([6]) . من ذلك تعليق ابن الخثعمي على قول أبي تمام :
تروح علينا كلّ يوم وتغتدي *** خطوب كأن الدهر منهن يصرع
بقوله : ( جُنّ جنون أبي تمام أيصرع الدهر ) ( [7] ) . وعبد الصمد بن المعذل يعلق على قول أبي تمام ( [8]).:
لا تسقني ماء الملام فإنني *** صبٌّ قد استعذبت ماء بكائي
بأن أرسل زجاجة إلى أبي تمام يطلب منه أن يملأها له بماء الملام . ولا شك أن كلا الموقفين بعيد عن النقد الفني الخالص .
*= ويذكر الآمدي في موازنته أنّ أبا تمام شاعر عالم , وأن العلم في شعره أظهر منه في شعر البحتري ,وأنه يأتي في شعره بمعان فلسفية لم يكن الأعراب يستطيعون فهمها , ومن أجل ذلك فإن شعره يعجب العلماء وأصحاب الفلسفة والمعاني .
*= ويقول المبرد : بعد أن يسمع أبياتاً لأبي تمام : ” ما سمعت أحسن من هذا قط ما يهضم هذا الرجل حقه إلا أحد رجلين : إمّا جاهل بعلم الشعر ومعرفة الكلام , وإمّا عالم لم يتبحر شعره ولم يسمعه “.
*= وتظهر في شعره ثقافات واسعة وعميقة ودقيقة ومختلفة سواء أكانت عربية أم فارسية أم هندية أم يونانية , اتصل بها اتصال الباحث اتصالاً عميقاً , ومن هنا أصبح شعره مستغلقاً في بعض جوانبه على أصحاب الثقافة السطحية الضحلة , وأصبح يحتاج في فهمه إلى مثل ثقافته الواسعة العميقة حتى يسهل فهمه وتذوقه والنفاذ إلى أغواره البعيدة .
اقرأ إن شئت : ( [9])
كم في العلى لك والمجد من بدع *** إذا تُصُفّحت اختيرت على السُّنن
فقد ذكر البدع والسنن وهما من ألفاظ الفقهاء . ومن ذلك قوله في الخمر : ([10])
خرقاء يلعب بالعقول حبابها *** كتلّعب الأفعال بالأسماء .
فقد تكلف لذكر الأفعال والأسماء وهذه صنعة النحويين , ومن ذلك قوله : ( [11])
لن ينال العلا خصوصاً من الفتيان *** من لم يكن نداه عموما
فقد ذكر الخصوص والعموم وهما من ألفاظ المناطقة . ومن ذلك قوله ([12])
هبْ من له شيء يريد حجابه *** ما بالُ لا شيء عليه حجابُ
فقد عبر عن العدم بكلمة لا شيء وهي من كلام الفلاسفة .
*= ذكاؤه وحسن بديهته :
وقد كان ينهض بهذه الثقافة ذكاء نادر ,وفطنة فذّة فصارت أهم المصادر الفنية التي أمدت شعره بالمعاني الزاخرة بالعمق , فغاص بها على الصور العقلية الفنية واستخرجها بالطريق البديعي مما جعل عمق الصورة وثراءها يتصل بوشائج نابضة من البديع والزينة اللفظية ويقص القدماء من أخباره في هذا الجانب قصصاً كثيراً فمن ذلك أنه امتدح أحمد بن المعتصم بقصيدة سينية , فلما انتهى منها إلى قوله :
إقدام عمرو في سماحة حاتم *** في حلم أحنف في ذكاء إياس .
قال له الكندي الفيلسوف وكان حاضراً : الأمير فوق ما وصفت , فأطرق قليلاً ثم رفع رأسه وأنشد :
لا تنكروا ضربي له من دونه *** مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقلّ لنوره *** مثلاً من المشكاة والنبراس
فعجبوا من سرعة فطنته . وقد قيل : إن الكنّدي لما خرج أبو تمام قال : هذا الفتى قليل العمر لأنه ينحت من قلبه , وسيموت قريباً فكان ذلك ([13]).
واستطاع أبو تمام أن ينتزع إعجاب المعتصم الذي يكاد يكون أمياً أن يسمح له أن ينشده قصيدته في فتح عمورية ثلاث مرات وعندما يسأله : ( كم تجلو لنا عجوزك ) ؟
يرد عليه أبو تمام في لباقة وذكاء مفرطين : حتى أستوفي مهرها يا أمير المؤمنين , فيأمر له بواحد وسبعين ألف درهم عن كل بيت منها ألف .
وحلف الحسن بن رجاء على أبي تمام ألاّ يتم قصيدته فيه إلاّ وهو قائم , وعندما فرغ قال له : الحسن : ( ما أحسن ما جلوت هذه العروس ) فيرد أبو تمام عليه بعبارة مُلئت تهذيباً وشاعرية : ( والله لو كانت من الحور العين لكان قيامك لها أوفى مهورها ).
*= قضية الشعر عند أبي تمام :
وأبو تمام يفهم الشعر على أنه صناعة عقلية يمتزج فيها العقل بالشعور أو الفكر بالعاطفة فالشعر عنده ليس عملاً فنياً خالصاً يستمد مادته من العاطفة وحدها , ولكنه أيضاً عمل عقلي يستمد مادته من العاطفة كما يستمدها من العقل , فأساس العمل الفني عنده هو المزاوجة بين العقل والشعور أو بين الفكر والإبداع . وهو في سبيل تحقيق هذه المزاوجة لم يكن يبالي بأن يحمّل اللغة أكثر مما تطيق , كما لم يكن يبالي بأن تصل معانيه إلى قدر من الغموض .
نحن بإزاء شاعر مُغرم بالتصنيع والزينة بل لقد كان ذوقه ذوق نحّات أصيل , نَحُسُّ كأن الشعر أصبح تنميقاً وزخرفاً خالصاً , فكل بيت في القصيدة إنما هو وحدة من وحدات هذا التنميق والزخرف , وهو ليس زخرفاً لفظياً فحسب , بل هو زخرف لفظي ومعنوي يروعنا فيه ظاهره وباطنه , وما يودعه من خفيات المعاني وبراعات اللفظ . يقول
مفصلة باللؤلؤ المنتقى لها *** من الشعر إلا أنه اللؤلؤ الرطبُ
هي جوهرٌ نثرٌ فإن ألَفته *** بالشعر صار قلائدا وعقودا ([14]) .
ويقول أيضا :
نيطت قلائد عزمه بمحبّر *** متكوّف متدمشق متبغدد ([15]).
ويقول أيضاً :
خذها مثقفة القوافي ربها *** لسوابغ النعماء غير كنود
حذاء تملأ كل أذن حكمة *** وبلاغة وتدر كل وريد
كالدر والمرجان ألف نظمه *** بالشذر في عنق الفتاة الرود
كشقيقة البرد المنمنم وشيه *** من أرض مهرة أو بلاد تزيد ([16])
وكما سبق فأبو تمام يدرك أن الشكل وحده لا يشكل جديداً خاصاً , فقصائده ذات معان مبتكرة عذراء , وذات دلالات جديدة , يقول :
أما المعاني فهي أبكار إذا *** نُصّت ولكنّ القوافي عُونُ ([17])
وسمع عمارة شعراً لأبي تمام كان منه :
ولكنني لم أحو وفراً مجمعاً *** ففزت به إلا بشمل مبدد
ولم تعطني الأيام نوماً مُسكّناً *** ألذُّ به إلا بنوم مُشرّد ([18]).
فقال : لله درّه لقد تقدّم صاحبكم في هذا المعنى جميع من سبقه على كثرة القول فيه , حتى لحُبْبَ الاغتراب , هيه , فانشد :
وطول مقام المرء في الحي مُخْلقٌ *** لديباجَتَيْه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة *** إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد
فقال عمارة : كمل والله , إن كان الشعر بجودة اللفظ وحسن المعاني واطراد المراد واستواء الكلام , فصاحبكم هذا أشعر الناس وإن كان بغيره فلا أدري .
وبذلك انتهى عنده مذهب التصنيع إلى غايته التي كان يرنو إليها شعراء العصر العباسي من الزخرف والتنميق , فكل من قلّدوه من بعده كانوا يقعون دونه على السفح , ولعل ذلك ما عدل بالبحتري وابن الرومي عن الدخول معه في هذا المذهب العسر الذي صعّب مسالكه ودروبه على الشعراء .
وأول ما يلفت النظر في هذا الخصوص أن الشاعر في مذهب أبي تمام يبدو مثل الكاهن أو الساحر ويبدو الشعر مثل الكهانة أو السحر وأول سماته السحر والدهشة والإغراب ([19]) , يقول :
ولذاك شعري فيك قد سمعوا به *** سحرٌ وأشعاري لهم أشعار
والشاعر والساحر عند أبي تمام ذوا أداة واحدة وتأثير متشابه ( [20])
وعلمت إثم السحر حين ذممته *** وأراك متخذاً أداة الساحر
يا شاعراً في طرفه وبهائه *** وجماله عذّبت قلب الشاعر
وما دام الشعر تماماً مثل السحر فإنه لا يتقنه سوى السحرة المبدعين فإذا حاول المبتدئون وصغار الشعراء أن يخوضوا في غماره , فإنهم لا يعودون إلا بخفي حنين , بل إن تقليد هذا الشعر أو سرقته أمر متعذر ؛ لأنه ملكية خاصة للمبدع أبي تمام , يقول ([21])
وما لي ضيعة إلا المطايا *** وشعرٌ لا يباع ولا يُعار
وإذا كان الشعر على هذه الصفات فإن تأثيره في المتلقي يكون كبيراً وعميقاً فهو يخلق الحالة الشعرية وينقلها من الشاعر إلى المتلقي ولذلك يصف قصائده بأنها :
تبيت سوائراً وتظل تُتلى *** قصائدها كما تُتلى الفتوح ([22])
*= غاية الشعر عند أبي تمام :
كان أبو تمام يؤمن بأن الشعر للخاصة لا العامة , والخاصة عنده ليست طبقة اجتماعية متميزة ولكنها الخاصة المثقفة المستنيرة الواسعة الاطلاع . وعلى أساس هذه الفكرة آمن أبو تمام بأن الشاعر يجب ألا ينزل بمستواه الفني إلى مستوى العامة , وإنما يجب أن يظل في قمته الشامخة وعلى الجمهور أن يرتفع إليه , يقول :
أبا جعفر إنّ الجهالة أمها *** ولودٌ وأم العلم جدّاء حائلُ
أرى الحشو والدهماء أضحوا كأنهم *** شعوب تلاقت دوننا وقبائل ([23])
*= جهده ومعاناته الشديدة في بدع الشعر :
والشعر عند أبي تمام ضرب من المعاناة والمكابدة ومجاهدة النفس وإعمال الفكر لا يقتنع فيه الشاعر بيسير المعاني وسهل الأفكار ولا ينتظر من الأبيات أن تنثال عليه انثيالاً بل يعمد إليها عمداً فيظل يحاورها ويداورها حتى تستسلم له وتسلّم له قيادها . يقول مادحاً مستغلاً المكابدة وسيلة لزيادة العطاء من قبل ممدوحه :
وقد حررت في مديحك جهدي *** فحرر بالندى صلة القصيد ( [24]) . ونراه يتحدث عن مجاهدة القوافي أثناء نظمها وما تحتاجه من صور ذلك الجهد :
يُجاهد الشوق طوراً ثم يجذبه *** جهاده للقوافي في أبي دلفا ([25] )
ويقول معتزاً بنفسه مزهواً بقدراته الفنية :
سأجهد حتى أبلغ الشعر شأوه *** وإن كان لي طوعاً ولست بجاهد ([26]
كما أنه من يقرأ نصوصه الشعرية يجده ينطلق من أفق الانفتاح على نصوص الشعراء السابقين , وليس من أفق الانغلاق أو القطيعة يقول ابن رشيق في كتابه العمدة : ( حكى بعض أصحاب أبي تمام قال : استأذنت على أبي تمام وكان لا يستتر عني فأذن لي , فدخلت عليه فإذا هو في بيت مصهرج قد غسل بالماء يتقلب يميناً وشمالاً فقلت له : لقد بلغ بك الحرّ مبلغاً شديداً فقال : لا ولكن غيره , ثم مكث لذلك ساعة , ثم قام كأنما أطلق من عقال , فقال : الآن وردت – أي وصلت إلى المورد – ثم استمر وكتب شيئاً لا أعرفه , ثم قال : أتدري ما كنت فيه ؟ قلت : كلا قال قول أبي نواس :
حَذَرَ امرئ نُصِرَت يداه على العِدى *** كالدهر فيه شراسةٌ وليانُ .
أردت معناه فشمس علي – أي هرب – حتى أمكنني الله منه , فصنعت :
شرستَ بل لنتَ بل قانيتَ ذاك بذا *** فأنت لا شك فيك السهل والجبل ([27])
قال ابن رشيق : ( ولعمري لو سكت هذا الحاكي لنمّ هذا البيت بما كان داخل البيت لأن الكلفة فيه ظاهرة والتعمُّل بيّن ) .
والحق أنّ الذي أوقف أبا تمام في بيت أبي نواس إنما هو هذه الجدلية التي يتسم بها الدهر حينما يجمع بين نقيضين ويؤلف بين ضدين هما الشراسة واللين إلا أنّ هذه الجدلية تتخذ بعداً جديداً لها في بيت أبي تمام تتمثل فيه صفات الفكر الجدلي من حيث طرح الفكرة ثم نقضها ثم جمع الفكرة والنقيض معاً فيما يدعى بالتركيب .
حيث راح ينتقي مقومات الشطر الأول من دلالات الفعل الماضي التي تلتقي فيها المتناقضات في نهاية المصراع ( بل قانيت ذاك بذا , أي الليونة بالشراسة ) ؛ ليؤكد الدلالة تصويرًا من خلال الموقف الذي يعود إلى تأكيده بالضمير , وبالتوكيد اللفظي على طبيعة المتناقضات التي توازي الشطر الأول حيث يأتي بالجبل قريناً للشراسة وبالسهل قريناً للين .
ومن هنا يصبح من أهم سمات الرؤية الشعرية عند أبي تمام أنها تتلمس التماثل والانسجام من خلال التنافر والتضاد , وبهذا أصبح شعره مجالاً لإعادة تركيب الأشياء التي تبدو متنافرة للوهلة الأولى .
وروى ابن المعتز في طبقاته : (حدثني أبو الغصن محمد بن قدامة قال : دخلت على حبيب بن أوس بقزوين وحواليه من الدفاتر ما غرق فيه , فما يكاد يرى فوقفت ساعة لا يعلم بمكاني لما هو فيه , ثم رفع رأسه فنظر إليّ وسلم عليّ , فقلت له : يا أبا تمام إنك لتنظر في الكتب كثيراً , وتدمن الدرس , فما أصبرك عليها ! . فقال : والله ما لي إلف غيرها ولا لذة سواها , وإني لخليق إن أتفقدها أن أحسنُ – يريد أن أحسن الكتابة الشعرية – وإذا بحزمتين واحدة عن يمينه وواحدة عن شماله , وهو منهمك ينظر فيهما ويميزهما من دون سائر الكتب فقلت له : فما هذا الذي أرى من عنايتك به أوكد من غيره ؟ قال : أما التي عن يميني فاللّات ,وأما التي عن يساري فالعزى أعبدهما منذ عشرين سنة , فإذا الذي عن يمينه شعر مسلم بن الوليد صريع الغواني , وعن يساره شعر أبي نواس ) .
*= الغموض والتعقيد :
أبو تمام من أشهر شعراء العربية وهو صاحب مذهب شغل الدارسين في عصره وبعد عصره وأثار كثيراً من الجدل والخلاف حوله وهو ذلك المذهب الجديد الذي طلع به على الناس في عصره فمنهم من أعجب به ومضى يؤيده ويدافع عنه , ومنهم من أنكره ورفضه وراح يهاجمه , فأبو تمام هو زعيم المذهب التجديدي – التصنيع والزخرف – في القرن الثالث وهو المذهب الذي يضعه النقاد بإزاء المذهب التقليدي الذي سار عليه معاصره وتلميذه البحتري .
فالشاعران يمثلان مذهبين مختلفين في تاريخ الشعر العربي , وهو اختلاف يرجع إلى اختلاف الشاعرين حول المفهوم الفني للشعر ,أو يرجع إلى اختلافهما حول مسألة عمود الشعر .
فأبو تمام يمثل مذهبه الخروج على عمود الشعر والتحرر من تلك التقاليد الفنية الموروثة التي تلقاها الشعراء عن الشعر القديم . في حين يمثل مذهب البحتري التمسك بعمود الشعر والحرص على احتذاء تلك النماذج الفنية الموروثة .
هذا مذهبه الجديد مذهب لا تستسيغه إلا فئة معينة من الناس , يقول الآمدي عنه في الموازنة : ( إنه ينسب إلى غموض المعاني ودقتها , وكثرة ما يورده مما يحتاج إلى استنباط وشرح ) . ويقول أيضاً : ( إنه شديد التكلف , صاحب صنعة يستكره الألفاظ والمعاني وشعره لا يشبه أشعار الأوائل , ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولدة ) .
ويقول أيضاً : ( إنه أتى في شعره بمعان فلسفية وألفاظ غريبة فإذا سمع بعض شعره الأعرابي لم يفهمه ) , ويذكر الرواة أن أعرابياً سمعه ينشد قصيدته التي مطلعها :
طلل الجميع لقد عفوت حميداً *** وكفى على رُزئي بذاك شهيدا ([28])
فقال : ( إنّ في هذه القصيدة أشياء أفهمها , وأشياء لا أفهمها , فإما أن يكون قائلها أشعر الناس , وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه ) , وليس من شك في أن هذا الأعرابي كان صاحب حس مرهف دقيق .
ويقص الآمدي أن ابن الأعرابي اللغوي سمع شيئاً من شعره فقال : ( إن كان هذا شعراً فكلام العرب باطل ) , أي أن ابن الأعرابي يرى أن مذهب أبي تمام في الشعر مذهب جديد لا عهد للعرب به يخالف ما يعرفه النقاد من مذاهب القدماء في الشعر . ويذكرون أن أعرابياً سمعه ينشد قصيدته التي يمدح بها عبد الله بن طاهر والتي مطلعها :
أهنّ عوادي يوسف وصواحبُه *** فعزماً فقِدماً أدرَكَ السُؤلَ طالبُه ([29]) .
فقال له : لم لا تقول ما يفهم ؟ فردّ عليه على البديهة : وأنت لم لا تفهم ما يقال ؟
وكأني بأبي تمام يعلن عن اتجاه جديد في الشعر العربي فقد تطور هذا الشعر وتطور معه صاحبه , ولم يعد عملاً شعبياً , بل أصبح عملاً عقلياً راقياً , فالشاعر ليس من واجبه أن ينزل إلى الجمهور , بل يجب على الجمهور أن يصعد إليه , وهذه الفكرة فكرة ارتفاع الشعر عن الجمهور نراها عند أبي تمام لأول مرة في تاريخ الشعر العربي , وهي إحدى الأفكار المهمة التي تثار في النقد الحديث .
*= ولكن ما سبب هذا الغموض ؟ يكشف عنه الآمدي بقوله : { إنّ أبا تمام تعمد أنّ يدل في شعره على علمه باللغة وبكلام العرب فتعمد إدخال ألفاظ غريبة في مواضع كثيرة من شعره } ومثل له بقوله :
قدك اتئب أربيت في الغلواء *** كم تعذلون وأنتم سُجرائي ([30] )
وقال الجرجاني : فإن أظهر التعجرف وتشبه بالبدو ونسي أنه حضري متأدب وقروي متكلف جاءك بمثل قوله :
قد قلت لما اطلخم الأمر وانبعثت *** عشواء تالية غبساً دهاريسا ([31])
ومهما يكن من شيء فإن هذا الشعر إذا قرع السمع لم يصل إلى القلب إلا بعد إتعاب الفكر وكدّ الخاطر والحمل على القريحة فإن ظفر به فذلك من بعد العناء والمشقة . وقد يكون الغموض بسبب المعاظلة أو التعقيد اللفظي كقوله :
خان الصفاء أخ خان الزمان أخاً *** فلم يتخون جسمه الكمد ([32])
فهو يريد أن يقول : لقد خان الصفاء ذلك الأخ الذي لم يصب بالكمد والحزن بسبب أخيه الذي خانه الزمان من أجله .
يقول الآمدي معلقاً على هذا البيت : ( وإذا تأملت المعنى مع ما أفسده من اللفظ لم تجد له حلاوة ولا فيه كبير فائدة ) , وكقوله :
يا يوم شرّد يوم لهوي لهوُه *** بصبابتي وأذلّ عزّ تجلّدي ([33])
يقول الآمدي : ( لا لفظ أولى بالمعاظلة من هذه الألفاظ ) , ويذهب إلى أن الاستغناء عن كلمة { يوم } الأولى في البيت أصح في المعنى من قوله : { يا يوم شرد يوم لهوي } وأقرب في اللفظ )
وقد يكون الغموض بسبب شغفه وولعه بالبديع المتكلف والمتصنع , وشدّة تقصيه لصوره وأشكاله , وهذا يسبب انغلاقاً في المعاني لا يعلم ولا يعرف غرضه فيها إلا بعد الكدّ والفكر وطول التأمل , يقول ابن المعتز : ( ثم إنّ حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شغف بــ البديع حتى غلب عليه وتفرع فيه وأكثر منه , فأحسن في بعض ذلك , وأساء في بعض وتلك عقبى الإفراط وثمرة الإسراف ) . ومن ذلك قوله :
فالمجد لا يرضى بأن ترضى بأن *** يرضى امرؤ يرجوك إلا بالرضا ([34])
فلما سمعه إسحاق الموصلي قال له : ( يا هذا لقد شققت على نفسك إنّ الشعر لأقرب مما تظن ) .
ويعدون من أسباب الغموض كذلك في شعره شدة استقصائه للمعاني وتدقيقه فيها وغوصه بعيداً في طلب شواردها وهذا يخرجها إلى التعمية والانغلاق , يقول :
إن كان مسعود سقى أطلالهم *** سبل الشئون فلست من مسعود
ظعنوا فكان بُكاي حولاً بعدهم *** ثم ارعويت وذاك حكم لبيد
أجدر بجمرة لوعة إطفاؤها *** بالدمع أن تزداد طول وقود ([35] ) .
يقول الآمدي معلقاً عليها : ( وهذا من معاني أبي تمام التي يُسأل عنها ) , وشبيه بهذا توليده من رعي الجمل محصول الفيافي معنى آخر في قوله :
رعته الفيافي بعد ما كان حقبة *** رعاها وماء الروض ينهلُّ ساكبه ([36]).
فبعد أن كان هذا الجمل يرعى الفيافي بما فيها من شجر وعشب صارت ترعاه الفيافي بجدبها وقحطها وإرهاقها إياه .
وقد لا يكون هذا الغموض مستعصياً مع شيء من التفكير والتأمل بيد أن غرابة المعنى ببعده عن المعهود هي مما يسرع بالحكم بالغموض وربما أدرك أبو تمام هذا الأمر فتراه يتبع معناه الغريب بما يشرحه ويوضحه كما في قوله :
وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت أتاح لها لسان حسود
فشيء غريب وغامض ألا تشيع الفضيلة وتنتشر إلا بنقيضها ولهذا أتبع هذا البيت بيتاً آخر يوضحه ويبرهن عليه فقال :
لولا اشتعال النار فيما جاورت *** ما كان يعرف طيبُ عرف العود ([37]).
ومن أسباب غموض شعره أيضاً خروجه على الناس بمذهبه الجديد وبطريقته الجديدة في الإغراب التي كان يعيها , ويصف بها قصائده كقوله :
وغرائب تأتيك إلا أنها *** لصنيعك الحسن الجميل أقارب ([38]) .
وقوله : إليك أرحنا عازب الشعر بعدما *** تمهّل في روض المعاني العجائب
غرائب لاقت في فنائك أنسها *** من المجد فهي الآن غير غرائب ([39]).
وهذه الغرابة دعت أحد السامعين إلى أن يقول عن قصيدته التي مطلعها :
طلل الجميع لقد عفوت حميداً *** وكفى على رزئي بذاك شهيدا ([40]).
( إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لا أفهمها فإما أن يكون قائلها أشعر من جميع الناس , وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه )
وكانت النزعة العقلية السارية في أوصال شعره والمزاوجة بين العقل والشعور من أسباب الغموض في شعره , يقول د / يوسف خليف : ” أساس العمل الفني عند أبي تمام هو هذه المزاوجة بين العقل والشعور أو بين الفكر والعاطفة وهو في سبيل هذه المزاوجة لم يكن يبالي بأن تصل معانيه إلى شيء من الغموض جعلها تصعب في فهمها على أولئك الذين لم يصلوا بثقافتهم إلى المستوى الذي وصل إليه ” ([41])
ويقول د / شوقي ضيف عن أبي تمام : ” لا يقف بفنّه عند هذه الألوان القديمة من التصنيع التي يبتهج لها الحس بل نراه ينفذ إلى ألوان جديدة يبتهج بها العقل وهي ألوان قاتمة كانت تتسرب إليه من الفلسفة والثقافة العميقة … فقد استطاع أن يستوعب الفلسفة والثقافة وأن يحولهما إلى فن وشعر إذ تتعلق بهما ألوان التصنيع السابقة أو بعبارة أدق يتعلقان هما بتلك الألوان فإذا كل لون منها يعبر عن فكر عميق فالطباق والجناس والتصوير والمشاكلة كل ذلك يزدوج بالفلسفة وألوان الثقافة القاتمة فيجلله الغموض في كثير من جوانبه وأجزائه”([42]) .
ويقول د/ عثمان موافي عن أبي تمام : ” وطبيعي أن يسري هذا الغذاء { الثقافي } في دم فنه الشعري فيأتي مزيجاً من العقل والشعور ويدق فهمه على بعض معاصريه إذ يحسون بشيء من الغرابة والغموض في لفظه ومعناه ” ([43])
وعلى كل حال فالحق أن مرد هذا الغموض ومرجعه إلى دقة الفكرة وغرابة الصورة , أما دقة الفكرة فقد جاءه بطبيعة الحال من تلك الثقافات الواسعة العميقة التي اتصل بها واستوعبها في عقله واستغلها استغلالا كبيرا في شعره واعتمد عليها اعتمادا شديدا , فلا يمكن لشاعر يلعب العمق والخفاء في شعره وتلعب الفلسفة والثقافة في فنه أن يعبر تعبيراً مألوفاً , فأبو تمام لا يستريح إلى المعنى القريب , ولا يطمئن إلى الفكرة السطحية والساذجة , إنه يبحث ويجرّب ويبتكر أفكاراً وصوراً جديدة بديعة , وكل عبارة عنده إنما هي بحث وتجربة يحرص من خلالها على النفاذ إلى داخل الفكرة والتغلغل في أعماقها .
وأما غرابة الصورة فقد جاءته من إيمانه بأن الشعر للخاصة لا للعامة , ومن هنا كانت الصورة القريبة المألوفة بين الناس أبعد الأشياء عن مخيلته المبدعة , ولهذا نلاحظ أنه كان إذا أخذ صورة قديمة مألوفة ظل يحور فيها ويعدل حتى تستقيم له صورة غريبة نادرة غير مألوفة . هذه صورة قديمة رسمها النابغة الذبياني للطير الجوارح التي تحلق فوق الجيش بحثاً عن دماء القتلى وأجسادهم :
إذا ما غزا بالجيش حلّق فوقهم *** عصائب طير تهتدي بعصائب
أخذها مسلم بن الوليد فصاغها صياغة جديدة فقال :
قد عوّد الطير عادت وثقن بها *** فهنّ يتبعنه في كل مرتحل
أما أبو تمام فلم يقنع بتجديد مسلم فيها وإنما أخذ يبدئ ويعيد ويبدل ويغير ويعدل من أوضاعها ويضيف إليها ألواناً مبتكرة , وخطوطاً جديدة حتى استقامت له في هذه الصورة التي تختلف اختلافاً كبيراً عن أصلها عند النابغة وأيضاً عند مسلم , يقول :
وقد ظُلّلت عقبانُ أعلامه ضحى *** بعقبان طير في الدماء نواهل
أقامت مع الرايات حتى كأنها *** من الجيش إلا أنها لم تقاتل ([44])
جعل أعلام الجيش عقباناً لتستقيم له تلك المشاكلة البلاغية التي يريدها بين عقبان الجيش وعقبان الطير , وحدّد زمان الصورة بوقت الضحى حين تخرج الطير الجارحة ساعية وراء رزقها , فإذا الجيش يقابلها في طريقها فتحلّق فوقه , بل إنها تظلله كأنها رايات تخفق فوقه ثم جعل هذه العقبان ناهلة من دماء القتلى لكي يبرز المهمة التي حلّقت هذه العقبان فوق الجيش من أجلها .
ولم يكتف أبو تمام بهذا بل جعل هذه العقبان تلازم الجيش وتختلط بها , كأنها أصبحت جزءاً منه أو جنداً من جنوده , ولكنها جنود غريبة تصاحب الجيش وتلازمه ولكنها لا تقاتل معه .
ويقول في وصف روض :
ومعرّس للغيث تخفق بينه *** راياتُ كل دُجُنّة وطفاء
نُشرت حدائقه فصرن مآلفا *** لطرائف الأنواء والأنداء
فسقاه مسكُ الطّلّ كافور الصبا *** وانحلّ فيه خيطُ كلّ سماء ([45]).
فقد عبّر عن السحب التي يتلألأ البرق في أطرافها بالرايات المطرزة التي تخفق بالريح , ولكن ليس هذا ما يلفتنا في الأبيات , إنما يلفتنا الشطر الأول من البيت الثالث , فقد أبعد على نفسه فيه إذ ذهب يقول : إن مسك الطل يسقي الروض كافور الندى , وهي صورة معقدة , فماذا يريد أبو تمام بمسك الطل ؟ وماذا يريد بكافور الندى ؟
أما مسك الطل فإنه يريد به الرائحة العطرية التي تعبق من الروض إثر الطل والمطر الخفيف وأما كافور الندى فإنه ذلك الرشاش الذي تُعقد قطراته بيضاء على أوراق الروض كالكافور , وليس من شك في أن هذه الصورة مركبة , ولكنها تعبق بالمسك والطيب .
ولكن أيُّ غموض سرى في شعر أبي تمام ؟! إنه الغموض الفنّي الذي يشبه تنفس الفجر , غموض أوقات السحر التي كان يعجب بها أبو تمام , وإنه لتنحلّ فيها خيوط من الضياء , فهل هناك أجمل من تصويره لسقوط المطر بتلك الخيوط التي تنحلّ في الروض ؟
إنه تصوير لطيف قلّما يقع في ذهن شاعر إلا هذا الذي يستوعب الثقافة والفلسفة وتتحولان عنده إلى طرائف من العمق في التفكير والتصوير . وحتى طلبه للغرابة في شعره إنما تأتي فتنة وروعة وحلية أنيقة نمنمها الوشي ونمقها النقش .
يرى حازم القرطاجني أن اقتران الغرابة والتعجيب بالتخييل يفضي إلى الإبداع ([46]) , فالإغراب إذن هو اللفظ الذي أحال به القدماء على المعنى الغريب أي الطريف النادر , كما دلّوا به على نزوع الشاعر إلى تسقط الغريب من الألفاظ اقتداراً , وإلى قريب من هذا ذهب النقاد المحدثون إذ ربطوا نزوع الشاعر إلى استعمال الغريب برغبته في الإغراب والتعجيب ورأوا أن استعمال الغريب لا يقل لطافة ودقة عن التشبيه والاستعارة , يقول أبو تمام :
خذها مغربة في الأرض آنسة *** بكل فهم غريب حين تغترب ([47]) . وقوله :
يغدون مغتربات في البلاد فما *** يزلن يؤنسن في الآفاق مغتربا ([48])
ويمكننا القول إن نزوع أبي تمام إلى الغريب يعود إلى عوامل ثقافية قوامها صلة الشاعر الدائمة بالشعر القديم , فالشاعر أبو تمام لم يرث المعاني وحسب , بل ورث ألفاظاً منها الفخم الجزل ومنها اللين السهل ومنها الكز الوعر .
وجاء تجديده منطلقاً من عناصر كامنة في تراثه الأصيل حيث أعاد إحياءها , فالغرابة والجناس والطباق والاستعارة عناصر فنية وجدت على قلة في أشعار القدماء فتناولها أبو تمام وأعاد خلقها فتحولت هذه اللمحات على يده إلى ملامح فنية وقواعد وأركان عليها يقوم شعره وبها تفرد . وقد تكون مدارسته للغريب وممارسته جعلت اللفظة التي نعدها أو يعدها عصره غريبة جعلتها مألوفة زالت عنها الوحشية فاستخدمها استخدام اللفظة المألوفة .
*= إسرافه في البديع :
ليس هذا فحسب بل نراه قد اتجه إلى البديع الذي كان أستاذه مسلم بن الوليد قد اتجه إليه من قبل , فمضى يزاوج بين الثقافة العقلية والبديع الفني ويمزج الألوان العقلية العميقة بألوان البديع المشرقة . ولكنه خالف مسلماً ومن سبقه من الشعراء من أصحاب البديع في شيئين يتصلان بهذا البديع : المبالغة الشديدة في البديع , والتعقيد .
يقول الآمدي : ( أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد ثم أتبعه أبو تمام واستحسن مذهبه , وأحب أن يجعل كل بيت من شعره غير خال من بعض هذه الأصناف فسلك طريقاً وعراً واستكره الألفاظ والمعاني ففسد شعره وذهبت طلاوته ونشف ماؤه ) .
ويقول ابن المعتز في طبقاته : ( كان مسلم صريع الغواني مدّاحاً محسناً مُفلقاً وهو أول من وسّع البديع لأن بشار بن برد أول من جاء به ثم جاء مسلم فحشا به شعره , ثم جاء أبو تمام فأفرط فيه وتجاوز المقدار )
وقال أيضاً في كتابه البديع : ( ثم إن حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شُغف به حتى غلب عليه وتفرغ فيه وأكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض وتلك عُقبى الإفراط وثمرة الإسراف )
ويقول الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن : ( وربما أسرف أبو تمام في المطابق والمجانس ووجوه البديع والاستعارة حتى استثقل نظمه واستُوخم رصفه )
*= والحق أن البديع عند أبي تمام تحول عن وظيفته التحسينية والتزينية إلى الوظيفة الإبداعية فلم يكن أبو تمام يستخدم ألوانه البديعية في صورة بسيطة وساذجة وإنما كان يشق على نفسه في استخدامها ويبذل في سبيل ذلك كثيراً من الجهد والعناء ونضح الجبين حتى تستقيم له على الصورة التي تحقق له مذهبه الفني . ومن هنا لم تكن هذه الألوان ترد في شعره بصورة عفوية , وإنما كان يقصد إليها قصداً ويتعمدها تعمداً ويحشدها حشداً في قصائده يقول أبو تمام ( [49]:
متى أنت عن ذهلية الحيّ ذاهل *** وقلبك منها مدة الدهر آهلُ
تُطلّ الطلول الدمع في كل موقف *** وتمثُل بالصبر الديار المواثلُ
دوارس لم يجفُ الربيع ربوعها *** ولا مرّ في أغفالها وهو غافل
فقد سحبت فيها السحائب ذيلها *** وقد أخملت بالنور منها الخمائل
أول ما نلاحظ أن أبا تمام يخالف تقاليد القدماء في مقدماتهم الطللية فهو لا يصور الأطلال موحشة مقفرة لا حياة فيها , وإنما يصورها وقد أقبل الربيع عليها وأخذ بوشيها بزخرفة وزهرة وخمائله حتى تحولت إلى جنة خضراء تموج بالخصب والحياة .
والأخرى الإفراط المبالغ فيه في استخدام الجناس ,فألوان الجناس تحتشد في كل بيت : ( ذهلية الحي و ذاهل – الطلول وتطل – المواثل وتمثل – الربيع والربوع – أغفال وغافل – سحبت وسحائب – أحملت وخمائل ) وهكذا تتكدس ألوان الجناس وتتزاحم في أبياته .
لكنه لا يعتمد على صبغ الجناس وحده , وإنما يعتمد على صبغ آخر هو التصوير الذي يسير مع الجناس , فالطلول تسكب الدمع كأنها فتاة باكية , والديار تتمسك بالصبر وتتجلد كأنها بشر والربيع يزور هذه الأطلال ولا يجفوها ويمر بها غير غافل عنها كأنه حي يدرك ويتصرف والسحائب تجرر أذيالها والخمائل تمد أهدابها بهذا الزهر الذي يكسوها ويوشيها .
*= والطباق عند أبي تمام ليس مجرد تقابل في المعاني , بل هو طريقة في التعبير عن العلاقات التي تحكم الوجود طريقة من طرق توليد المعاني ومنبعاً ثرياً من منابع شعرية النص
أبو تمام لا يستخدم الطباق استخداماً ساذجاً تقليدياً , ولا يجعل التضاد فيه تضاداً لفظياً فحسب وإنما يستخدمه استخداماً معقداً بما يلونه من ألوان عقلية مختلفة تجعل المقابلة المعنوية عنصراً أساسياً في الصورة إلى جانب المقابلة اللفظية على نحو ما نرى في أبياته الرائعة التي يصف فيها الربيع مستغلاً ظاهرة توافر الأضداد يقول ([50] ):
مطر يذوب الصحو منه وبعده *** صحوٌ يكاد من الغضارة يمطر
غيثان فالأنواء غيث ظاهر *** لك وجهه والصحو غيث مضمر
يا صاحبيّ تقصّيا نظريكما *** تريا وجوه الأرض كيف تصوّر
تريا نهاراً مشمساً قد شابه *** زهرُ الرّبى فكأنما هو مقمر .
انظر كيف يتلاعب بالألفاظ والمعاني , صورة المطر الذي يذوب منه الصحو , والصحو الذي يوشك أن يمطر , وصورة الغيث الظاهر الذي تدركه الحواس , والغيث المضمر الذي لا يدركه إلا العقل , ثم هذا النهار المشمس الذي يتدفق بالنور والضياء , والذي تراءى له ليلاً مقمراً لكثرة ما انتشر على صفحة الأرض فيه من زهر ونور ونبات .
ويقول أيضاً :
أُلبست فوق بياض مجدك نعمة *** بيضاء حلّت في سواد الحاسد ([51])
ترى طباقاً بين البياض والسواد , ولكنه ليس طباقاً خالصاً فقد انغمس في لون آخر هو لون التصوير إذ عبر عن غيظ الحاسد بالسواد ووصف نعمة صاحبه بالبياض , ولم يكتف بذلك بل جعل هذا البياض يسرع في السواد وينتشر فيه . وانظر إلى هذا البيت :
وأحسن من نور تفتّحه الصبا *** بياض العطايا في سواد المطالب ([52])
فقد استخدم الطباق ولكنه لم يكتف به بل أضاف إليه التصوير والحركة .
وانظر إلى قوله :
أظن الدمع في خدي سيبقى *** رسوماً من بكائي في الرسوم ([53])
فقد استعان على المشاكلة بهذا التصوير الغريب الذي يلتف عليها إذ جعل آثار الدمع في خده تشبه آثار ديار المحبوبة , وليس من شك في أن هذه طرافة في التصوير وكان يستعين بهذه الطرافة دائماً على لون المشاكلة حتى يعطيه جديدة . وانظر إليه يصف صواحبه :
لآلىء كالنجوم الزهر قد لبست *** أبشارها صدف الإحصان لا الصدفا ([54])
فهن لآلىء إلا أنهن متسربلات بصدف العفاف والطهر , وليس من شك في أنه صدف غريب غرابة وشيء الخدود في قوله :
وثنوا على وشي الخدود صيانة *** وشي البرود بمُسجف ومُمهد ([55])
فقد عبر عن زينة الخدود وما بها من حمرة وتلوين بهذا الوشي الغريب . بل كان تصويره يمتزج بألوان إبداعية بحيث لا تتجمع طائفة من صوره حتى تخرج لنا منها أصباغ تحاكي أصباغ الطيف ألواناً حسية ملموسة , فالسواد رمز للشر والظلمة والعتمة والبياض ابتهاج وفرح وانتصار والخضرة جمال وخير وسؤدد والذي يفجأ هو اصطباغ الألوان على غير ما ألفه المتلقي فالليل أخضر وهو بهذه أعني صورة الليل الأخضر تنم أول وهلة عن غرابة إذ أننا لو تتبعنا التدرج اللوني لهذا الليل قبيل الفجر لما وجدنا مثل هذا اللون في ألوان الطيف التي تبدأ مع أول خيوط الفجر , حينما يتسلل بهدوء بين خيوط الليل التي آلت إلى الخفوت هنا يبقى لنا أن تتبين رؤيا أبي تمام لوصف الليل بالخضرة إذ نجد أن هذا ربما انبعث من رؤيا متفائلة تكون قد طرأت على ما كان يجيش في صدره أو في صدر غيره من أن الليل أسود إذ أن هذه هي حقيقة مجردة . في حين أن أبا تمام لا ينطق بالحقائق كما هي بل يكسوها بجلباب من رؤيته الذاتية ويوشحها بديباجة من إبداعه من ذلك قوله :
لما بكت مقل السحاب حيا *** ضحكت حواشي خده الترب
فكأنه صبح تبسم عن *** سحر ضئيل في ضحى شحب ([56]).
في هذين البيتين نبض يتكرر فهو يصف الضحى بالشحوب في تداخل لطيف بين السحب الماطرة بكاء لتسقي الأرض المبتسمة جذلا ليدخل في نقلة زمانية لونية الصباح الضاحك الكاشف عن شحوب الضحى فنجد هذه المناقلات الزمكانية اللونية في صورة وألوان جديدة وكأنما هناك وشائج بين تلك القطرات المتساقطة بما تعكسه بلوراتها من صفاء لوني وبين الأسنان في نصاعتها وبياضها , وتلك الصورة المقابلة بين خد الترب ومقل السحاب فمثل هذه الصورة لتعجب من يتعمق فيها ويخط بذهنه قبل يده خطوطاً من التأثر العميق .
وهذه صورة أخرى رائعة من توافر الأضداد في وصفه للحريق في يوم عمورية , يقول([57] ):
غادرت فيهم بهيم الليل وهو ضحًى *** يشلّه وسطها صبح من اللهب
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت *** عن لونها أو كأن الشمس لم تغب
ضوء من النار والظلماء عاكفة *** وظلمة من دخان في ضحى شحب
فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت *** والشمس واجبة في ذا ولم تجب .
صور متعارضة ومتناقضة بين الليل الذي يتحول إلى ضحى والضحى الذي يطارده الصبح والدجى التي نزعت جلابيبها السود واستبدلت بها جلباباً أحمر من النار واللهب والشمس التي غابت ولم تغب , ثم هذا الضوء من النار الذي يطلع وسط ظلمات الليل فيحيله صبحاً مشرقاً وهذا الظلام من الدخان الذي يصبغ الضحى الشاحب بالسواد والقتامة فيحيله ليلاً بهيماً , ثم أخيراً هذه الشمس الطالعة الآفلة وتلك الشمس الآفلة الطالعة .
كل هذا يستخدمه أبو تمام ليلون به صوره وينشر فيها تلك الأضداد المتنافرة التي تتحكم فيها فكرة المقابلة والتضاد بين الألوان التي يستمدها من ظاهرة اختلاف ألوان الطبيعة التي تحولت من خلال رؤيته الجديدة إلى ألوان غير مألوفة تستمد أصباغها الغريبة من تلك المفارقة بين النور والظلام أو الصباح والليل وهي مفارقة ينشرها في براعة نادرة في كل جانب من جوانب لوحته الفنية . وخذ قوله ( [58]:
مجد رعى تلعات الدهر وهو فتى *** حتى غدا الدهرُ يمشي مشية الهرم .
فالدهر وهو فتى يتحول إلى دهر يمشي مشية الهرم فالمطابقة بين فتى وهرم جاءت مع الفن التصويري في { يمشي مشية الهرم }
ويجعل د / شوقي ضيف { نوافر الأضداد } جنساً بديعاً مستقلاً ويعني به الطباق الفلسفي القائم على التناقض والتضاد , وهو الطباق القائم على العمق والثراء الذهني والذي يقدم الصورة الفنية من خلال صراع هو في حقيقته لب الحياة وسرها الخالد . كقوله ([59]):
قد لان أكثر ما تريد بعضه *** خشنٌ وإني بالنجاح لواثق .
فالطباق بين { أكثر وبعض } وبين { لان وخشن } وكقوله ([60]):
لعمري لقد حرّرت يوم لقيته *** لو أن القضاء وحده لم يبرد .
فالطباق بين الحرارة والبرودة { حررت ويبرد } , وقوله ([61]:
وإن خفرت أموال قوم أكفهم *** من النيل والجدوى فكفّاه مقطع .
فيه الطباق بين { خفرت ومقطع } فالخفارة وهي الحراسة يقابلها القطع أي السرق والنهب . لكن لا نجد في الأبيات السابقة عمقاً فنياً في الصورة
*= ويكاد النقاد القدماء الآمدي وابن سنان وابن الأثير يجمعون على أن أبا تمام أسرف في طلب الجناس وأكثر منه في شعره وجعله غرضه , فمنه ما قرب فيه فأحسن وهو قليل ومنه ما أتى مستثقلاً غثاً بارداً فكان عبثاً لفظياً وهو كثير .
كثير من النقاد والبلاغيين يرون أن الجناس محسن لفظي عدا عبد القاهر الجرجاني الذي يرى أن للجناس وجهاً معنوياً يقول في أسراره : ( إن ما يعطي التجنيس من الفضيلة أمر لم يتم إلا بنصرة المعنى , وتلك النصرة إنما هي حسن الإفادة مع أن الصورة صورة التكرير والإعادة ) ففي الجناس يوهمك الشاعر أنه يعيد عليك نفس اللفظة ثم تفاجأ بأنه يقدم لك معنى جديداً .
وذهب عبد القاهر إلى أن أبا تمام قد أسلم نفسه للتكلف فاستكثر من الجناس وأولع به وقد ضرب لذلك مثلاً بقوله :
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت *** فيه الظنون : أمَذْهبٌ أم مُذْهَبُ ([62])
وانتقده قائلاً : ( لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفاً مكررة تروم لها فائدة فلا تجدها إلا مجهولة منكرة ) والفائدة عند الجرجاني لا تخرج عن تأكيد المعنى أو تحليته وتزيينه .
والإشكال إنما جاء من عدم الاعتداد باللفظ والعبور منه إلى المعنى والنظرة الصحيحة الحديثة للشعر وهي ما تؤيده نظرية النقد الحديث إنما تبدأ من الاعتداد باللفظ باعتباره بنية رمزية صوتية ومن هنا فإن العلاقات بين الألفاظ لا تقتصر على بعدها الدلالي الذي ينبع من مضمون الكلمة بل إنها قد تنطلق من الجرس الصوتي لها , ذلك أن الكلمات في الشعر عبارة عن ومضات تسري في تيار متصل وإيحاءات متلاحقة يتولد بعضها من بعض والشاعر يحيا في الألفاظ تحيط به من كل جانب تتجاذبه ويفضي به بعضها إلى بعض ويسلمه كل منها إلى الآخر وتصبح مهمته أن يتابع إيحاءات الكلمات وما يتولد عنها وأن يستغل القوة الإيحائية لجرس الألفاظ فيولد المعاني المختلفة التي تمكنه منها ثقافته باللغة وإدراكه لأسرارها , وأبو تمام في البيت الذي عابه عليه الجرجاني والآمدي وابن المعتز وسواهم وهو قوله :
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت *** فيه الظنون أمَذْهبٌ أم مُذْهَبُ
إنما يحيا في لفظ { ذهب } فيترامى به هذا اللفظ وما ينطوي عليه من الفناء والتلاشي إلى تلك إلى الثياب المذهبة التي تذهب من بين يدي الكريم حينما يمنحها لسائله والذهب يقتنص معنى الذهاب والفناء ثم تلتوي به الظنون لتقضي به إلى الجنون يتراءى في لفظ المذهب الذي تذهب القصص إلى انه أحد ولد الشيطان يعرض للمتطهرين فيوهمهم ان طهارتهم فاسدة فيعيدونها وبهذا تؤول السماحة إلى نوع من الإمعان في التطهر والحرص عليه إمعاناً يتجاوز حدود المعقول والمألوف .
والبيت بعد ذلك ينتزع من الكرم المأسوي فيه حينما يرتبط الكرم بالمال الذي تعبث به العطايا حتى ينتهي ذلك الجانب الذي انبثق منه الفصيل المهزول والكلب الجبان والرماد الكثير وجميعها تحمل معاني الغنى الذي يؤول إلى فقر ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالذهاب والفناء .
ولذلك يلتقي الكريم في ذهن أبي تمام وقد وقف صامداً وسط الفناء الذي يحيط به بالبارق يشق داكن السحب والكوكب يهتك دياجير الظلام ولهذا ترددت أصداء النكبة الجلل والحادث الداجي فيما تبع هذا البيت من أبيات يقول فيها :
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت *** فيه الظنون : أمذهب أم مذهب
ورأيت غرته صبيحة نكبة *** جلل فقلت : أبارق أم كوكب
متعت كما متع الضحى في حادث *** داج كأن الصبح فيه مغرب .
ومما عابه عليه العسكري والآمدي قوله :
إنّ من عق والديه لملعون *** ومن عقّ منزلاً بالعقيق ([63])
فقد عدّوه من التجنيس الذي بلغ الغاية في الركاكة والبشاعة والهجانة وذلك أنهم تلمسوا فيه معنى أصلياً أولياً وقعت منه الألفاظ موقع الزينة فلم يجدوه غير أن من شأن الاعتداد بألفاظ البيت وإعادة قراءته في جملة الأبيات التي ورد فيها من شأنه أن يكشف لنا أبعاد الرؤية التي تحرك كلماته يقول أبو تمام :
ما عهدنا كذا بكاء المشوق *** كيف والدمع آية المعشوق
فأقلا التعنيف إنّ غراما **** أن يكون الرفيق غير رفيق
واستميحا الجفون دّرة دمع *** في دموع الفراق غير لصيق
إنّ من عق والديه لملعون *** ومن عق منزلاً بالعقيق
فقفا العيس ملقيات المثاني *** في محل الأنيق مغنى الأنيق
إنّ أوّلَ ما يشد أسماعنا هو أن حرف القاف هو الصوت المحرك لهذه الأبيات فكما أنه كان بجرسه الفخم يشكل القرار الذي تنتهي إليه أصوات كل بيت فقد كان كذلك يتردد في ثنايا الأبيات بصورة جلية , وحسبه أنه تردد خمس عشرة مرة في الأبيات الخمسة الأولى السالفة وظل مسيطراً على القصيدة بكاملها .
كذلك فكرة العقوق والمنزل وما يشتمل عليه من إنكار لما يجب أن يكون وتنكر له تطالعنا من بدء القصيدة في صورة إنكار النحيب على المشوق مع أنه من علامات الحب والوله وفي صورة الرفيق الفظ العنيف مع أنه مأخوذ في الأصل من الرفق واللين , ولذلك دخلت شبهة الزيف على الدمع لأنه ورد في هذا الجو المشحون بالتناقضات فاشترط فيه أن يكون عريقاً وليس بدعي لصيق .
والصلة بين الوالدين والمنزل صلة وثيقة تمد جذورها إلى تلك الصلة العريقة بين الأم والأرض حينما تتراءى الأرض في نظر الإنسان الشاعر أماً حنوناً تحتضن البشر أحياء وأمواتاً .
وارتباط العقيق بالعقوق يمتد من الجرس الصوتي للفظتين إلى الأصل اللغوي للعقيق الذي هو اسم لكل مسيل ماء لأنه مأخوذ من عق السيل للأرض أي شقه لها وفتكه بها .
إننا ندرك أن الشاعر في البيت { إن من عق والديه لملعون … } يقرن بين عقوق الوالدين وعقوق منزل الأحبة في محاولة منه لإقناع عاذليه بأنه لم يخرج عما يجب حينما بكى واستبكى واستوقف على أطلال الأحبة لأن كل ذلك ينزل منزلة البر الذي لا ينفصل عن بر الوالدين يدرأ به الإنسان تهمة العقوق وما تستوجبه من اللعن .
قال الخارزنجي أحد شراح ديوانه : ويجوز أن يكون معناه رداً على عاذله الذين قالوا له أقصر من بكائك واخفض من صوتك فرد عليهم : ما نحيب المشوق على ما تصنعون وكيف يكون كذلك وإنما علامة المشوق نحيبه وكثرة بكائه وغزارة دمعه فأقلوا بتعنيفي وعذلي على ما ترون من ذلك وأسعداني عليه .. وتأمل قوله ([64]):
وركب يساقون الركاب زجاجة *** من السير لم تقصد لها كف قاطب
فقد أكلوا منها الغوارب بالسرى *** وصارت لها أشباحها كالغوارب
يُصرّف مسراها جُذيل مشارق *** إذا آبه همٌّ عُذيقُ مغارب
يرى بالكعاب الرود طلعة ثائر *** وبالعرمس الوجناء غرة آيب .
تهزنا الصورة الفنية التي استخدم فيها الشاعر أنواع البديع وتأخذنا روعة الاستعارة التي اتكأ فيها على تشخيص المجرد والحق أن أبيات أبي تمام هذه سكب فيها شيئاً وافراً من عبقريته وفنه وحقنها بصنعة من الجناس والطباق دون أن يؤثر في عمق صورها وثرائها وعلى الأخص بيتاه الأولان اللذان صور فيهما السير الشديد الذي يتعب المطي فكأنهم يسقونها خمراً
ثم ينتقل إلى الصورة الثانية في وصف شدة إنضائهم للركاب وكأن السرى قد أكل غواربها فصارت أشباحهم التي تتراءى للناظر كأنها أسنمة لهذه الركاب . وفي البيتين جناس بين ركب وركاب وترديد بين الغوارب والغوارب.
أما البيتان التاليان ففيهما شيء من التعمل وربما يعود السبب في هذا إلى كونهما بداية المدح والانتقال من المعاني الإنسانية العميقة كالحديث عن الأربع والملاعب والأحبة والدموع والفراق ثم وصف السير والركاب والعناء الشديد إلى ذكر قائد الركب ( ويعني نفسه ) فيصفه بحبه للأسفار والترحال وكرهه للاستقرار ويختم هذا بقوله :
كأن به ضغناً على كل جانب *** من الأرض أو شوقاً إلى كل جانب
*= وأما الرمز فولّده تفكيره العميق وكان يستعين على إحكامه بصبغين مهمين من أصباغ التصوير هما { التجسيم والتدبيج } إذ نراه يجسم معانيه العميقة في صور حسية لا يلبث أن يدبجها بألوان مادية يقول ([65]):
أبديت لي عن جلدة الماء الذي *** قد كنت أعهده كثير الطحلب
ووردت بي بُحْبُوحة الوادي لو *** خلّيتني لوقفت عند المذنب .
حيث رمز للكرم في البيت الأول بجلدة الماء , ذلك الماء الذي عهده الناس كدراً متغيراً , ورمز إلى ذلك بكثرة ما يعلوه من الطحلب , ثم انتقل مع الممدوح إلى بحبوحة الوادي وهكذا بدأ الغموض يتسلل إلى هذا الشعر ابتداء من قوة جلدة الماء حيث استعان بالرمز الذي دخل به الشعر في فك الإبهام والغموض .
كأنه يقول له إنك صفّيت لي العطاء وكنت أراه من غيرك كدراً وعسراً ولكن انظر كيف رمز لهذه الفكرة فإنك تراه يبدأ فيجعل للماء جلدة كما قالوا جلدة السماء وأديم الأرض ثم يستمر فيعبر عن الكدر والعسر بركوب الطحلب للماء ويصور نفسه مع ممدوحه في بحبوحة الوادي وقطع الرياض بينما غيره يقف به عند المذنب فلا يُنيله إلا الوشل القليل .
ويستخدم أبو تمام التدبيج للتعبير عن فكرة بعيدة كما في رثائه لابن حميد الطوسي وقد قتل في الحرب ([66]) :
تردّى ثياب الموت حُمراً فما دجى *** لها الليل إلا وهي من سندس خضرُ .
فقد جنح إلى التدبيج يستمد منه ما يريد من الرمز عن أفكاره ألا تراه يعبر عن قتل ابن حميد بتلك الثياب الحمر التي غرقت في أصباغ الدم , حتى إذا دجى الليل وأظلم القبر أبدله منها ثياباً سندسية خضراء ليعبر عن رضوان ربه . وسيأتي لهذا البيت بيان آخر .
واقرأ قوله ([67]):
إن الحمامين من بيض ومن سُمُر *** دَلْوَا الحياتين من ماء ومن عُشُب .
فقد جعل للحمام أو للموت لونين يختلفان باختلاف السمرة والبياض في ألوان القنا والسيوف واستمر فعبر عن الحياة بلونين فإما حياة عز بيضاء لا تشوبها شوائب الاضطهاد وإما حياة ذل تسودُّ الوجوه فيها وتضيق الصدور بأنفاسها يقابلان هذين اللونين السابقين وهما لونا الماء والعشب . وكل ذلك ليرمز عن أسباب الحياة والموت . ويستخدم التدبيج للرمز عن حوادث الدهر النحس منها والسعيد بتصويره لتلك المطايا من بيض وسود , فيقول ([68]) :
أما وأبى الرّجاء لقد ركبنا *** مطايا الدهر من بيض وسود .
ويحتلّ اللونان الأبيض والأسود مكان الصدارة بالنسبة إلى الصورة اللونية عنده , أما الأبيض فهو عنده رمز الإشراق والعطاء والصفاء والشرف , يقول ([69]) :
وَرْداً كتوريدِ الخدود تلوّنَتْ *** خَجَلاً وأبيضَ في بياضِ فَعالِهِ .
وأما الأسود فهو رمز القوة تارة ([70]) :
وقائعُ قد سَكبْتَ بها سواداً *** على ما احمَرَّ من ريشِ البريدِ .
ورمز للعار تارة أخرى, يقول في ذمّ الأفشين وبابك ومازيّار ([71]):
سودُ الثيابِ كأنّما نسجَتْ لهُمْ *** أيدي السُّمومِ مدارِعاً من قارِ .
ومن الطبيعي أن يرتبط السواد بالموت، فللموت وجوه سود وسيف أسود وقد يستخدم أبو تمام هذا اللون للإيحاء بحالة شعورية :
عادَتْ له أيّامُهُ مسودَّةً *** حتّى توهَّمَ أنّهُنَّ ليالي
إنه شعور بالإحباط واليأس والحزن، أوحاه إلينا الشاعر من خلال الصبغ الأسود الذي اصطبغت به أيامه. وهو شعور شبيه بذلك الذي يوحيه إلينا في قوله ([72]) :
إن شئتَ أنْ يَسوَدَّ ظنُّكَ كلُّه *** فأَجِلْهُ في هذا السوادِ الأعظمِ .
فاللون الأسود عند أبي تمام، ومن خلال الأمثلة المتقدمة، ذو قيمة سلبية بشكل عام . إنه رمز لكلّ ما هو مثير ومعادل للمشاعر والقيم السلبية.
وقد يُخضع أبو تمام هذين اللونين لفكره، فيستخدمهما معاً معبّراً بذلك عن فكرة التضاد التي طالما أولع برسمها. فإذا السواد يصبح بياضاً والبياض يصبح سواداً، وكأن اللونين مشتقان بعضهما من بعض ولا علاقة تضاد بينهما أصلاً.
يقول عبد العزيز سيد الأهل: ( إذا كان الضوء على قدر الحاجة انفتحت له العين واهتدت إلى السبيل، فإن سطع وبهر اختبأت الحدقة وراء الجفون وضلّت الطريق، وارتدّ هذا البياض سواداً، أو صار كالسواد الذي لا يُرى فيه شيء فالسواد، والحال هذه، بياض مبالغ فيه ) .
لقد أعجب الشعراء العباسيون المحدثون بهذا المعنى الفلسفي فذكره ثلاثة من أعلامهم : أبو نواس والمتنبي وأبو تمام . يقول الأخير :
رجلٌ بدا فملا المشارقَ نُورُهُ *** متهللاً كالجَونةِ البيضاءِ
يشرح عبد العزيز سيّد الأهل هذا البيت فيقول: ( يريد ذلك المعنى الفلسفي، وهو أنّ الإشراق في ممدوحه اشتدّ فسطع وبهر حتى عشيت العيون فيه فلم تره، فصار كأنه سواد، ولكن الأدب يترك هذا التوضيح لئلا ينزل عن منزلته وجودته الأدبية، فيشير له إشارات) . إلى هذا المعنى الفلسفي قصد أبو تمام في مطابقته بين البياض والسواد في معظم شواهده ([73]):
فقوَّمْتَ لي ما اعوجَّ من قصد همّتي *** وبيَّضْتَ لي ما اسْودَّ من وجهِ مَطلبي
وينفرد أبو تمام بذكر اللون البنفسجي، وهو أحد مركبات الأحمر، يتألف من مزيج الأحمر والأزرق , وهو عنده رمز المرارة ونقيض الحسن ([74]):
لها من لوعة البينِ التِدامٌ *** يعيدُ بنفسجاً وردَ الخدودِ .
والبنفسجي درجات، لكن أبا تمام، ومن خلال العلاقة القائمة بين هذا اللون ولون الورد يقصد البنفسجي المائل إلى الحمرة، ولعلّ هذا اللون أكثر انسجاماً مع المعنى النفسي الذي رمى إليه.
أمّا المعنى النفسي الذي يوحي به هذا اللون، فإن أهم صفة يدلّ عليها هي صفة الأنانية والشهوة . وقد عرفنا هاتين السمتين بارزتين عند أبي تمام .
وللأخضر قيمة جمالية متميّزة عند أبي تمام، فهو عنده رمز الإشراق والحبور عامة. ولكنْ تنضوي تحت راية هذا الرمز العام عدة دلالات رمزية، تقوم الخضرة بالإيحاء بها. فهي تارة رمز الشرف والرفعة، وتارة رمز الحياة. ولكنّها غالباً ما تكون رمزاً إلى الصفاء والعطاء. ومن نماذج الوظيفة الأولى قوله ([75]):
لا تَبْعَدَنْ أبداً ولا تبعُدْ فما *** أخلاقُكَ الخُضْرُ الرُّبا بأباعِدِ .
ومن نماذج الوظيفة الثانية قوله ([76]):
نَوْرُ العرارةِ نورُهُ ونسيمهُ *** نَشْرُ الخُزامى في اخضرارِ الآسِ .
وإنما ذكر الآس لأنه يوصف بدوام الخضرة وفي ذلك رمز إلى الحياة المتجددة المستمرة . وإذا ما انتقلنا إلى نماذج الوظيفة الثالثة (الصفاء)، فإننا نراها في مثل قوله ([77]):
صافي الأديمِ كأنّما ألبسْتَهُ *** مِنْ سُندُسٍ بُرْداً ومِن استبرَقِ .
وأما فكرة العطاء والجود فتظهر في قوله ([78]):
وإذ أنا ممنونٌ عليَّ ومُنْعَمٌ *** فأصَبَحْتُ من خَضْراءِ نُعماكَ مُنعِمَا .
وقوله في عطاء السماء ([79]):
كم أهدتِ الخضراءُ في أحمالِها *** للأرضِ من تُحَفٍ ومن ألطافِ .
وما تكرار الخضرة في القصيدة الأخيرة إلاّ تأكيد للصوق فكرة العطاء بهذا اللون:
وكأنَّني بالشَّدقَمِيَّةِ وسْطَه *** خُضْرَ اللُّهَى والوُظْفِ والأَخفافِ .
فالأخضر بالنسبة إلى أبي تمام يحمل في طياته قيمة رمزية إيجابية. فهو رمز الحبور والإشراق، بل إنّه رمز الحسن على الإطلاق ([80]) :
لمّا استقلّ بأردافٍ تُجاذِبُهُ *** واخضرَّ فوقَ جُمانِ الدُّرِّ شاربُهُ
أحلى وأحسنُ ما كانتْ شمائِلُهُ *** إذ لاحَ عارِضُه واخضرّ شاربُهُ .
*= والاستعارة مشكلة المشكلات في شعر أبي تمام ومحور الخلاف بينه وبين النقاد المحافظين المتأثرين بالذوق العربي القديم , يقول الآمدي : ( إن أبا تمام عدل في شعره عن مذاهب العرب المألوفة إلى الاستعارات البعيدة المخرجة للكلام إلى الخطأ والإحالة )
وأساس المشكلة كما يصورها الآمدي أن ( مذهب العرب في الاستعارة أنها تستعير المعنى لما ليس له إذا كان يقاربه أو يدانيه أو يشبهه في بعض أحواله أو كان سبباً من أسبابه فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه )
والمشكلة أن النقاد القدماء وقفوا عند أحكام معينة ومعايير فكرية محددة سلكت بهم مسلكاً خاصاً في تناول صوره الشعرية وأدت بهم إلى تصور محدد لمفهوم الاستعارة والتشبيه ودورهما في القصيدة فقصرت عن استيعاب اللغة الشعرية عند أبي تمام ولعل مرد ذلك إلى عوامل منها : الجمود على المعنى الوضعي للكلمة , فلم يكن الآمدي وغيره يدركون أن الألفاظ تحمل في طياتها إمكانيات للمعاني لا تتحدد إلا في السياق وأن المعنى ليس سوى محصلة لتشابك العلاقات بين ألفاظ التركيب .
وكذلك لم يكونوا يتصورون أن الشاعر يبدأ عمله بتدمير الدلالة المعهودة في اللفظ ليبعث فيه الحياة مرة أخرى من خلال تركيب لغوي جديد يفجر كل الإمكانات الكامنة فيه ويعيد إلينا الوعي الكلي بالأشياء ذلك الوعي الذي كان يتسم به الإنسان الأول حينما كانت تسميته للشيء تتضمن خلاصة تجربته الوجدانية معه , وحينما يستخدم الشاعر الكلمة يحطم الدلالة الوضعية لها ليطلق ما يكمن فيها من طاقات شعرية ولذا يصبح الشعر موت للغة وحياة لها في نفس الوقت .
ومن العوامل التي أدت إلى التقصير في تناول الصورة في شعر أبي تمام اعتبار الخيال الذي يعد أصل الصورة تاليا للمعنى العقلي ثم أخذ الاستعارات على أنها نقل للفظ لا تخرج به عن حدوده العقلية وتجزئتها على وجه لا تتضح فيه وظيفتها في الشعر فلا تخرج عن كونها مجالاً لتحسين المعنى الأصلي وتزيينه أو التدليل عليه وتبريره وبذلك تفقد أصالتها .
حينما قال أبو تمام ([81]):
لا تسقني ماء الملام فإنني *** صبٌ قد استعذبتُ ماء بكائي .
فإنه وضع سامعيه في حيرة تساوت فيها سذاجة من حمل إليه إناء ليملأه مع سفسطة من استنكر أن يعبر أبو تمام عن الشيء المر بالماء العذب , وابتدأ الإشكال حينما فصل بين أجزاء التركيب فنظر إليه على أنه { ماء } أضيف إلى { الملام } , ولم يكن لفظ الماء يعني لديهم أكثر من ذلك السائل الذي نشربه إذا أحسسنا بالعطش فكان الصعب التوفيق بينه وبين الملام واكتشاف العلاقة التي تربط بينهما .
حاول الصولي تبرير هذا التركيب بأنه لتحسين البيت بإيراد لفظ الماء في أوله كما جاء في آخره ([82]) , وتبعه في ذلك الآمدي وأضاف أنه لما كان في مجرى العادة أن يقول القائل أغلظت لفلان القول وجرعته كأساً مرة أو سقيته منه أمرّ من العلقم وكان الملام مما يستعمل فيه التجرع على الاستعارة جعل له ماء على الاستعارة .
إلا أن ابن سنان الخفاجي رفض استساغة هذا الاعتذار رغم اعترافه أنه أقرب التبريرات إلى الصحة لأنه كان يرى أن الاستعارة إذا بنيت على استعارة بعدت , وإن اعتبر فيها القرب فماء الملام ليس بقريب وإن لم يعتبر فيها لم ينحصر وبنى على كل استعارة استعارة وأدّى ذلك إلى الاستحالة والفساد . وكذلك رفض ابن سنان ما ذهب إليه الصولي من قياس { ماء الملام } على ماء الشباب فقال : المراد بماء الشباب الرونق كما يقال ثوب له ماء .
ويقصد بذلك رونقه ولا يحسن أن يقال ما شربت أعذب من ماء هذا الثوب كما لا يجمل أن يقال ما شربت أعذب من ماء هذه القصيدة لأن هذا القول مخصوص بحقيقة الماء لا بما هو مستعار له . وأبو تمام بقوله : { لا تسقني ماء الملام } ذاهب عن هذا الوجه على كل حال , ثم لا يجوز أن يراد هنا بالماء الرونق لأن الملام لا يوصف بذلك وإنما يذم ويستقبح ولا يحمد ولا يستحسن ([83]).
أما ابن الأثير فقد عد { ماء الملام } من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم وهو قريب من وجه , بعيد من وجه , ثم فسر ابن الأثير ما ذهب إليه قائلاً : ” أما سبب قربه فهو أن الملام هو القول الذي يعنف به الملوم لأمر جناه وذاك مختص بالسمع فنقله أبو تمام إلى السقيا التي هي مختصة بالحلق كأنه قال : لا تذقني الملام ولو تهيأ له ذلك مع وزن الشعر لكان تشبيهاً حسناً لكنه جاء بذكر الماء فحط من درجته شيئاً , وأما سبب بعد هذا التشبيه فهو أن الماء مستلذ والملام مستكره فحصل بينهما مخالفة من هذا الوجه “([84] )
يتضح مما سبق أن الماء لدى النقاد السابقين له حقيقة محددة ودلالته لا تخرج عن الرونق الذي ينسجم مع حقيقته والملام إنما يذم ويستقبح ويستكره ولا يمكن أن يحمد وبهذا تتنافر أطراف التركيب تنافراً تأباه المعايير البلاغية لقياس سلامة الاستعارة .
ولم يستطع ناقد معاصر كمحمد مندور أن يفلت من هذا الجمود على المعنى الوضعي للكلمة والخضوع له في تناول الشعر فهو يستنكر التنافر في تركيب { ماء الملام } متسائلاً : كيف يعبر عن هذا الشيء المرّ بالماء العذب ؟ !! قائلاً : إنّ أبا تمام لا يتصور من كل ذلك شيئاً ولا يحس بشيء وإنما هي صنعة باطلة ثم كيف يقاس ماء الملام بالكأس المرة ؟ بل كيف يكون للكلام ماء ؟ وبعد أن رفض د / مندور ما ذهب إليه الصولي والآمدي في الاعتذار لأبي تمام قال : إنما النقد الصحيح هو أن أبا تمام قد أراد البديع فخرج إلى المحال وقد ذكر ماء البكاء فكان لا بد له وفاء للبديع ورداً للأعجاز على الصدور أو رداً للصدور على الأعجاز من أن يذكر ماء الملام وهذا سخف يدل على الإسراف وصفاقة الذوق عند أبي تمام وعند ناقديه([85] ).
وليس الأمر كما بدا لمندور ولكنها روح كلية تهيمن على القصيدة بأكملها فتسم معالمها بطابع السهولة حتى يكاد ينضح كل بيت من أبياتها ماء يتراءى أحياناً في الدجنة الوطفاء التي انحل فيها خيط كل سماء في قوله ([86]):
ومعرّس للغيث تخفق بينه *** رايات كلّ دجنة وطفاء
نشرت حدائقه فصرن مآلفا *** لطرائف النواء والأنداء
فسقاه مسك الطّلّ كافور الصبا *** وانحلّ فيه خيط كل سماء .
ويتجلى تارة أخرى في السلافة التي عندما مزجت تعلمت من حسن خلق الماء ([87]):
صعبتْ وراض المزج سيء خلقها *** فتعلّمتْ من حسْن خَلْق الماء .
وتارة ثالثة في القلب الذي تفجرت فيه ينابيع الوعد فظلت تحوم عليه طيور الرجاء ([88]):
لمّا رأيتك قد غذوت مودّتي *** بالبشر واستحسنت وجه ثنائي
أنبطتُ في قلبي لوائك مشرعا *** ظلّت تحوم عليه طيرُ رجائي .
وإذا وقفنا وقفة تأمل عند قوله :
لا تسقني ماء الملام فإنني *** صبٌ قد استعذبتُ ماء بُكائي
فإننا نلاحظ أن قوله : { إنني صبٌ } الذي توسط شطري البيت هو الذي فجر الماء في كلا الشطرين ذلك أن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين الصبابة والسيولة حتى إن معاني الصبابة تمتد لتشمل الماء والعرق والدم والعشق وكثيراً ما ارتبطت الصبابة بالبكاء حتى عدّ أبو تمام في بعض شعره الزفرات حقاً من حقوق الصبابة فقال ([89]):
ومن زفرة تعطي الصبابة حقها *** وتوري زناد الشوق تحت الحشا الصّلد .
فمن سمات الصب أن يكون باكياً سائل الدمع ومن هنا تولدت فكرة استعذاب الصب للدمع واستمرائه له . وفكرة الاستعذاب هذه هي التي أحالت الدمع إلى ماء أو جعلته يسمي الدمع ماء . وما دام الدمع قد استحال إلى ماء يستعذب فإن من شأنه أن يحقق الارتواء والاكتفاء ولذا يرفض الشاعر كل لوم يحول بينه وبين هذا الماء المستعذب , غير أن سيطرة فكرة الماء الذي تفجر في ماء البكاء أحال قوله : { لا تلمني } إلى { لا تسقني } لأنه مرتو بماء بكائه , واللوم من شأنه ان يحرمه من هذا الماء ومن هنا تفجر الماء في لفظ الملام .
ونعود إلى جدلية الألفاظ التي لعبت دوراً بارزاً في تكوين العلاقات بين ألفاظ الأبيات فماء البكاء وهو الدمع المر المذاق يصبح مستعذباً سائغاً , والملام الذي يرتبط عادة بالقسوة والشدة يتفجر منه الماء وهذه الضدية تطل علينا في القصيدة نفسها في السلافة الضعيفة القاتلة ([90]):
وضعيفة فإذا أصابت فرصة *** قتلتْ كذلك قدرة الضعفاء .
وفي النار والنور اللذين قيدا بوعاء ([91]:
فكأن بهجتها وبهجة كأسها *** نارٌ ونورٌ قُيّدا بوعاء .
وإذا عدنا مرة أخرى إلى قوله { ماء الملام } الذي حير النقاد فإن علينا أن نعلم أن إدراكنا للماء لا يتأتى بفصله عن الملام كما لا يتأتى إدراك الملام بعد فصله عن الماء فالعلاقات المتبادلة بين الألفاظ هي التي تحدد المعنى وتوضح أبعاده وعندئذ لا يغدو لفظ الماء مجرد إشارة إلى ذلك السائل الذي لا يختلف اثنان في إدراكه , وإنما هو رمز يحتضن تجربة الإنسان الأولى فالماء يحتضن الحياة كما يحتضن الموت ويفضي إلى الأمرين جميعاً فقد ينعم به الإنسان غيثاً يهبه الحياة وقد يعانيه سيلاً يجتث كل معالمها .
وبالتالي فعندما قال أبو تمام { ماء الملام } فقد كان يفجر في الماء كل هذه الطاقات الكامنة فيه مقاوماً بذلك الإلف والعادة التي كانت تؤخذ بمقتضاها اللفظة فلا تخرج عن معناها الدارج إلى شيء آخر . ومن الاستعارات المستمدة من الماء قوله ([92]):
كأني حين جرّدت الرجاء له *** عضبا صببت به ماء على الزمن .
وهي مما استهجنه الآمدي من استعاراته التي عدها في غاية الغثاثة والهجانة والبعد عن الصواب ([93]) .ووصفها القاضي الجرجاني بأنها مما يُصدئ القلب ويعميه ويطمس البصيرة ويكد القريحة([94]) غير أن الماء هنا تتفجر في معالم القتل والفتك ويغدو وسيلة للقهر والسيطرة والتمكين فطالما قاوم به الإنسان الموت وتغلب على الهلاك فكان سفينته إلى النجاة ووسيلته إلى الخلاص .
إن الغموض الذي يضفيه الماء على ما يضاف إليه من ملام أو ضلال أو دهر أصل من أصول مذهب أبي تمام الشعري تبدو فيه الأشياء شاحبة باهتة فقدت معالمها المادية الصارمة وحدودها العقلية المجردة وتمردت على ما جرى عليه العرف وأخذ به في العادة فارتفعت إلى أفق شعري يأخذ طابعاً مغايراً للواقع وربما كان مخالفاً له ومتناقضاً معه . وهذا أحد أسباب رفض النقاد في عصره وفي غير عصره لكثير من استعاراته وصوره وإمعانهم في هذا الرفض .
والمقرر عند علماء البلاغة أن الاستعارة تقوم في أساسها على التشبيه بين المستعار له والمستعار منه لكن أبو تمام خرج على هذا المذهب , ومن هنا انكروا عليه قوله ([95]):
راحت غواني الحي عنك غوانيا *** يلبسن نأياً تارة وصدودا .
وقالوا إن النأى والصدود لا يلبسان إذ لم يعرف عن العرب أنهم شبهوهما بالثياب .
ويقول الآمدي : ومن أخطائه ([96]):
دعا شوقُه يا ناصر الشوق دعوة *** فلّباه طل الدمع يجري ووابله .
أراد أن الشوق دعا ناصراً ينصره فلباه الدمع بمعنى أنه يخفف لاعج الشوق ويطفئ حرارته وهذا إنما هو نصرة للمشتاق على الشوق , والدمع إنما هو حرب للشوق لأنه يثلمه ويتخونه ويكسر حده .
وقال المرزوقي في توجيهه : ( ويجوز أن يكون أراد بناصر الشوق الحزن لأنه يضرم ناره ويثير ما كمن منه ويهيج ساكنه فيكون المعنى أن الشوق دعا ماله واستغاث به وهو الحزن فأجابه ما عليه وكان خاذله وهو البكاء , وقد صرّح أبو تمام بهذا المعنى فيما قبله فإنه قال :
لقد أحسن الدمع المحاماة بعدما *** أساء الأسئ إذ جاور القلب داخله
ويجوز أن يكون أراد بناصر الشوق : يا ناصراً على الشوق , وجاز إضافته إليه على طريقتهم في إضافة الشيء إلى الشيء كان له أو عليه أو منه أو به أو معه وهذا مشهور عند أهل العربية ) ([97]) . وأنكروا عليه قوله في الرثاء ([98]):
أنزلته الأيام عن ظهرها من *** بعد إثبات رجله في الركاب .
لأنهم رأوا في تلك الأيام التي يرسمها في صورة مطية تُركب , ويثبت الراكب رجله في ركابها صورة غريبة غير مألوفة لدى العرب لأن العرب لم يشبهوا الأيام بالمطايا . ومن استعاراته قوله ([99]):
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر *** وغدا الثرى في حلية يتكسر .
يشخص الدهر ويتمثله بشكل حسي في الحواشي الرقيقة فكأنه عروس تتثنى في حليها وتنكسر في زينتها وهي صورة حسية بصرية مجسدة . وأخذوا عليه قوله ([100]):
رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه *** بكّفيك ما ماريت في أنه بُرْدُ .
فقد أكثر النقاد القدماء من تشنيعهم عليه فذهب الآمدي إلى أن أبا تمام قد أخطأ فلا أحد من شعراء الجاهلية والإسلام وصف الحلم بالرقة وإنما يوصف بالعظم والرجحان والثقل والرزانة وإذا ذموا الحلم وصفوه بالخفة فيقولون خفيف العلم وطائشه , وكذلك أخطأ أبو تمام لأنه وصف البرد بالرقة وهو لا يوصف بذلك وإنما يوصف بالمتانة والصفاقة .
وفطن المرزوقي إلى أن الرقة في هذا البيت نقيض للغلظ وهو الفظاظة والقسوة , فالرقة في البيت تقوم مقام اللطف .
والجدير بالملاحظة أن النقاد والشراح قد أخذوا الحلم في بيت أبي تمام على أنه مرادف للعقل والأناة ولذلك استقبحوا أن يوصف بالرقة ولم يدركوا أن الحلم هنا حالة نفسية تدل على التسامح والعفو والصفح وذلك يتضح من خلال مقابلتها في البيت التالي بالشدة والفتك في قوله ([101]):
وذو سورة تفري الفرىّ شباتها *** ولا يقطع الصّمصام ليس له أحد .
وإذا أصبحت السماحة والعفو وقمع الغضب من أقوى مقومات الحلم تجلت لنا رمزية البرد الذي وصف به الحلم لما بين العفو والبرد من ارتباط وثيق فمن شأن البرد إذا اقترن بالحلم أن يجعله يرق حتى تحويه الكفان وأن يصبح له حواشي وأطراف وكل ذلك تربطه شبكة من العلاقات الضدية مع البيت الذي تلاه وهو قوله :
وذو سورة تفري الفرىّ شباتها *** ولا يقطع الصّمصام ليس له أحد
فاللين والتسامح يقابله الشدة والفتك والحلم الذي ترق حواشيه تقابله السورة التي تفري شباتها وإذا كان الحلم قد آل إلى برد رقيق الحواشي فالسورة لم تلبث أن آلت إلى سيف قاطع فصرامة السيف تقابل رقة البرد ومن خلال هذه العناصر المتقابلة تتحدد الأبعاد الشعرية للأخلاق العليا المثالية للإنسان وهذا التقابل عنصر أصيل في إبداع أبي تمام الشعري .
وهذه استعارة قائمة على التجسيد يقول ([102]):
أخاف فؤاد الدهر بطشك فانطوت *** على رعب أحشاؤه وأجنّت .
صورة شديدة الرعب قامت على التجسيد حيث جسد الدهر وشخصه في صورة مخلوق له فؤاد وأحاسيس فمن شدة هلعه انطوى على نفسه وأحشائه فهي صورة غريبة عنا , كيف لنا أن نتخيل ذلك الشيء الحسي أو المعنوي بأنه شيء مادي يحس ويخاف ؟
ومن روائعه قوله ([103]):
مطر يذوب الصحو منه وبعده *** صحو يكاد من النضارة يقطر .
هذه استعارة أخرى فائقة يصف فيها الشاعر فتنة الربيع بأنه مجمع الضدين الصيف في الصحو والشتاء في مطر فالصيف يتراءى في طقسه والشتاء يتراءى في زهرة بل إن المطر في الربيع ليحمل بين أطوائه الصحو المشرق الجميل كما يحمل الصحو بترطيبه للجو نضرة المطر إن هذه صورة غريبة من المطر الذي يذوب منه الصحو والصحو الذي يذوب منه المطر .
واستعار الشاعر للمطر صفة الذوبان وكأن للمطر قابلة للذوبان , وكيف جعل ذلك الصحو من شدة النضارة يقطر ماء ومطرا إنها فلسفة وعقلية أبي تمام الذي ربط بين الصحو والمطر .
وهذه استعارة أخرى يتحدث أبو تمام فيها عن وقعة عمورية فيقول ([104]) :
يا يوم وقعة عمورية انصرفت *** عنك المنى حفلا معسولة الحلب .
صورة استعارية غريبة فقد استعار أبو تمام الحفل للمنى فأصبحت المنى تشبه بالتي حفل ضرعها باللبن وهو بذلك اراد ان يوضح أن عودة المسلمين هو انتصار حقق رغائبهم وأتم سرورهم فقال ([105]):
حتى إذا مخض الله السنين لها *** مخض البخيلة كانت زبدة الحقب .
هذه المدينة صارت كالزبدة وأتى المعتصم ففتحها وهو في هذا البيت استعار المخض للسنين وجعله مخض البخيلة لأنها أشد اجتهاداً من السمحة فهي تطيل مدة المخض . ومن خلال هذه الاستعارة نجد أن الشاعر قد شبه جمع الله السنين وإظهارها باللبن الذي يظهر من الثميلة لتصبح عمورية زبدة الدهور .
قال الخطيب التبريزي : ( إن هذه الاستعارة التي استعملها أبو تمام لم تستعمل قبل الطائي ) . ويقول المعري : ( هذه استعارة لم تستعمل قبل الطائي , والمعنى : حتى إذا جمع الله خيرات السنين وأظهرها فيها فصارت هذه البلدة زبد السنين أتتهم الكربة )
*= مطالع قصائده :
هناك مطالع في شعر أبي تمام استهجنها القدماء رغم ما فيها من جدة وإبداع , وهناك مطالع إبداعية استحسنها النقاد . ومن المطالع التي عابها النقاد والدارسون ورأوا أنها لا تليق بشاعر فحل كأبي تمام هي قوله([106] ):
أهن عوادي يوسف وصواحبه *** فعزما فقدما أدرك السُّؤل طالبه .
والبيت مطلع قصيدة طويلة تبلغ {44 بيتاً } قالها في مدح أبي العباس عبد الله بن طاهر , وهي مقدمة تقترب من مقدمة الفروسية والشجاعة , وفيها يتحدث عن النساء اللائي أكثرن من عذله في شعره ويرى أن رأيهن غير صالح وهن يغررن بمن يسمعهن فيصير إلى ما صار غليه يوسف بن يعقوب عليه السلام – فكيد النساء أوقع به ورماه في السجن ولهذا عليه ان يمضي في عزمه ولا ينصت إليهن حتى يدرك النجاح .
وقد درس القدماء بنية البيت ونبهوا إلى مواطن الوهن فيه فقالوا : ( إن ما جعله رديئاً قوله : { أهن } فابتدأ بالكناية عن النساء ولم يجر لهن ذكر قبل , ثم قال : { عوادي يوسف } ومعناه : صوارف , أراد هن صوارف يوسف , وصوارف هنا لفظة ليست قائمة بنفسها ؛ لأنه يحتاج أن يعلم صوارفه عن ماذا ؟ واللفظة القائمة بنفسها أن لو قال : { فواتن يوسف } أو { شواغف يوسف } وكأنه أراد صوارف يوسف عن تقاه أو عن هداه إنما يتم المعنى بمثل هذه الأوصاف لو وصلها بها , ثم ألحق بيوسف التنوين فجاء بثلاثة ألفاظ متوالية كلها رديئة في موضعها )
والمطلع في نظر القدماء يجب ان يكون محكم الصياغة متين البنية خال من الوهن مشرق الديباجة شريف الألفاظ خال من المعاظلة يسبق معناه لفظه , واستهلال أبي تمام المذكور بني بشكل يجعل الوصول إلى معناه متعباً والكشف عن فحواه مضنياً ويجعل مبناه صعباً غير مستساغ وطريقة الترتيب غير معهودة . فهل نشك في قدرته وفي شاعريته وفي تمكنه من اللغة وأساليب البيان , وهو من هو ؟
والحق أن بداية المطلع باستفهام أمر شائع في مطالع الشعر العربي القديم , وظاهرة مطردة كقول زهير بن أبي سلمى في مطلع معلقته :
أمن أم أوفى دمنة لم تكلّم *** بحومانة الدراج فالمتثلم
وقول عنترة بن شداد :
هل غادر الشعراء من متردم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم ؟
وقول المسيب بن علس :
أرحلت من سلمى بغير متاع *** قبل العطاس ورعتها بوادع ؟
فالاستفهام في مطلع أبي تمام استفهام غير حقيقي خرج للتقرير وهو يكشف عن قناعة ثابتة ويقين لا يتزعزع في أن من يعذلنه في شعره مثلهن مثل صويحبات يوسف بن يعقوب يمكرن به ويوصلنه إلى ما لا تحمد عقباه .
أما ابتدأوه بالضمير { هن } كناية عن النساء ولم يسبق لهن ذكر من قبل , واعتبار ذلك عيباً أخل بالمطلع وشوهه فالأمر أيضاً يحتاج إلى بعض التروي والدراسة المتأنية .
إن الضمير يقوم مقام الاسم الظاهر والغرض من الإتيان به هو الاختصار . والضمير المنفصل كما هو الشأن في { هن } يصح الابتداء به , وإن ضمير الغائب لابد له من مرجع يرجع إليه وإلا كان غامضاً قاصراً وهو ما اتهم به أبو تمام .
فأبو تمام لم يخرج عن الأساليب العربية في مطلعه لأن سياق الكلام يعين الضمير الذي وظفه ويوضحه وهو لا يحتاج إلى مذكور قبله لفظاً أو معنى لكي تفهم دلالته .
قال تعالى : ( واستوت على الجودي ) فالضمير يعود إلى غير مذكور لفظاً ولا معنى ولكن سياق الكلام يعينه ويضحه وهو العود إلى سفينة نوح المعلومة .
ومن هنا فأبو تمام لم يوظف الضمير على أساس انه كناية عن النساء ولم يجر لهن ذكر قبل وإنما وظفه لأن السياق يوضح المعنى ويجعل الضمير دالاً على النساء وإن لم يجر لهن ذكر , ويكون إيجازه مقبولاً وجارياً على سنن العربية .
وأما نقدهم الذي وجهوه إلى { عوادي } على أنها ليست قائمة بذاتها لأنها بمعنى صوارف , فإذا قلنا : صوارف يوسف فإن الكلام غير تام لأننا نحتاج إلى معرفة صوارفه عن أي شيء ؟ فقوله : { عوادي يوسف } غامض وغير تام .
والصواب أن الكلمة لا تعني صوارف كما وهم النقاد وإنما تعني المصائب والنوائب , فالنساء اللائي كدن ليوسف ومكرن به حتى أصابه ما أصابه من شر هنّ في الحقيقة مصائب حلّت بيوسف – عليه السلام – وإضافة كلمة { عوادي } إلى يوسف جاء للتعريف بنوعية المصائب وتحديدها وعزلها عن بقية المصائب ونسبتها إلى شكل معين يرتبط بهذه الشخصية
واعتبار تنوين { يوسف } خطأ فهو تشدد من الناقد ومغالاة منه لأن الأصل في الأسماء الصرف وكل ما فعله الشاعر هو انه أعاد الاسم إلى أصله وذلك ليس بعيب .
أما الشطر الثاني من المطلع فهو عويص لا يفصح عن معناه إلا بإعمال الفكر وكدّ الذهن , ويروى أن أبا سعيد المكفوف لما رفعت إليه هذه القصيدة اغتاظ وقال للكاتب : ألقها , أخزى الله حبيباً يمدح مثل هذا الملك الذي فاق أهل زمانه كمالاً بقصيدته يرحل بها من العراق إلى خراسان فيكون بيت نصفه مخزوم والنصف الثاني عويص .
وقد ابتدأه بمصدر نائب عن فعله والتقدير { اعزم } وهو أسلوب إنشائي طلبي يفيد النصح والحث على العزم الصادق والإرادة الصلبة .
وهناك تشابه في الأسلوب بين بداية الشطر الأول وبداية الشطر الثاني وتشابه في الإيجاز الذي يدفع المتلقي إلى إعادة بناء العبارة للوصول إلى الدلالة .
وقد أنهى هذا الشطر بجملة تأخر فيها الفاعل عن المفعول به لاتصاله بضمير يعود على المفعول به لذا وجب تقديمه .
إن من أهم خصائص هذا المطلع :
*= الإيجاز وفيه يعتمد الشاعر على ثقافة المتلقي وجهده للوصول إلى الدلالة . ويظهر هذا الإيجاز في شكل إحالة تاريخية تثري النص وتكثفه وظفها أبو تمام في مطلعه توظيفاً جيداً فأصبح عبارة عن فسيفساء من نصوص وتعالق نص قديم مع نص محدث بتقنية من صاحبه وقد أطلق المحدثون على هذه الإحالة اسم التناص
إن الشطر الأول من المطلع يحيلنا ببراعة إلى نص تاريخي ديني هو جزء من قصة النبي يوسف – عليه السلام – وهو مكر النساء به وأثر ذلك المكر وما سببه له من مصائب , ولعل هذا النص استطاع أن يظهر التلاحم بين حاضر الشاعر المتمثل في النساء اللائي يعذلنه ويرى أنهن سيسببن له المتاعب ويقدنه إلى الهلاك وبين قصة تاريخية دينية كانت النساء فيها عامل إذلال ومصدر متاعب .
*= صعوبة الوصول إلى المعنى إلا بعد مشقة ومعاناة ومرد ذلك في تقديري يعود إلى كيفية تعامل الشاعر مع اللغة وطريقة تشكيلها حيث اعتمد على السياق في لفظة { أهن } والإحالة في { عوادي يوسف } والحذف في المصدر النائب عن فعله { فعزما } والتقديم والتأخير في قوله : { فقدماً أدرك السؤل طالبُه } والاعتماد على الأسلوب الإنشائي الطلبي في الشطر الأول في الاستفهام غير الحقيقي الذي خرج إلى معنى بلاغي يفهم من السياق , وفي بداية الشطر الثاني في المصدر النائب عن فعل الأمر الذي خرج من الحقيقة إلى معنى بلاغي آخر . هذا كله يجعل المطلع عسر الفهم لا يفصح عن معناه إلا بعد كد وعناء .
*= المطلع الثاني :
ومن المطالع التي انتقدت قوله في رثاء محمد بن حميد الطائي ([107]) :
كذا فليجلّ الخطبُ وليفدح الأمرُ *** فليس لعين لم يفض ماؤها عُذرُ .
وعيب منه هذا الاستهلال لأن المعنى يتطلب أن يكون المرثي موضوعاً أمامه ليقول : { كذا فليجل الخطب } وهو أمر مستهجن وقبيح ووصف بعضهم هذا بالبشاعة .
يقول المرزباني : ( وكانت ابتداءات شعره بشعة منها قوله : كذا فليجل الخطب …. قال : وكان بعضهم يقول : يلزم أبا تمام أن يأتي بمحمد بن حميد مقتولاً ثم يقول : كذا فليجل … )
وهو استهلال ثقيل بسبب طريقة تعامل الشاعر مع اللغة وتشكيله لها فهي لغة صحيحة سليمة ولكن ليس فيها سلاسة وتدفق ينقصها الطبع والرشاقة فالابتداء باسم الإشارة الذي دخلت عليه كاف التشبيه وإرادفه بفعل مضارع مثقل يجعل التركيب مصنوعاً غير جزل ثم عطف بالواو { وليفدح الأمر } فجمع ثقلاً إلى ثقل وكان كلامه أشبه بالنثر .
يقول صاحب الموشح : ( لم يكن أبو تمام شاعراً إنما كان خطيباً وشعره بالكلام أشبه منه بالشعر ) إن أهم ما في الشعر العذوبة والرشاقة والانسجام والصورة وبراعة الإيحاء .
والإيحاء الذي نكتشفه في هذا المطلع إيحاء سلبي لم يراع الموقف ومقتضى الحال وبخاصة في ابتدائه بـ { كذا } . وقالوا : لا يقال : { كذا فليكن } إلا في السرور . وهو استعملها في الحزن . وجاء في الموشح إن بعضهم قال : { رأيت أبا تمام في النوم فقلت : لم ابتدأت بقولك : كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر . فقال لي : ترك الناس بيتاً قبل هذا , إنما قلت ([108]):
حرام لعين أن يجف لها شفر *** وان تطعم التغميض ما أمتع الدهر .
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر…
*= المطلع الثالث : قوله : ([109])
قدك اتئب أربيت في الغلواء *** كم تعذلون وأنتم سجرائي ؟
يخاطب أبو تمام صديقاً حقيقياً أو موهوماً ويلتمس منه ان يكف عن عذله وعتابه في الحب لأنه اسرف في ذلك وتجاوز الحد وبخاصة أن هذا الذي يعاتبه هو مثله في الحب يكابد مثل ما يكابد ويعاني ما يعاني فلم يلومه ويسرف ؟
وهو مطلع متكلف ثقيل على النفس ليس لأن ألفاظه غير صحيحة وغير فصيحة أو أن نظمها لم يجر على سنن العربية بل لأن اختيارها وطريقة تشكيلها وجمعها وإسنادها إلى بعضها تسبب عسراً في استقبالها وفي الوصول إلى معناها , فأبو تمام يتحرى الغريب ويبدي في أسلوبه وهو الحضري ابن المدنية والترف والنعمة , فالأولى أن يكون تعبيره عن بيئته الرقيقة وعيشته المترفة .
ولعل جمع أبي تمام للألفاظ { قدك – اتئب – أربيت في الغلواء } في مصراع واحد جعله فاتحة القصيدة وغرتها هو الذي تسبب في نفور مؤقت يحس به المتلقي وعدم استساغه النص وشعور بالقطيعة بينهما ولذا وصف بعض الأقدمين هذا المطلع بالبشاعة .
ومن أهم ما يميز أسلوب هذا المطلع هو طريقة التفات الشاعر من المخاطب المفرد في المصراع الأول إلى جماعة المخاطبين في المصراع الثاني والالتفات ظاهرة فنية بديعية وظفها أبو تمام تطرية لنشاط السامع وإيقاظاً للإصغاء إليه , وبه يتحقق الرد على كل من يلومه ويعذله في حبه فلا يبقى الرد مقتصراً على مخاطب واحد بل هو عام وشامل وحازم .
كما يتميز أسلوب هذا المطلع بأنه إنشائي في مصراعه الأول والغرض البلاغي منه هو التماس مبطن باللوم والعتاب قدمه إلى مخاطبه الذي أسرف في تعنيفه وغالى في عتابه على حبه . وهو إنشائي أيضاً في مصراعه الثاني والغرض البلاغي منه التعجب من حال هؤلاء الذين يعذلونه في حبه وهم مثله .
*= المطالع المستحسنة : يقول في وصف الطبيعة ([110]):
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر *** وغدا الثرى في حليه يتكسر .
وقوله في مدح داوود بن محمد ([111]):
غنّى فشاقك طائر غرّيد *** لمّا ترّنم والغصون تميد .
وقوله يمدح محمد بن الهيثم ([112]):
ديمة سمحة القياد سكوب *** مستغيث بها الثرى المكروبُ .
وقوله في مدح أبي دلف القاسم بن عيسى ([113]):
قد شرّد الصبح هذا الليل عن أفقه *** وسوّغ الدهر ما قد كان من شرقه .
وأحسن ما في هذه الابتداءات جدة موضوعها وصف الطبيعة وهي ابتداءات تنتمي لمقدمات كاملة خصصت لهذا الغرض وهو بذلك يضيف لوناً جديداً من المقدمات يثري به مقدمات الشعر العربي المعروفة كالمقدمة الطللية والغزلية والطيفية والخمرية والحربية .
وفي هذه المقدمة الجديدة يربط الشاعر بإحكام وبراعة بين بهجة الطبيعة وإشراقها وغناها وفوائدها وبين خصال ممدوحه ويقابل بينهما .
ولعل كلمتي الدهر والليل من الكلمات المشحونة بالهموم والمعاناة والآلام والقسوة في الشعر العربي نجد أبا تمام في مطالعه يذللهما ويضفي عليهما نوعاً من اللين والوداعة فالدهر رقت حواشيه , ولم يعد ذلك العاتي الغاشم الذي لا يقهر ولا يبقي على أي شيء .
والليل صار هشاً يندحر أمام الصبح بسهولة ويسر فلم يعد ظلامه مخيفاً ولا زمنه طويلاً ولا كلكله ثقيلاً .
*= ومن مطالعه التي أبدع فيها وحاز السبق والتفرد استهلاله في قصيدته الرائعة في مدح المعتصم ([114]):
السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب .
يمتاز هذا المطلع بالفخامة والجزالة وإحكام السبك وجودة التعبير ورقة الألفاظ وروعة الاستهلال ووضوح دلالة الألفاظ التي تحمل أكثر من معانيها فكل لفظ ليس مستقلاً في حد ذاته , وإنما جاء به ما بينه وبين غيره من تناسب وتجانس وتضاد فالسيف استعمل هنا رمزاً إلى القوة والحرب , والكتب وردت رمزاً إلى التنجيم , والحد الثاني ومعناه الفصل بين الشيئين أتت به مجانسته للحد الأول حد السيف , والحد الأول إنما أتى به جناس التصحيف مع الجد ولفظ الجد هنا استدعى اللفظ المضاد وهو اللعب .
والألفاظ هنا يستدعي بعضها بعضاً في تناسق ظاهر وصنعة بينة والأمر لا يتوقف على الشكل لبنية الألفاظ وترتيبها وعلاقاتها بينها بل ينعكس على طريقة تفكير الشاعر , وهي طريقة جدلية معقدة تتمثل في عرض الفكرة ونقيضها ومن طرحهما تبرز الفكرة المنقحة ففكرة القوة والحرب التي يرمز لها السيف تناقضها فكرة التنجيم التي يرمز لها الكتب ومن صراع الفكرتين يبرز اليقين وتتأكد الحقيقة ويدرك الناس خسران الثانية ونجاح الأولى .
ومن تقابل فكرتي الجد واللعب وتضادهما تبرز فكرة ثالثة تقضي على التردد بينهما وتحقق الفصل وهي فكرة القوة الفاصلة هذا التوليد للمعاني عن طريق صراع الأفكار وتضادها فالتضاد هنا أساس الأفكار وهذا مذهب شعري مبتكر له علاقة كبيرة بالفلسفة .
اقرأ وتذوق :
السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في *** متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة *** بين الخمسين لا في السبعة الشهب
= هذه القصيدة أمّ ملاحمه وهي قصيدة تمثل نقلة كبرى في الشعر العربي وروائعه , وأول ما يطالعنا في هذه الأبيات اعتماد الشاعر اعتماداً كلياً على الجملة الاسمية , فقد خلت المقدمة الرائعة من أي فعل مع أن جو المعركة والقتال من شأنه أن يطبعها بحركة طارئة عرضية تتجلى في الأفعال يتضح ذلك في مطلع قصيدة المتنبي في معركة الحدث , يقول :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم
فالرؤية الشعرية عند المتنبي تنبع من حركية المعركة واضطراب الجيش فيها ولذلك تتوالى الأفعال بينما تستعلي الرؤية الشعرية عند أبي تمام على حركة المعركة لتنصرف إلى ما تجليه المعركة من حقائق الأشياء وثبوتها .
وقلة الأفعال ظاهرة أصيلة مميزة لشعر أبي تمام الذي يعتمد اعتماداً جوهرياً على الاسمية في تركيبه , بينما يرتفع منسوب الأسماء ذلك ان لها بعداً عميقاً عنده فهي لتضمنها الحقائق تكتسب تأثيراً متسلطاً على لغة الشعر . فالصدق كامن في حد السيف , وجلاء الشك كامن في الصفائح , والعلم كامن في الرماح .
وحينما تظهر الأفعال في هذه القصيدة فإنها لا تلبث أن تتقوقع في صيغة الماضي الذي ربما سبقته حروف النفي فتفرغه من أي دلالة على الحدث , وأما المضارع فغالباً ما يجيء مسبوقاً بحرف النفي لم فلا تفضي به إلى المضي وإنما تلغيه أصلاً , فالأسنة لم تكهم والرامي لم يصب والمجيب بغير السيف لم يجب وعمورية لم تشب والشمس لم تطلع ولم تغب . وتحف بالجملة الفعلية أدوات التشكيك حتى تنزل الحدث منزلة الاحتمال المتعلق بآخر فتكثر أمثال صيغ : لو رجوا , لو يعلم الكفر , لو لم يقد , لو رمى …
وأعود وأقول هذه المقدمة الحربية ليست مدحاً للمعتصم وليست حديثاً عن فتح عمورية لأنها لو كانت كذلك لوجدنا أن القصيدة قد بدأت مباشرة بالغرض الأساسي ولكنها كانت حديثاً عن واقعة وأحداث وقعت قبل فتح عمورية جعل منها أبو تمام مقدمة جديدة مرتبطة بالمضمون وهي أن المنجمين قد حذروا المعتصم من فتح عمورية في هذا الوقت إذ إنها لا تفتح إلا في وقت معين وهو وقت نضج التين والعنب كما زعموا ولكن المعتصم لم يسمع لهم فجهز الجيوش وعزم على الفتح فنصره الله وكذب المنجمون . إن أبا تمام بذكائه الحاد وقدرته الفنية وتوقد ذهنه اختار هذا الحدث ليمهد به لمدح المعتصم والحديث عن فتح عمورية
*= ومن مطالعه البهية والفخمة استهلاله في قصيدة يمدح بها المعتصم بقوله ([115]):
الحق أبلج والسيوف عوار *** فحذار من أسد العرين حذار .
الجملتان الاسميتان في المصراع الأول توحيان بالثبات والمعرفة اليقينية والجملة الثانية منهما كناية عن التأهب للحرب والاستعداد للذود عن الحق ورد المنحرفين عنه , فالحق واضح مشرق وكل من ينحرف عنه ويضل يجابه بقوة لا قبل له بها , والجمع بين الحق والقوة يحقق العدالة والأمن والاستقرار , وهما في يد أسد العرين وهو ممدوحه ووجود القوة بجانب الحق تجعله مهاباً محترماً مصوناً .
وفي المصراع الثاني يفصح الشاعر عن تحذير شديد من غضبة ممدوحه يوجهه إلى كل فكر أو يفكر في التمرد عليه . وجاء تكرار اسم الفعل حذار ليبعث الخوف والهلع في نفوس المتمردين وخاصة إذا جمعنا هذا التحذير بالسيوف المجردة استعداداً للفتك والتي هي في يد شجاع باسل رهيب . وجاءت الاستعارة التصريحية في قوله : { أسد العرين } لتهويل الموقف ومساندة فكرة التحذير وبعث الرعب في نفوس المتمردين .
*= ومن المطالع الطللية التي جمعت بين عبق القديم وجلاله وجمال الحاضر وبهائه وأسلوب أبي تمام في التضاد وإحكامه وصراع الفكر ونظامه قوله في استهلال قصيدة يمدح بها أبا سعيد الثغري ( [116]):
من سجايا الطلول ألاّ تجيبا *** فصوابٌ من مقلة أن تصوبا
فاسألنها واجعل بكاها جوابا *** تجد الشوق سائلا ومجيبا .
في البيت الأول من المطلع يطرح فكرتين قديمتين ترددتا كثيرا في المقدمات الطللية تتمثل الفكرة الأولى في أن الطلول لا تجيب سائلها قال لبيد بن ربيعة :
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا *** صمًا خوالد ما يبين كلامها
وقال زهير بن أبي سلمى :
أمن أم أوفى دمنة لم تكلّم *** بحومانة الدراج فالمتلثم ؟
وهي فكرة وقف عندها النقاد ولم يأخذوها بظاهر معناها بل تعمقوها وأولوها وربطوها بالحياة والموت وقضايا الوجود ومصير الإنسان .
وتتمثل الفكرة الثانية في البكاء على الأطلال وهي فكرة اشتهرت في المقدمات الطللية القديمة حيث لا نجد ذكراً للطلل إلا والبكاء يصحبه بل إنه يشكل عنصراً أساسياً في بناء المقدمة الطللية .
قال بشر بن أبي خازم :
تغيرت المنازل بالكثيب *** وغير آيها نسج الجنوب
وقفت بها أسائلها ودمعي *** على الخدين في مثل الغروب
وهذه الفكرة أيضاً لم يأخذها النقاد بظاهر معناها بل تعمقوها وربطوها بالفناء والمصير الإنساني والوجود .
وأبو تمام في بيته الأول من المطلع يقابل بين الفكرتين ويجعلهما متكاملتين تتواجد الثانية بوجود الأولى فالفكرة الأولى سبب وعلة في وجود الفكرة الثانية فإذا كان من طبع الأطلال الدارسة ألا تتكلم وألا تشفي غليل سائلها فحق للواقف عليها المتعلق بها أن يسكب الدمع مدرارا .
وفي البيت الثاني نجد الشاعر يؤكد معنى البيت الأول لكن بتشكيل لغوي يتلاعب فيه بالألفاظ ويعتمد على التضاد لإبراز المعنى وهو شدة الشوق وألم الوجد الذي أضربه وجعله يقف ويبكي .
إن أبا تمام لم يكتف في مطلعه ببيت واحد بل دعمه ببيت ثان يشد من أزره ويحقق معناه وهو أمر كان القدماء لا يقبلونه لأنهم يرون أن المطلع يجب أن يكون بيتاً وحيداً مستقلاً , لكن أبا تمام خرج على هذه السنة وأباح لنفسه أن يكون المطلع أكثر من بيت .
ولنتأمل قوله في مقدمة أخرى يدعو فيها للوقوف على الأطلال ([117]):
ما في وقوفك ساعة من بأس *** نقضي ذمام الأربع الأدراس
فلعل عينك أن تعين بمائها *** والدمع منه خاذل ومُواس .
هنا دعوة للوقوف على الأطلال والبكاء عليها حيث لا يُسعد المشتاق إلا مشتاق مثله , أما من كان غير ذلك – وكنى عنه أبو تمام بأنه يبس المدامع – فهو لا يعين على البكاء , ومن هنا ينطلق لوصف حال تلك المنازل التي فارقها ورحل عنها …
*= يقول أحمد بدوي : ” كما قالوا : إن أحسن مرثية إسلامية ابتداء قول أبي تمام ([118]):
أصمّ بك الناعي وإن كان أسمعا *** وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا .
وهذا المطلع يبين في جلاء شدة وقع النبأ على النفوس والآذان حتى لقد أصابها الصمم بعد أن سمعته من فهم الناعي ولم لا يحزن الشاعر على فقده وقد مات الجود بموته .. “([119]) وجعل الناس قول أبي تمام ([120]) :
يا بُعد غاية دمع العين إن بعدوا *** هي الصبابة طول الدهر والسهد
قالوا : الرحيل غداً لا شك قلتُ لهم *** اليوم أيقنتُ أن اسم الحمام غدُ .
من جياد الابتداءات بجمال موسيقاه من ناحية , وجودة معناه من ناحية أخرى , إنها حرقة يحسها المفارق إزاء البين خاصة لحظة الوداع , والغالب على أبي تمام أنه فخم الابتداء له روعة وعليه أبهة . وكما عنى أبو تمام بمطالع قصائده وراعى أساليب التخلص فيها أحسن خواتمها يقول : ([121])
كتبتُ ولو قدرتُ جوىً وشوقاً *** إليك لكنتَ سطراً في كتابي .
ويقول ([122]:
عليها سلام الله أنى استقلت *** وأنى استقرت دارها واطمأنت .
*= أنواع الصورة :
حظيت الصورة الشعرية في شعر أبي تمام باهتمام عدد كبير من الدارسين الذين عنوا بدراسة الصورة الفنية في شعره سواء أكانت دراستها مستقلة أو ضمن غرض من أغراضه الشعرية واستطاع أبو تمام توظيف الصورة الفنية أيّما تصوير فجاءت قصائده لوحات شعرية فنية رائعة أوجد فيها جميع مقومات الشعر الجيد عكس من خلالها المعنى المراد وذلك عن طريق صور حسية سواء أكانت بصرية أو سمعية أو ذوقية أو شمية أو لمسية أو حركية أو صور ذهنية , وبالتالي يرتبط النمط الحسي للصورة الشعرية بالأثر النفسي الذي تحدثه في المتلقي والشاعر المبدع هو الذي تمتاز صوره بميزات خاصة وتتلون بتلون عاطفته وتكون معبرة عن خلجات إحساسه وانفعالاته .
وإذا نظرنا إلى ديوانه نجد أن الصورة الشعرية فيه قد شملت معظم الصور البديعة من ذلك :
*= الصورة الضوئية : يقول ([123]):
لم يشعروا حتى طلعتَ عليهم *** بدراً يشقُّ الظلمةَ الحِنديسا
ما في النجومِ سوى تَعِلَّةِ باطِلٍ *** قَدُمَتْ وأُسِّسَ إفْكُها تأسيساً
إنَّ الملوكَ همُ كواكبُنا التي *** تَخفَى وتطلُعُ أَسْعُداً ونُحُوسا .
والبدر والهلال يظهران معاً في قوله([124]) :
أمسى بك الإسلامُ بَدْراً بعدما *** مُحِقَتْ بَشَاشَتُه مُحَاقَ هِلالِ .
ويقول أبو تمام ([125]): له كِبرياءُ المُشْتَري وسعودُهُ *** وسَوْرَةُ بَهرامٍ وظَرْفُ عُطارِدِ
وقوله ([126]): وضياءُ الآمالِ أفسحُ في الطَّرْ *** ف وفي القلب من ضياءِ البلادِ .
وقوله : بيضاءُ تَسْري في الظلام فيكتسي *** نُوراً وتَسْرُبُ في الضياءِ فيُظلمُ .
*= الصورة المساحية وهو نمط من انماط الصورة البصرية ونعني بها تلك التي توحي بالامتداد المساحي المكاني فلا تقتصر على الإشارة إلى المحسوس في إطاره المكاني الضيق المحدود وإنما تتجاوزه ليصبح الموضوع الموصوف منسحباً مكانياً على مساحة كبيرة أو صغيرة يقول أبو تمام ([127]):
صَدَفتُ عنهُ فلم تَصْدِفْ مَوَدَّتُهُ *** عنّي وعاوَدَهُ ظنّي فلم يَخِبِ
كالغيث إنْ جِئتَهُ وافاكَ رَيِّقُهُ *** وإنْ تحمَّلْتَ عنهُ كان في الطّلبِ .
يتجاوز الممدوح حدوده المكانية، فيمتدّ وجوده متمثلاً بأثره وفعله على رقعة كبيرة من الأرض. إنه كالغيث لا يمكنك الهرب منه، فهو يلحقك إلى كل مكان. ونلاحظ هنا أن الممدوح هو الذي يلحق الشاعر، وفي هذا غاية الشعور بالاستعلاء والأنا. كما يمكننا أن نلاحظ التأليف الفكري للصورة، حيث يعرض الشاعر فكرته ثم يأتي بصورة حسية موضّحة لهذه الفكرة.
*= صورة المسافة :
ويمكننا أن نعدّ من الصور البصرية أيضاً تلك التي تقوم على قياس مسافة ممتدة في خطّ مستقيم. لهذا كانت صورتا الطول والعرض أبرز ما تجلّت فيه هذه الصورة. يقول أبو تمام ([128]):
كُنْ طويلَ النّدى عريضاً فَقَدْ سا *** دَ ثنائي فيكَ الطويلُ العريضُ
إنّ الثناءَ يَسيرُ عَرْضاً في الوَرى *** وَمَحلُّهُ في الطولِ فوقَ الأَنجُمِ .
فصورة العرض مستعملة للدلالة على الامتداد الأفقي، أما صورة الطول فإنّها توحي بالامتداد الشاقولي. هذا الامتداد الأخير قد يعبّر عنه الشاعر دون اللجوء إلى صورة الطول بلفظها. يقول أبو تمام ([129]):
بَلَوْناكَ أَمَّا كَعْبُ عِرْضِكَ في العُلا *** فَعَالٍ ولكنْ خَدُّ مالِكَ أَسْفَلُ .
فالشاعر يشير إلى الامتداد بصورة العلو والانخفاض. ولا يخفى علينا ما يتضمّنه التصوير في هذا البيت من تضاد فكريّ: فالكعب وهو أسفل الشيء عال، والخدّ وهو أعلاه منخفض، وبين الخدّ والكعب، والعلو والانخفاض، تضاد سافر.
*= الصورة السمعية :
وهي تلي البصرية من حيث القيمة الجمالية، وهما معاً يفضلان الحواس الأخرى من حيث القيمة العقلية والثقافية .
يحدثنا يوسف مراد عن قيمة حاسة السمع بالنسبة إلى الحواس الأخرى فيقول: “فللحواس التي تدرك عن بعد ميزة السبق والتوقّع والتبصّر، غير أنّ حاسة السمع أقلّها مادية وأقواها استخداماً للرموز والإشارات العقلية. وهل من رموز أكثر تحرراً من المادة وأشمل دلالة من الرموز اللغوية التي يصطنعها التعبير اللفظي؟”
لهذا السبب نجد عناية أبي تمام بهذا النمط التصويري. فحاسة السمع أقوى الحواس استخداماً للرموز والإشارات العقلية. لكن ما يلفت انتباهنا في الصورة السمعية عند أبي تمام إكثاره من استخدام الأصوات الخافتة الهامسة. ولعلّ ذلك أقرب إلى طبيعة الشاعر العقلية من جهة، وإلى رمزية الحاسة السمعية وعقلانيتها من جهة أخرى . يقول أبو تمام ([130]):
فالمَشْيُ هَمْسٌ والنداءُ إشارةٌ *** خَوْفَ انتقامِكَ والحديثُ سِرَارُ
ومِنَ الرزيَّةِ أنّ شُكْري صامِتٌ *** عمَّا فَعَلْتَ وأنّ بِرَّكَ ناطقُ .
نلاحظ في هذين البيتين تلك التقسيمات المنطقية في البيت الأول، وأسلوب التضاد في البيت الثاني، وهما من أساليب التصوير الفكري. كما نلاحظ أنّ الصور الصوتية المهموسة عند أبي تمام كلها ذات دلالات انفعالية، وهل يصلح غير الهمس للتعبير الوجداني عن التجربة؟!
وربما عمد أبو تمام إلى الأصوات الجهيرة، مثال ذلك قوله ([131]):
كأنّ صوتَ النعامِ فيهِ *** إذا دَعَا صَوْتُ مُستَغيثِ .
وقوله ([132]) : صَهْصَلِقٌ في الصَّهيلِ تَحْسِبُه *** أُشْرِجَ حُلقومُه على جَرَسِ .
والمقصود من الجهر، كما هو واضح، المبالغة في التصوير. وفي ذلك دلالة على معاني القوة، على خلاف ما وجدناه في الصور المهموسة من انفعال وليونة.
الصورة الشَّميَّة :
ونضعها في الدرجة الثالثة من سلّم الحواسّ بعد البصرية والسمعية، وذلك من حيث المقدرة على الانفعال عن بعد. والشم يتفق مع السمع في إمكانية الانفعال بالموضوع في غيبة الجسم الفاعل. وكأنّ أبا تمام يشير إلى هذه الناحية بقوله ([133]):
وفارَةُ المِسْكِ لا يُخفي تَضوُّعَها *** طولُ الحجابِ ولا يُزْري بِفائِحِها .
فالصورة الشميّة مستعصية على الحجب، إنها صورة منتشرة، بإمكانها التأثير بفعلها وإن كان جسمها غائباً أو محجوباً. لهذا السبب أمكننا اعتبار الشمّ “من الحواس التي تمكّن الإنسان من أن يستبدل بالأشياء ما يشير إليها من أمارات وعلامات” . وفي ذلك الانتقال من استخدام الأشياء إلى استخدام رموزها رقيّ نفسي، يقوى ويزداد تحديداً ويتسع مدى بفضل البصر والسمع ؟
من هنا كانت الدلالة النفسية لحاسة الشم تكمن في أنه من ثناياها “تنبثق تباشير السلوك التكييفي التوافقي، سلوك التوقع والاستعداد والرويّة” هذا، والتنبيه الشمي تنبيه كيميائي، أمّا الكيفيات الشميّة فكثيرة لا يمكن حصرها
ويرى يوسف مراد أنّ الشم في الحيوان أصدق حسّاً منه في الإنسان، لكنه قابل للتهذيب. ويرجع الكثير من ألوان الترف إلى إرهاف هذه الحاسة، وذلك لما يصحب تنشيطها من الشحنات الوجدانية .
وفي العصر العباسي، حيث انتشر الترف وازدهرت الحضارة، كان لابد أن تتهذّب هذه الحاسة، فتُستخدَم وسيلة للتعبير عن حياة حضرية مترفة راقية. يقول أبو تمام ([134]):
إنْ كان يَأْرَجُ ذِكْرٌ من بَرَاعتهِ *** فإنّ ذِكرَكَ في الآفاقِ قَدْ أَرِجا .
لو فاحَ عُودٌ في النَّدِيِّ وذِكْرُهُ *** لَعَلا بطيبِ الذِّكرِ طيبَ العُودِ .
وعناية أبي تمام موجهة إلى الروائح الذكيّة على الخصوص. وفي هذا أبلغ دلالة على الترف الاجتماعي والرقي الحضاري الذي عاشه أبو تمام، والذي ترك بصماته فيه.
*= الصورة اللمسيَّة :
وتحتل المرتبة الرابعة في قائمة صور الحواس، وهي تضم أربعة إحساسات رئيسة: أولاً الإحساس بالتماسّ والضغط، ثانياً الإحساس بالألم، ثالثاً الإحساس بالبرودة، رابعاً الإحساس بالسخونة
أما صور التماسّ اللمسية فيمكننا أن نعدّ منها الإحساس بالملاسة والخشونة، والصلابة والليونة. وأبو تمام تكثر عنده صور الملاسة، كما في قوله ([135]):
شَذَّبَ همّي بهِ صقيلٌ مِن *** الفِتيانِ أَقطارُ عِرْضِهِ مُلْسُ .
وتدخل صورة النعومة في إطار الإحساس بالملاسة. يقول أبو تمام ( [136]:
ناعِماتُ الأطْرافِ لَوْ أنَّها *** تُلْبَسُ أَغنَتْ عن المُلاءِ الرِّقاقِ .
وتأتي صورة الملاسة عنده غالباً في علاقة تضاد بنقيضها. يقول ( [137]):
قد لانَ أكثرُ ما تُريدُ وبعضُهُ *** خَشِنٌ وإنّي بالنجاحِ لواثِقُ .
الليونة والخشونة معاً يرسمان ملامح الصورة التي أرادها الشاعر. وربما اجتمعت الليونة مع الصلابة في رسمها، أو الملاسة مع الخشونة المتمثلة بصورة الجرب ([138]):
وما زِلتُما من نَبْعهِ إنْ عُجِمْتُما *** لِضَيْمٍ، وعند الجودِ من خَيْزُرانهِ .
رَددتَ أديمَ الغَزْوِ أملسَ بعدَما *** غدا ولياليهِ وأيّامُهُ جُرْبُ .
وأبو تمام شديد العناية بإحساس الليونة والنعومة. فإذا بحثنا عن جذور هذه العناية في نفسه ودلالاتها الرمزية، أمكننا أن نجد فيها صورة لحسّ حضري مترف، ملأ على الشاعر كيانه وشعوره، فانطلق لا شعوره يعبّر عن هذا الامتلاء بصورة حضرية.
*= الصورة الذوقية :
ونضعها في المرتبة الخامسة من قائمة الصور الحسية. يقول حامد عبد القادر: ( يظهر من النتائج التي وصل إليها الباحثون في هذا الصدد أن النجاح يبلغ أشدّه بوجه عام في إثارة الصور البصرية والحركية ، ويلي هذا النجاح في إثارة الصور السمعية إذ يصل إلى نحو 46.8% أي إلى أقل من المتوسط بقليل. ويقلّ عن هذا النجاح في إثارة الصور الشميّة إذ يبلغ نحو 39.3%، ثم في إثارة الصور اللمسية إذ يبلغ نحو 35.5%، ثم في إثارة الألم والتغيّرات الباطنية، إذ يبلغ نحو 30.7% ، وأخيراً في إثارة الصور الذوقية أو صور الطعوم، إذ تبلغ نسبة النجاح في ذلك نحو 14.2%”
وهي ذات تنبيه كيميائي، مثلها في ذلك مثل الصورة الشميّة، لكنّها تختلف عنها من حيث طبيعة الاتصال بالموضوع المحسوس. فعلى حين ينفعل الشمّ عن بعد، نجد أن حاسة الذوق لا تنفعل إلاّ إذا وضع الجسم على اللسان، فهي إذاً، حاسة قائمة على التماسّ المباشر. وتتفق الحاستان من حيث “أنهما قابلتان للتهذيب، وكثير من ألوان الترف يرجع إلى إرهاف هاتين الحاستين، وذلك لما يصحب تنشيطهما من الشحنات الوجدانية )
والكيفيات الذوقية محدودة، وهي: الحامض والمالح والحلو والمرّ . أمّا حسّ الحلاوة فيبدو عند أبي تمام في قوله([139]) :
على البَلَدِ الحبيبِ إِليَّ غَوْراً *** ونَجْداً والفتى الحُلْوِ المَذَاقِ .
وحلاوة المذاق هذه غالباً ما تتّخذ من صورة العسل وسيلة إليها :
صَمّاءُ سَمُّ العِدَى في جَنْبِها ضَرَبٌ *** وشُرْبُ كاسِ الرّدى في فَمِّها شُهُدُ .
بل إنّ أخلاقِ الممدوح أحلى من الشهد، على سبيل المبالغة البيانية :
وعِذابٌ لَوَ انّها أُطعِمَتْ زا *** دَتْ على الشَّهْدِ بَسْطةً في المذاقِ
ويلحق بحس الحلاوة عند أبي تمام، الحس بالعذوبة، وهو مقترن بالماء ممّا يوحي بمكانة هذه ورمزيتها الإشراقية عند الشاعر:
عَذُبَ اسمُه بِفَمي فَظَلَّ كأَنَّهُ *** لِلرّاحِ بالماءِ القَراحِ مُضَاهِ
*= الصورة المتراسلة :
وهي إحدى أهم الوسائل التي يلجأ إليها الرمزيون سعياً لتوفير الصفات الإيحائية لصورهم. ومن هذه الوسائل “تراسل الحواس ، أي وصف مدركات كل حاسة من الحواس بصفات مدركات الحاسة الأخرى، فتعطي المسموعات ألواناً، وتصير المشمومات أنغاماً، وتصبح المرئيات عاطرة… والألوان والأصوات والعطور تنبعث من مجال وجداني واحد. فنقل صفات بعضها إلى بعض يساعد على نقل الأثر النفسي كما هو قريب مما هو، وبذا تكمل أداة التعبير بنفوذها إلى نقل الأحاسيس الدقيقة . ويمكننا أن نفرّق في الصور المتجاوبة بين نمطين :
نمط تجميعي مؤلَّف من اجتماع عدة انطباعات حسية، ونمط تحويلي قائم على تحويل كيفية حسية إلى أخرى .
من أمثلة النمط التجميعي ما نجده عند أبي تمام في قوله يصف شعره([140] ) :
أَلَـذَّ من السَّلوى وأطيبَ نفحةً *** مِنَ المِسْكِ مفتوقاً وأيسرَ مَحْمَلا .
يجمع أبو تمام في هذا البيت بين عدة انطباعات حسية : الانطباع الذوقي ( السلوى) والشمّي ( المسك )، واللمسي ( المحمل). وهي كلّها تخدم غاية واحدة، بيان جمال هذا الشعر، حتى إنه فاق هذه المحسوسات على جمالها وأثرها في نفس الشاعر. والغاية من هذا التفضيل انفعالية، وقد جسد الشاعر هذا الشعور عن طريق جمعه بين تلك الانطباعات الحسية. وإن عودة إلى سياق الأبيات، ونظرة إلى موقع الشاهد منه، تضعنا على فنية هذا التجاوب الذي رسمه الشاعر لنا. فالصورة هنا تحمل من مضمون العمل وفكرته ما تحمله باقي أنماط الصور المستخدمة، وهي كلّها ذات دلالة واحدة ووظيفة واحدة: بيان شدة جمال شعره. ولعله من المفيد هنا أن نشير إلى أنّ جميع الصور المستخدمة في سياق الموضوع هي صور متجاوبة، تحويلية تارة وتجميعية تارة أخرى ([141]:
و والله لا أنفكّ أهدي شوارداً *** إليكَ يُحمَّلْنَ الثَّناءَ المُنَخَّلا
تخالُ به بُرداً عليكَ مُحَبَّراً *** وتحسَبُهُ عِقداً عليكَ مُفَصَّلا
ألذَّ مِنَ السّلوى وأطيبَ نفحةً *** من المسكِ مفتوقاً وأيسر محملا
أخفَّ على قلبٍ وأثقلَ قيمةً *** وأقصرَ في سمعِ الجليسِ وأطوَلا .
أما التحويل فمن المسموع إلى المبصَر لقد غدا شعره بُرداً وعقداً. وفي هذا التحويل مزيد من الإيضاح، فالانتقال من المسموع إلى المبصَر الظاهر الواضح. وأما التجميع فيظهر لنا في البيت الأخير حيث يجمع بين الانطباع اللمسي الوزني مسنداً إلى المجرّد، وبين الانطباع السمعي الزمني . وفي ذاك التحويل وهذا التجميع إيحاء انفعاليّ تعجز عنه الصور الحسية المتماثلة. ويبدو التجميع أوضح عند أبي تمام في قوله يتحدث عن ثلاثة من ممدوحيه ([142]):
بثلاثةٍ كثلاثةِ الراحِ استوى *** لكَ لونُها ومذاقُها وشميمُها .
لكنه تجميع شكلي، لا يعدو كونه اجتماع ثلاثة انطباعات حسية معاً، لكلّ واحد منها استقلاله الخاص، وإن كانت معاً ذات إيحاء انفعالي. وكأنّ أبا تمام قد أدرك هذا القصور الذي تقوم عليه صوره المتقدمة، فعمد في بعض صوره إلى ما يمكننا تسميته بتزامن الحواس، حيث تكون الأطراف المجتمعة متزامنة حسيّاً. يقول ([143]):
فكأنّما هِيَ في السّماعِ جَنَادلٌ *** وكأنّما هِيَ في العيونِ كواكبُ .
في لحظة انسجام كوني بدت لأبي تمام قصائده جنادل في السماع وكواكب في العيون، وهكذا يتم التداخل بين الانطباعين والاتحاد بينهما. وبهذا تبلغ براعة التجميع عند أبي تمام مداها، فيحطّم حدودها الشكلية ليبلغ بها أفق التعبير الانفعالي.
ومهما بلغت القيمة الجمالية للصور المتجاوبة التجميعية تبق الصور المحوّلة أشدّ إيحاء منها. أما أبو تمام فبارع في التقاط الشبه بين المدركات الحسية، برغم اختلاف الحاسة المدرِكة. ولا عجب، وهو صاحب النظرة الكلية والرؤية الكونية الشاملة للوجود.
وللتحويل عند أبي تمام مظاهر متعددة، فهو تارة تحويل بصري – سمعي ([144]) :
بِغُرٍّ يراها مَن يراها بِسَمْعِهِ *** فيَدنو إليها ذو الحِجى وهْوَ شاسِعُ
يَوَدُّ وِداداً أنَّ أعضاءَ جِسمِهِ *** إذا أُنشِدَتْ شَوْقاً إليها مَسامِعُ .
وتارة أخرى تحويل سمعي- بصري([145]) :
أحاديثُها دُرٌّ ودُرٌّ كلامُها *** ولم أَرَ دُرّاً قبلَه يَنظِمُ الدُّرّا .
أو سمعي- ذوقي ([146]):
تُعطيكَ مَنْطِقَها فتَعلمُ أنّه *** لجنى عذوبتِه يَمُرُّ بثغرِها .
أو ذوقي – شمّي ([147]):
خُلُقٌ كالمُدامِ أو كرضابِ *** المسكِ أَوْ كالعَبير أو كالمَلابِ .
يبدو التحويل في هذا البيت في مستويين : المستوى الأول من المجرّد إلى المحسوس، والمستوى الثاني تحويل من الانطباع الذوقي (مدام، رضاب المسك) إلى الانطباع الشمّي (رضاب- المسك، العبير، الملاب). هذا التحويل تمّ للشاعر تركيبه بوساطة الأداة ( أو)، وبمساواتها بين الانطباعين . وربما كان التحويل لمسياً – بصرياً ([148]):
صافي الأَديمِ كأنّما ألبستَهُ *** من سندسٍ بُرداً ومن إستبرَقِ
إمليسُه إمليدُه لو عُلِّقتْ *** في صَهوتَيْهِ العينُ لم تتعلَّقِ .
أراد الشاعر تصوير ملاسة الفرس، فأفاد من الحاسة البصرية للتعبير عن هذا الحس اللمسي، فجعل العين تزحل من فوق صهوته. وفي هذه الصورة طرافة من جهة، وإشراق انفعالي من جهة ثانية. وقد يكون التحويل سمعياً- لمسياً ([149]):
مِمَّن إذا ما الشِّعرُ صافحَ سمعَه *** يوماً رأيتَ ضميرَهُ يَتَبَسَّمُ .
فالشعر وهو مادة سمعية يصافح السمع، والمصافحة فعل لمسي محسوس مادياً. ونلاحظ في الشطر الثاني تحويلاً من الفكر المجرّد إلى المحسوس البصريّ.
*= تراسل الأساليب :
ويعني ذلك تناوب الأساليب في موقعها من الكلام أي تبادلها الوظيفة المنوطة بها في التعبير وهذا التراسل والتناوب لا يقع سوى في السياق الأدبي وفي الأساليب الانزياحية , ومن ذلك توظيف أحد عناصر أسلوب التمثيل في أسلوب التشبيه مثلاً : كإيراد المتشابهات بلفظ المتماثلات في قول أبي تمام ([150]):
دمنٌ طالما التقت أدمع المز *** ن عليها وأدمع العشاق .
فأبو تمام أورد المتشابه بلفظ المتماثل قاصداً بذلك التشبيه بين الأدمع وقطرات المطر , فاستعمل من أجل أداء هذا المعنى التشبيهي لفظاً هو أخلق بالاستعمال في موطن التمثيل
*= التحويل الحسي :
ولا تقف الصور المتجاوبة عند حدود الانطباعات الحسية، وإنما تتجاوزها إلى المجرّدات، فتجعل منها مدركات حسية: سمعية أو لونية. وعليه، يبقى حكمنا على طبيعة الصور المحوّلة ضعيفاً مالم نتعرّض بالدراسة والتحليل لنماذج التشخيص والتجسيد عند الطائيين.
أول ما نلاحظ في هذه النماذج أن التحويل يتم باتجاه صور بصرية غالباً، على اختلاف أشكال هذه الصور .
لقد كثر عند أبي تمام تجسيد الزمان وتشخيصه ، مما دفع الآمدي إلى التصدّي له والوقوف في وجهه. والآمدي في موقفه هذا لا يعارض فكرة تشخيص الزمان، وقد وجدنا نماذج منها عند البحتري، وإنما يأخذ على أبي تمام توسعه في المجاز وتجاوزه إلى مالم يعرفه الشعراء قبله، ولم يألفه النقّاد , وكأنه ليس من حق الشاعر أن يخرج على التقاليد السابقة في الاستعارة .
وثاني المجردات التي أكثر أبو تمام من تحويلها حسياً، صورة المجد. يقول ([151]):
لو لم تُفَتِّ مُسِنَّ المَجْدِ مُذْ زمنٍ *** بالجُودِ والبأسِ كانَ المجدُ قد خَرِفا .
فألصق بالمجد صفة الخرف وهي صفة بشرية، والصورة تشخيصية. وأبو تمام كثير العناية بمثل هذا النمط التصويري، أي إضفاء الصفات الشعورية المعنوية على المجرّدات، ولذلك صلة بمذهبه الفكري, يقول ([152]):
كم لَوْعَةٍ للنّدى وكمْ قَلَقٍ *** للمَجْدِ والمكرُماتِ في قَلَقِكْ؟
ومن كلامه على المجد أيضاً قوله([153]) :
مجدٌ رعى تَلَعاتِ الدهرِ وهْوَ فتىً *** حتّى غدا الدهرُ يمشي مِشيةَ الهَرِمِ .
فالدهر هنا يمشي، وفي هذا تحويل من مجرّد إلى فعل، والفعل حركة، والحركة حسية، وهي متصلة من قريب أو بعيد بالصورة البصرية. وغالباً ما يعمد أبو تمام، في تحويله المجرّد إلى محسوس، إلى إضافة ذاك إلى هذا، على نحو قوله ([154]):
لِيَزدْكَ وجْداً بالسّماحةِ ما ترى *** من كيمياءِ المجدِ تَغْنَ وتَغنَمِ .
فالمجد مضاف إلى الكيمياء، وفي هذا تأليف ذكي وتوحيد بارع بين طرفي الصورة. وعلى نحو كيمياء المجد نقرأ له { ظهر الموعد } ، و { كاهل الوعد } ، و { رياض الباطل }
وقد يعكس الصورة فيضيف المحسوس إلى المجرّد , يقول ([155]):
يا ابنَ الخبيثةِ لا تُعرِّض صخرةً *** صمّاءَ مِن مجدي بعِرْضِ زُجاجِ .
فأضاف الزجاج إلى العرض. وفي البيت صورة أخرى تحويلية من المجرّد إلى المحسوس، فالمجد مشبّه بصخرة. وهنا نتساءل عن تلك العناية بتجسيد المجد عند أبي تمام. إن عناية الشاعر بصور المجد ماهي إلاّ تعبير غير مباشر عن نزوعه إلى المجد وطموحه إليه وإلى العلياء.
وتصادفنا عند أبي تمام مجموعة من الصور الحسية يكثر التحويل إليها من المجردات. الصورة الأولى هي صورة اليد يقول ([156]):
وصَلْتُ كفَّ مُنىً مِنّي بِكفِّ غِنىً *** فارَقْتُ بينَهُما هَمِّي وأَحزاني
حتى لبسْتُ كُسىً لليُسْرِ تنشرُها *** على اعتِساري يَدٌ لَمْ تَسْهُ عن شاني
يدٌ من اليُسر قَدَّتْ حُلّتَيْ عُسُري *** حتى مَشَى عُسُري في شخصِ عُريانِ .
واليد رمز لفعل. فالشاعر في تحويله يختار من الجوامد ما تضمن فعلاً وحركة، وفي هذا إشارة بعيدة إلى مذهبه في حياته، وسعيه وحركته في سبيل العظمة والمجد.
أما الصورة الثانية فهي صورة الأنف ( [157]):
جَدَعْتَ لَهُم أنفَ الضلالِ بوقْعَةٍ *** تَخَرَّمْتَ في غَمَّائِها مَنْ تَخَرَّمَا .
وأنف الشيء رأسه ومقدمته. يقول الزمخشري: ( ومن المجاز: هو أنف قومه، وهم أنف الناس.. وأنف الجبل وأنف اللحية، وعدا أنف الشدّ، وهذا أنف عمله. وسار في أنف النهار، وكان ذلك على أنف الدهر، وخرجت في أنف الخيل ).
إن استعارة أبي تمام الأنف، إذاً، ماهي إلاّ تعبير عن نزوع كامن في لا شعوره إلى العظمة والإمامة والقوة.
وأما الصورة الثالثة فهي صورة الوجه ([158]):
لقد انصَعْتَ والشتاءُ له وَجْهٌ *** يَرَاهُ الكُمَاةُ جَهْماً قَطوبا .
هنا أيضاً نرى في استعارته صورة الوجه رمزاً إلى القوة وتوقاً لا شعورياً إلى العظمة. يقول الزمخشري عن مجازية الوجه: ( ومن المجاز: هذا وجه الثوب، ووجه القوم، وهؤلاء وجوه البلد، ورجل وجيه: بيِّن الوجاهة. وله جاه وحرمة… ).
*= الرمز الحسي : صورة الثياب :
أولى هذه الصور، صورة الثياب، ويندرج تحتها كل ماله علاقة بفن الحياكة من مصطلحات وأدوات وأفعال. يقول أبو تمام ([159]):
فإذا مَرَّ لابِسُ الحَمْدِ قال *** القومُ : مَنْ صاحِبُ الرّداءِ القشيبِ .
فالحمد رداء ملبوس . وقد كثر تشبيه العرب الثناء بالبرد الحسن. هذا ما يراه التبريزي في تعليقه على قول أبي تمام ([160]):
والحمدُ بُردُ جَمالٍ اختالَتْ بهِ *** غُرَرُ الفَعَالِ وليسَ بُرْدَ لِباسِ .
وتتكرر صور اللباس بكثرة عند الشاعر، فالصنيعةُ مُلبِسة ملبوسة , والنأي والصدود، وبينهما تضاد، ملبوسان ، وللندى أثواب منشورة ، وللصدق ثوب ، وطول التأوّه قميص، والسقام رداء . وتتجسد صورة اللباس في فعل الحياكة. يقول أبو تمام ([161]):
أمهْدِيّاً لَحَيْتِ على نوالٍ *** لقد حُكتِ الملامَ لغيرِ واعِ .
والشاعر أبو تمام بارع في استعارة مصطلحات فن الحياكة، على نحو إفادته من السّدى واللُّحمة ([162]):
فالبَسْ ثيابَ فضائحٍ أسدَيتَها *** أَشْراً وأَلحَمَها أَخُوكَ البارِدُ .
وتكثر صور الثياب بخاصة في موضوعين : في وصف الربيع والطبيعة، وفي مقام الحرب والمعركة. يقول أبو تمام في وصف الربيع ([163]):
وأَلبسهُمْ عَصبَ الربيع ووَشْيَهُ *** ويُمنَتُهُ نَبْتُ النّدى المُتلاحِكُ
إذا غازلَ الروضُ الغزالةَ نُشِّرَتْ *** زَرابِيُّ في أكنافِهِمْ ودَرَانِكُ
إذا الغيثُ سَدَّى نَسْجَهُ خِلْتَ أَنهُ *** مَضَتْ حِقبةٌ حَرْسٌ لَهُ وهْوَ حائِكُ .
يستوقف البيت الأخير الآمدي فيقول: “فأما جعله الغيث كأنه كان حائكاً، فمن مضاحيك معانيه وألفاظه” . وهو يأخذ عليه بذلك التوسّع في المجاز، وكأنه ليس للشاعر أن يخرج إلى ما ليس مألوفاً مستعملاً عند العرب.
والواقع أن أبا تمام كان مدركاً واعياً لأسرار صنعته وفنه، لم يخرج بذلك على حركات التجديد الكبرى في عصره، فهو حتى في تجديده، لا يخرج على النماذج الرفيعة السابقة عليه.
لقد أخذوا عليه التوسع في المجاز مستغربين صوره فيه، حتى كان من أحدهم أن أخذ وعاء وذهب يطلب منه قطرات من ماء الملام (تعليقاً على قوله: لا تسقني ماء الملام . فكان ردّ أبي تمام أبلغ من أيّ جواب متوقّع. إنه لن يعطيه شيئاً قبل أن يأتيه بريشة من “جناح الذل”، إشارة إلى قوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} .
ويقول أبو تمام في مقام الحرب والمعركة مستعيراً صور الثياب ([164]):
غدا غَدْوَةً والحمدُ نسجُ ردائِهِ *** فلم يَنْصرِفْ إلاّ وأكفانُه الأجرُ
تردّى ثيابَ الموتِ حُمراً فما أتى *** لها الليلُ إلاّ وهْيَ مِنْ سُندُس خضرُ
يستوقف هذان البيتان برمزية الثياب فيهما مصطفى ناصف، فيرى ( أن الثياب رمز متداول بكثرة في الشعر العربي… فالرداء يرتبط بالكرم ويرتبط أيضاً بكل معاني الفضيلة الخلقية والعقلية فضلاً عن ارتباطه بفكرة العافية الجسدية ) .
أبو تمام إذاً لا يستخدمُ رمزاً منقطعاً ، بل هو رمز ذو تاريخ طويل. والجديد عنده هو أنه لا يستخدم هذا الرمز بدلالته التقليدية السطحية المباشرة، وإنما يفيد من هذا الرمز فيعيد تكوينه ببراعة وابتكار. يشرح مصطفى ناصف ذلك بقوله : ( أبو تمام عرف أن فكرة الثوب ترتبط بفكرة التطهير، وأنّ الكفن – في هذا الضوء – هو إعطاء الميت فرصة العبور إلى أرض الطهارة والصفاء في نقاء وأمان من النجس والأذى. الميت يترك هذه الحياة ويكفن. وهذا الكفن يتم الغسل والتطهير، ويحفظ الجسد من كلّ شائبة. الكفن إذاً قمّة التطهر . والتطهرّ كامن في استعمالات الشعر الخاصة بالفضائل الأخلاقية والنفسية .
يقول أبو تمام إن أبا نهشل تردّى ثياب الموت حمراً، ويقول الشرّاح : إنه قُتِل . والنثر دائماً بسيط وحيد الجهة أقل من أن يعطى إمكانيات الشعر. أبو تمام يذكر الكفن صراحة في البيت السابق. الكفن فكرة منبثقة عن سياق الموت وسياق الرداء وسياق الأجر: نجد أن القتل والكفن فكرتان متناوشتان، بينهما ما بين طرفي الاستعارة من تفاعل. القتل جعل الكفن أحمر، والكفن جعل القتل إعداداً للحياة الآخرة. وبهذا نجد أن فكرة الكفن أو الثوب عدّلت من مفهوم القتل تعديلاً غير قليل. إننا هنا إذاً، نتحرك في داخل علاقة متناقضة بين القتل أو الدم والثوب. ونرى أن الدم قد استحال في الحقيقة معناه ).
في البيتين المذكورين أربع صور للثياب – نسيج الحمد، أكفان الأجر، ثياب الموت الحمراء، السندس الأخضر. وهي جميعها رموز لمعنى واحد: الفضيلة والعظمة والطهارة.
يقول الشرّاح إن ثياب الموت الحمراء كناية عن الموت والقتل، وإنّ السندس الأخضر كناية عن الطهارة والسعادة الأبدية في جنان الخلد. ولكنّ تركيب الصورة يبدو أعمق من هذا التحليل الشكلي , جاء أبو تمام بثلاث صور مترادفة رمزياً، وهي معاً متعادلة مع الصورة الرابعة. وعليه يمكننا أن نرى العلاقة المعقّدة الذكية القائمة بين تلك الصور الثلاث: نسيج الحمد = أكفان الأجر = ثياب الموت الحمراء.
وهذا معناه أن ثياب المرثيّ المضرّجة بدمائه قد باتت كفناً له، فألبسته الحمد. وقد مرّ معنا أن الكفن رمز الطهارة والنقاء، وعليه تتخلى صورة الموت القاني عن دلالتها المنفّرة لتكتسب دلالة جديدة إيجابية من خلال علاقتها وترادفها مع صورة الكفن وبهذا تصبح المعادلة الكبرى: ( نسيج الحمد = أكفان الأجر = ثياب الموت الحمراء) = السندس الأخضر .
وإذا كانت الصور الثلاث الأولى مرتبطة بالحياة الأرضية، فإن الصورة الرابعة رمز إلى حياة الأبرار الصالحين المتسربلين بلباس المجد والنقاء. وهكذا تصبح حياة الإنسان الآخرة استمراراً لحياته الدنيوية .
من زاوية أخرى نجد ان أطياف الصورة متنوعة متداخلة بين زمان ومكان ولون فالمشهد الأول ثياب الموت { سوداء } وشحت { بالأحمر } دلالة القتل , ثم الدجى { الأسود } فالمشهد الأول قاتم يغلب عليه ( الأسود x الأحمر x الأبيض ) ثم يقابله المشهد الثاني وفيه الليل { أسود } والسندس { أخضر } ثم الشهادة { بيضاء } وإن لم يصرح بها بل ذكرت تلميحاً فالمشهد متكون من الألوان { الأسود – الأخضر – الأبيض }
في الصورة مشهدان مشهد الظلمة والعتمة والدم وغبار المعركة ينتشر في المكان ثم مشهد الفرح والسرور والخير والسؤدد والفوز بالجنة . صور أبو تمام المشهد الأول وقد طغى عليه السواد بما فيه من عتمة ونكوص وظلمة , وكذا اللون الأحمر بما فيه من رهبة وخوف ولون للدم ثم أورد المشهد الثاني { الذي أراد له ان يتفوق على مشهده الأول } حيث الخضرة , خضرة السندس الفوز بالجنة , والأبيض بما فيه من بهجة وفرح وانتصار فالشاعر أراد للمشهد الثاني أن يطغى على المشهد الأول فأضفى ألوان البهجة واغدق عنوانات الفرح والفوز عليه .
يستخدم أبو تمام الثوب برمزيته التقليدية , لكنه قد يتوسع في تلك الرموز قليلاً. فإذا كان الرداء رمزاً إلى الكرم والفضيلة، فإنه يجيز لنفسه أن يستخدمه رمزاً مناقضاً إلى العار
( فالبس ثياب الفضائح…). إن ارتداء الثوب يعني اكتساب الفضيلة وخلعه يعني التجرّد منها. أفاد أبو تمام من هذا المعنى وأعاد صياغته من نقيضه، فألبس مهجوّه ثياب فضائح، جاعلاً الثياب بذلك رمزاً إلى العار…
ولما كان الثوب رمزاً إلى الفضائل ومرتبطاً بالعافية الجسدية، كان من الطبيعي أن يستخدمه الشاعر رمزاً إلى العافية الكونية وجمال الطبيعة في الربيع. ( وألبسهم عصب الربيع…).
هذا، وقد تطورت صناعة النسيج في عصر الشاعر وباتوا يميلون إلى استخدام الفاخر منه. فرقّة النسيج تتناسب أكثر مع طبيعة الحياة المتحضّرة، لذلك لا نستغرب استخدام الشاعر صور النسيج الرقيقة الناعمة في مقام الغزل.
وفضلاً عن هذا وذاك نجد أن الثوب يكتسب معاني رمزية جديدة من خلال علاقته بالموت والقتال، فهو وقد استُخدِم رمزاً تقليدياً إلى الطهارة والفضيلة، أصبح أيضاً رمزاً إلى القوة والشجاعة. إن أبا تمام لم يقف عند حدود الرموز التقليدية في صوره، وإنما تجاوزها متوسعاً فيها، من غير أن يخرج على الإطار العام للفكرة الرمز. فرمز القوة والشجاعة غير منفصل عن سياق المعارك والحرب ورمزية الشهادة، وكذلك رمز جمال الطبيعة غير منفصل عن رمز العافية والحياة، والأمر نفسه نقوله في رمزية العار وغيره.
وهنا، نتساءل عن سرّ هذا الحشد من صور الثياب، لابدّ أن يكون لذلك دلالة وتفسير، ولابدّ أن يكون له صلة بذات الفنان، أمّا الجواب عن هذه التساؤلات فيمكننا أن نجده في طفولة الشاعر، فقد أجمع أكثر المؤرّخين له على أنه نشأ بدمشق وأنّ أباه كان عطاراً فيها، وأنه ألحقه بحائك كي يحسن حياكة الثياب . ربّما استمدّ أبو تمام إذاً عنايته بصورة الثياب من تلك الحرفة التي أرادها له أبوه ، وربما كان للعصر وطبيعته أثرهما في ذلك. لكّننا نميل إلى الاعتقاد الأول ، ولاسيما أنه قد وصلنا ما يؤكد صلة الشاعر بحرفة الحياكة.
*= صورة الماء :
وثاني الصور الرامزة صورة الماء، ولطالما استعملها القدماء في شعرهم. واستعمالها عندهم في العظيم المخبر والحسن المظهر ، لهذا غالباً ما نجدها في مقامي المديح والفخر.
لقد كانت لصورة الماء مكانة بعيدة من نفس أبي تمام، مما يشي بعلاقة خاصة له بها، ربما أمكننا إرجاعها إلى عمله سقّاء في مصر . هذه المكانة يمكننا أن نستشفّها من خلال استخدامه صور الماء في قوله ([165]):
إن يَنتَخِلْ حَدَثانُ الدّهرِ أَنْفُسَكُمْ *** ويَسْلَمِ الناسُ بين الحوضِ والعَطَنِ
فالماءُ ليسَ عجيباً أنّ أعذَبَه *** يَفْنَى ويَمْتَدُّ عُمْرُ الآجنِ الأسِنِ .
والصورة كما هو ظاهر فكرية تقوم على التجسيد الحسّي لفكرة مجرّدة مستَخَلصَة من معنى البيت الأول، كما أن الصورة بتركيبها العام قائمة على التضاد بين الحياة والموت، بين الماء العذب والماء الآسنِ. ولعلّ كون الماء أحد عناصر الحياة الرئيسية هو الذي استدعى إلى ذهن الشاعر صورتَها في مقام تجسيد العلاقة الجدلية بين الموت والحياة، وعشوائية الانتقاء.
وتظهر العناية بصورة الماء أشدّ في استخدامها وسيلة للتحويل من المجرّد إليها عن طريق الإضافة، وفي الإضافة إلصاق ([166]):
وعلا عارضَيْه ماءُ النَّدى الجا *** رِي وماءُ الحِجى وماءُ الشّبابِ .
وللصورة المائية عند أبي تمام أشكال عدة تختلف باختلاف رموزها، وإن كانت جميعها تنتهي إلى معنى واحد. فنحن نجدها في صورة البئر ([167]):
أَلَمْ تَرَ أنَّ الجَفْرَ جَفْرَكَ في العُلَى *** قريبُ الرِّشاءِ لا جَرورٌ ولا ثَمْدُ .
واستعمال الشاعر صور الرشاء والبئر والدلاء يَشِي صراحةً بصنعته سقّاء. كما نجد هذه الصورة المائية عنده في صورة الغيث ([168]:
بنانُ موسى إذا استَهلَّتْ *** للناسِ نابَتْ عن الغيوثِ .
وتلحق بها صورة الأنواء ، والمطر . وتتصل بصورة الغيث صور السيول ، والسحب والبرق والرعد . ولصور الكواكب والنجوم صلة وثيقة بالماء عامة وبالمطر خاصة. هذا ما يصل إليه نصرت عبد الرحمن أيضاً في قوله: ونرى أنّ صورة النجوم في الشعر تربط عادة بالمطر , كما يمكننا أن نجد لصورة الوادي أيضاً صلة بالماء، والوادي مجمع المياه
والصور المتقدمة جميعها على اختلافها شكلاً واتفاقها جوهراً، ذات مدلول رمزيّ واحد، فهي جميعها تفيد معنى الجود والكرم والعطاء، وفي العطاء حياة. فالماء، إذاً رمز الحياة، ولا شيء أدلّ على ذلك من ربطه بالثراء.
هذه الصلة بين الماء والجود يشير إليها أبو تمام بقوله ([169]) :
لو سِرْتَ لالتَقَتِ الضلوعُ على أسىً *** كَلِفٍ قليلِ السِّلْمِ لِلأَحشاءِ
ولَجَفَّ نُوَّارُ الكلامِ وقلّما *** يُلفَى بَقاءُ الغرسِ بعدَ الماءِ .
والماء عند أبي تمام ذو طبيعة ليّنة رقيقة ([170]):
باشَرَ الماءَ فَهْوَ في رِقّةِ الصَّنعةِ *** كالماءِ غيرَ أَنْ ليسَ يجري .
لكنه أحياناً يتسم بطابع القوة، ويتجلّى هذا خاصة في صورة السيل ([171]):
لَعَزْمُكَ مثلُ عَزْمِ السَّيْلِ شُدَّتْ *** قُواهُ بالمذانِبِ والتِّلاعِ .
وهو في كلتا الحالين محافظ على رمزه الإشراقي.
لقد بلغت عناية أبي تمام بصور الماء مبلغها، حتى إنّه خصّ بعض مقدمات قصائده المدحية بها ، بل إنه بنى بعض قصائده المدحية عليها . والصلة بين المدح بصفتي الجود والكرم والماء واضحة وثيقة.
وللماء عند أبي تمام في صوره المتقدمة صفة التدفق والغزارة . فالممدوح عين ماء غزيرة لمن أراد أن ينهل، وورود الماء منه سهل لا يحتاج إلى رشاء أو دلو . كما إنه نوء وغيث وسيل، وهذه كلها توحي بمعنى الغزارة والتدفق. وما الصلة بين الماء والتدفق في رأينا إلاّ نوع من أنواع المبالغة للدلالة على عظمة عطاء الممدوح وشموله واتساعه.
ونتساءل هنا: هل تعود كثرة استعمال أبي تمام لصور الماء إلى عمله سقاءً في مصر وحسب، أو أن هناك أمراً آخر يمكننا ادّعاؤه؟ إن الأخبار لا تخدمنا كثيراً في هذا المجال، ولكنّه يمكننا أن نرى للماء صلة بطبيعة البلاد الشامية الزراعية. فما اهتمام أبي تمام بالماء إلاّ نوع من التعبير غير المباشر عن أهمية الماء بالنسبة إلى الشاميين، فثراء البلاد واقتصادها يقومان أولاً على الجانب الزراعي. وعليه، فإن العطاء لن يكون وفيراً إلاّ إذا كانت الغلال وفيرة، وعليه أيضاً فإنّ العناية بالماء ماهي إلاّ صورة من صور الرغبة في الثراء والمجد والعظمة التي طمح أبو تمام إليها جميعاً.
*= صورة المرأة :
أما الصورة الرمزية الثالثة فهي صورة المرأة. وهي تحتلّ عند أبي تمام مكانة تتقدم على تلك التي احتلّتها الصورتان المتقدمتان. هذه المكانة لا تستمدها الصورة من كثرتها وحسب، وإنما من طبيعة استعمالها أيضاً.
وللمرأة الرمز صور متعددة تبرز فيها، فنجدها مثلاً في صورة العذرية. يقول أبو تمام في وصف الخمرة ([172]) :
أو دُرَّةٌ بيضاءُ بِكْرٌ أُطبقَتْ *** حَبَلاً على ياقوتةٍ حمراءِ .
وصفة العذرية مستملحة عند أبي تمام ، بل إنها الصفة الرئيسة المعبِّرة عن جمال المرأة في نظره. ومما يتصل بهذه الصفة صورة الناهد ، والكاعب . وصفتا النهود والكعوب يؤثرهما أبو تمام في المرأة، فيشير إليهما في قوله ([173]) :
أبا جَعْفَرٍ إنّ الجَهالةَ أُمُّها *** وَلُودٌ وأُمُّ العِلْمِ جَدّاءُ حائِلُ .
والجدّاء صغيرة الثدي، أما الحائل فهي المرأة ليست ذات حمل. وهاتان الصفتان لا تكونان إلاّ في العذراء صغيرة السن . ومما يدلنا على إيثار الشاعر هذه الصفات في المرأة إلصاقها بالعِلم، الأمر الذي يوحي بالصفة الإشراقية الإيجابية لهذه الصفات، وبمكانتها من نفسه. وفي البيت تضاد سافر بين ولود وحائل . مما يدلّنا أيضاً على إيثاره من النساء صغيرة السن البكر، ميله إلى ناعمات الملمس، المُلد ([174]):
إذا حَضُرَتْ ساحَ الملوكِ تُقبِّلتْ *** عَقَائِلُ منْها غيرُ ملموسةٍ مُلْدُ .
والمَلَد الشباب، والأَملد الناعم اللَّيِّن من الناس أو الغصون.
إن أبا تمام بناء على ما تقدّم يحصر الجمال الأنثوي في البِكر العذراء ، كاعبة الثدي، ناعمة الملمس.
وربما أفاد أبو تمام من صفات المرأة، بمختلف صورها للإيحاء بفكرة التضاد، فنجد لديه البكر والثَّيِّب متقابلتين , وكذا البكر والعوان في قوله ([175]:
لِيُنْجِحْ بجودِ مَنْ أرادَ فإنّه *** عوانٌ لهذا الناسِ وهْوَ لنا بِكْرُ .
وكذا أيضاً البكر والنصَف ، أو البكر والأيّم .
هذا ، وصور المرأة وثيقة الصلة بفكرة العطاء والجود، فهي غالباً ما تكون المعادل الحسي للصنيعة الحسنة والنعمة ([176]):
وصنيعةٍ لكَ ثيِبٍ أَهدَيْتَها *** وهْيَ الكَعَابُ لعائذٍ بك مُصْرمِ
حلّتْ محلّ البكرِ مِنْ مُعْطَىً وقَدْ *** زُفَّتْ مِنَ المُعْطى زِفافَ الأيِّمِ .
والصورة هنا أيضاً توحي بفكرة التضاد. والتضاد قائم بين الكاعب والبكر من جهة، وبين الثيِّب والأيّم من جهة ثانية. والأيّم من لا زوج لها، أما الثيّب فهي نقيض البكر، المتزوجة. وهنا أيضاً نلاحظ سيطرة صورة العذرية وتقدّمها على الصور الأخرى، مما يشي بإيثار خاص لها. وتشيع عند أبي تمام الصور الجنسية، فتكثر لديه صور الافتراع. يقول مادحاً ([177]):
انظرْ وإياكَ الهوى لا تُمكِنَنْ *** سُلْطانَهُ مِنْ مُقْلَةٍ شَوْساءِ
تَعلَمْ كَمِ افْتَرَعَتْ صدورُ رِماحِهِ *** وسيوفِهِ من بَلْدةٍ عذراءِ
فتعامُل الممدوح مع البلدان كالتعامل مع المرأة البكر. وعناية أبي تمام بهذه الصور ما هي إلاّ تعبير لا شعوري عن نزعته الذكورية. ولا شيء أدلّ على ذلك من تكرار هذه الصورة لديه وتلذّذه بإيرادها. يقول في وقعة عمورية يصف هذه المدينة ([178]) :
بِكرٌ فَمَا افتَرَعَتْها كفُّ حادثةٍ *** ولا تَرَقَّتْ إليها هِمَّةُ النُّوَبِ .
فهذه المدينة بكر عذراء لم يتمكن من افتراعها إلاّ المعتصم . ومن هذه الصور عنده قوله يمدح ([179]):
حَمَلَتْ رَجَايَ إليكَ بِنْتُ حديقةٍ *** غَلْبَاءُ لم تُلْقَحْ لِفَحْلٍ مُقْرِفِ .
يقول التبريزي: يريد سفينة لأنها من خشب الحديقة، وجعل الحديقة التي هي الأرض ذات الأشجار مؤنثة، وجعل السماء فحلها، لأنها تلقحها بمطرها .
هذه العلاقة بين الطبيعة والسماء تستدعي إلى ذهن الشاعر العلاقة بين الرجل والمرأة، وكأنّ الأرض زوج السماء. وبهذا الشكل يكون الكون كله في نظر أبي تمام متحداً في الوجود كاتحاد الرجل بالمرأة، وذا علاقة جدلية بين أطرافه كتلك العلاقة القائمة بين الزوجين. وثمرة التفاعل هذه هي الولد، وهو حياة جديدة. والحياة الجديدة في علاقة الأرض بالسماء هي النبات. هذا، والعلاقة بين الطرفين هادئة منسجمة مشرقة. يقول أبو تمام في وصف المطر( [180]):
ترى الأرضَ تهتزُّ ارتياحاً لوَقْعِهِ *** كما ارتاحَتِ البِكرُ الهَدِيُّ إلى البَعْلِ .
إنَّ كلاًّ من الصورتين ( الأرض والمطر، والبكر والبعل ) تعطي الأخرى معناها الرمزي. ومن ثمّ الصورتان معاً توحيان ببعد رمزي مشرق .
ولمّا كانت هذه هي علاقة أركان الوجود بعضها ببعض، فإننا لا نستغرب أن يجعل أبو تمام صنعة الشاعر شبيهة بعلاقة الرجل بالمرأة. إنّ مثله مثل الكون من حوله، لن يكون هناك مولود جديد أو حياة جديدة بغير علاقة التواصل هذه. وعليه، فالشعر هو الحياة الجديدة المولودة من تفاعل تجربة الشاعر بفنّه , ([181]):
والشعرُ فَرْجٌ ليستْ خَصِيصَتُهُ *** طولَ الليالي إلاّ لِمُفْتَرِعِهْ .
وهذه الصورة مستعملة عند الشاعر في غير هذا المكان , ومثلها في الإشارة إلى هذا المعنى صورة الحمل ، وصورة الزواج والطلاق .
هذه الصور عند أبي تمام تشي بنزعة ذكورية في تعامله مع المرأة. وهذه النزعة تظهر لنا بجلاء في قوله ([182]):
ليتَ نصفي على الفرا *** شِ لحافٌ لِنِصْفِها
فأنالُ الذي أريدُ *** على رغمِ أَنفِها .
في فعل الغضب هذا تتجسّد لنا كلّ معاني الذكورة والأنانية والقوة والتعالي التي كانت تتسم بها شخصية أبي تمام.
وإذا كان الشاعر في بعض الأحيان يصور لنا تعاليه عن التأثّر بدموع النساء ومفاتنهن، كما في قوله ([183]):
وما الدَّمْعُ ثانٍ عَزْمَتي وَلَو انَّها *** سَقَى خَدَّها مِنْ كلِّ عَيْنٍ لها نَهْرُ .
فإنه قد أحبّ المرأة في الصميم، وحبّه لها لم يكن حباً بريئاً، وإنّما هو حبّ مادّيّ. أما صيحات التعالي والكبرياء هذه فما هي إلاّ غلالة يستر بها شغفه بالمرأة، مما يتناسب مع نزعة القوة والتعالي لديه. هذا الشغف وذاك الحب العميقان يظهران لنا بجلاء في قوله ([184]):
يقولونَ هل يبكي الفَتَى لِخَرِيدةٍ *** متى ما أرادَ اعتاضَ عَشْراً مكانَها
وهل يستعيض المرءُ مِنْ خَمْسِ كفِّهِ *** ولَوْ صاغَ مِنْ حُرِّ اللُّجَيْنِ بَنَانَها؟
وأبو تمام في موقفه يخالف البحتري، وإن كان هذا الأخير أعمق وجداناً وتعبيراً، وله قصة حب عنيفة مع علوة الحلبية فقد ذهب البحتري إلى إيثار موت البنات وبقاء البنين :
ومِنْ نِعَمِ اللهِ، لاشَكَّ فيه، *** بقاءُ البنينَ وَمَوْتُ البناتِ ([185]).
بل إننا نجده في تعزيته أبا نهشل عن ابنته يعاتبه على حزنه. فهل يُبْكَى من لا ينازل بالسيف ومن لا يعدل الأموال والبنين زينةً في الحياة الدنيا، ومن ولدت الأعداء، ومن كانت عاراً وذلاًّ لبعض الناس، ومن كانت سبب زلّة آدم؟ ([186]):
أَتُبَكّي مَن لا يُنازِلُ بالسَّيْـ *** ـفِ مُشيحاً ولا يهزُّ اللِّواءَ؟
ولعمري ما العَجْزُ عنديَ إلاّ *** أن تبيتَ الرجالُ تبكي النساءَ ([187]).
ويبدع أبو تمام في رسم صورة الفراق وقسوته وشدة أثره يقول ([188]:
ما اليوم أول توديع ولا الثاني *** البينُ أكثرُ من شوقي ومن أحزاني
دع الفراق فإن الدهر ساعده *** فصار أملك من روحي بجثماني
خليفة الخضر من يربع على وطن *** في بلدة فظهور العيس أوطاني .
مضمون هذه الصورة يدور حول الزوال والفراق وما يشبه العدم , وأن الفراق إن ألم بشخص أثر في نفسه وأصبح ملازماً له يهيج الذكري ويزيد الوجد والشوق , ولكن يخفف من ذلك ظهور العيس التي اتخذ منها موطناً ولعله بهذا يرمز إلى التنقل من بلدة لأخرى ومن موطن لآخر .
*= الصورة الحركية :
أدرك أبو تمام بعمق إحساسه جمالية الحركة، فهو يرى من خلال التضاد أن الحركة هي الأصل في حسن الطبيعة وجمال الأرض على خلاف الأشياء المصنوعة الثابتة ,يقول ([189]) :
أَوَلا ترى الأشياءَ إنْ هِيَ غُيِّرَت *** سَمُجتْ وحُسْنُ الأرضِ حينَ تُغَيَّرُ
والتضاد عند أبي تمام وسيلة من وسائل الإيحاء بالحركة. يقول ([190]):
لَحِقْنا بأُخْراهُمْ وقد حَوَّمَ الهَوَى *** قلوباً عَهِدْنا طيرَها وهي وُقَّعُ .
فبين (حوَّم ) و( وقّع ) تضاد، الغاية منه الإيحاء بشدة حركة التحويم بالنسبة إلى سكون الوقوع . هذه الحركة ما كان بإمكان الشاعر أن يرسمها لنا أو يوحيها إلينا لولا علاقة التضاد بين التحويم والوقوع. والحركة هنا شعورية تصوّر حالة نفسية زاخرة بالحياة والاضطراب. وأبو تمام بارع في رسم هذه الصورة الباطنية الداخلية، كما في قوله : ([191])
قَدْ أُتْرِعَتْ منهُ الجوانحُ رهبةً *** بَطَلَتْ لديها سَورةُ الأَبطالِ
لو لم يزاحفْهمْ لزاحفَهمْ لَهُ *** ما في صدورهمُ مِنَ الأوجالِ .
وقد تتخذ الحركة عند أبي تمام شكلاً أفقيّاً، يعبّر بها عن الاتّساع والانتشار. يصف الخمرة فيقول ([192]) :
إذا هيَ دَبَّتْ في الفَتَى خالَ جِسْمَه *** لِما دبَّ فيهِ قَريَةً مِنْ قُرى النَّمْلِ .
والحركة هنا بطيئة وأبو تمام بارع في التقاط الصور الحية من حوله، وإن كانت غريبة. لكنّ البطء ليس سمة عامة للحركة عند أبي تمام ، وهو القائل بالحركة والفعل، وصاحب المزاج العصبي المتناقض . فالحركة عنده تغلب عليها صفة السرعة، والسرعة مرسومة بأشكال متعددة، فنحن نراها في ( سرعة النبل ) ( ( [193]
ألحاظه في الخَلْق مُسْرِعَةٌ *** فيما يُريدُ كَسُرْعةِ النَّبْلِ .
كما نراها في صور التدفّق ، والخضخضة ، واللعب ، والانحطاط من العالي ، والانقضاض ، والانهمار ، بل إنها خَطْفٌ ولَمْحٌ , يقول ([194]):
بَرْقٌ إذا بَرْقُ غَيْثٍ باتَ مُخْتطِفاً *** لِلطَّرْفِ أصبَحَ للأعناقِ مُخْتَطِفَا .
وقد يفيد أبو تمام من الأمثال ليكني بها عن السرعة ، كما في قوله ([195]):
قَبيلٌ وأهلٌ لم أُلاقِ مَشُوقَهُمْ *** لِوَشكِ النّوى إلاّ فُواقاً كلا ولا .
يقول المعري في شرح هذا البيت: ( يقال كان ذلك كلا ولا أي وشيكاً عَجِلاً، والمعنى أن الإنسان إذا نَهَى غيرَه يُكّرِر { لا } مثل أن يقول له اذهبْ إلى موضع كذا فيقول لإرادة المبالغة { لا لا } فيجيء الحرفان متصلين لا تفاوت بينهما فجعلوه مثلاً في السرعة ).
هذا، ونلاحظ فيما تقدَّم أن الحركة السريعة عند أبي تمام مرتبطة بصفة القوة. هذه الصفة في الصور الحركية تبدو أوضح في قوله ([196]):
أَذَابَ سنامَها قطعُ الفيافي *** ومزّقَ جِلدَها نَضْجُ العصيمِ .
وتحتَ ذاكَ قضاءٌ حَزُّ شفرتِهِ *** كما يَعَضُّ بأعلى الغاربِ القَتَبُ .
فصور الإذابة والتمزيق والحزّ والعض، كلّها صور حركية تقوم على فعل قوة. وأمر آخر نلاحظه في هذه الصور، وهو تأسيسها على أفعال.
وهذا في رأينا بتأثير الفكر، بل هو أحد أساليبه. ولعلّنا نجد في هذه الفعلية ما يعمّق الصفة الحركية في الصورة , هذا المنحى الفكري الغالب على صور أبي تمام الحركية، يبدو لنا واضحاً في قوله ([197]):
نَوىً كانقضاض النَّجمِ كانتْ نتيجةً *** مِنَ الهَزْلِ يوماً إنّ هزلَ الهوى جِدُّ
حيث يقوم بتحويل المجردات إلى أفعال حركية ، فالنوى ينقضّ، وسماء الجود تنهمر . وفي هذا التحويل أبلغ دلالة على حركية ذهن أبي تمام، فهو لا ينظر إلى المجرّدات بجمودها الفكري وإنما يسبغ عليها حركية حسية، والحركة زمن والزمن فكر . إن نظرة أبي تمام إلى الكون نظرة حركية ترى الأشياء متحركة متفاعلة بعضها مع بعض، لهذا كان لابدّ أن تظهر هذه الحركية حتى في صوره المجرّدة. وما هذا الامتزاج بين المجردات والحركة الحسية، في الواقع، إلاّ صورة لمذهب الشاعر القائم على مزج الحسّ بالفكر.
هذا التجسيد الحركي لصور المجردات يبدو لنا أيضاً في قوله ([198]) :
مُقَصِّرٌ خُطُواتِ الهم في بَدَنِي *** عِلْماً بأنّي ما قَصَّرْتُ في الطَّلَبِ
يقول الآمدي: ( فجعل للهم – وهو أشد الحزن- خطواتٍ في بدنه، وأنه قد قصرها، لأنه ما قصر في الطلب، وهذا من وساوسه المحكمة ). فالآمدي، برغم مآخذه على الشاعر، معترفٌ له بإحكامِ الصنعة والتصوير. والصورة هنا قائمة على التجسيد الحركي لصورة مجرّدة وحالة نفسية شعورية.
ومثلما برع أبو تمام في تحريك المجرّدات، كذلك برع في تحريك الجمادات، مما لا يمكن تحريكه، كالوجوه والعيون ( [199]):
لو يقدِرون مَشَوْا على وَجَناتهمْ *** وعيونهمْ فضلاً عن الأقدامِ .
وفي هذا دليل آخر على حركية ذهن أبي تمام. إن جميع هذه الصور قائمة على المبالغة، والغرض منها التعظيم والتفخيم والتهويل.
بقي أن نلاحظ الحركية في صورة الجمع، والحركة فيها داخلية تدور حول نقطة واحدة، هي ملتقى الإشعاعات على اختلافها. يقول أبو تمام ([200]):
جَمَعْتُ شَعَاعَ الرّأيِ ثُمَّ وَسَمْتُهُ *** بِحَزْمٍ له في كُلِّ مُظْلِمةٍ فَجْرُ .
ولمّا كان الجمع يعني الائتلاف الذي قد يكون بين المختلفات، فإن صورة الجمع بالتالي صورة فكرية تقوم على موقف فكري من الكون قوامه التأليف بين المتناقضات.
*= حرفية الصورة :
أما الحرفية، وهي أحد أنماط التصوير التقليدي وأحد أساليب الوضوح التصويري، فإننا نجد لها نماذج كثيرة عنده مثال هذه الحرفية الشكلية عند أبي تمام قوله ([201]):
كأنّ بني نبهانَ يومَ وفاتِه *** نجومُ سماءٍ خَرَّ مِنْ بينها البدرُ .
ومن جيدِ غيداءِ التثنّي كأنّما *** أَتَتْكَ بِلَيْتَيْها مِنَ الرَّشَأِ الفَرْدِ .
فجعل بني نبهان في البيت الأول نجوماً كما جعل المرثي بدراً في صفة الضياء الغالب على ضياء النجوم. أمّا وقد مات فإن الفاجعة شديدة، وكأنما البدر قد سقط من بين النجوم، فساد الظلامُ الكونَ. وفي البيت الثاني جعل جيد فتاته شبيهاً بجيد الرشأ الفردِ في صفة الحسن، وهي صورة تقليدية. ومن هذه الصور الحرفية التي تعتمد على الحسية الشكلية أيضاً قوله ([202]) :
أصداغُهُ ألِفٌ ولامٌ **** ولِحاظُهُ سَيفٌ حُسَامُ .
وقد يعتمد أبو تمام في بعض قصائده على هذه الصور الحرفية أساساً للتصوير الشعري. نجد ذلك مثلاً في القصيدة السادسة حيث يقول : رقم القصيدة 15654
الحسنُ بنُ وَهْب *** كالغيثِ في انسِكابِهْ
في الشَّرْخِ من حِجَاهُ *** والشَّرْخِ من شَبَابِهْ
وحُلَّةٍ كَسَاها *** كالحَلْيِ والتهابِهْ
وفي هذه الحرفية، بالشكل الذي وردت عليه، إشارة إلى كذب العاطفة. فالشاعر في القصيدة معنيّ بتتبُّع الصور بغية التعجيب دون التعبير عن عاطفة حقيقية. لكنّ الحرفية عند أبي تمام ليست خالصة، فهناك دائماً شيء جديد داخلٌ فيها. يقول ([203]):
وجوهٌ لَوَ انَّ الأرضَ فيها كواكبٌ *** تَوَقَّدُ لِلسَّاري لَكُنَّ كواكِبا .
فجعل الوجوه شبيهة بالكواكب، لكنه قيّدها بالشرط وهو أحد أساليب التصوير الفكري، فأخرج الصورة بذلك عن الجمود التقليدي والجفاف التصويري.
ويقول أيضاً ([204]) :
لَمَعَتْ أَسِنَّتُه فَهُنَّ مَعَ الضُّحَى *** شَمْسٌ وهُنَّ مع الظَّلامِ نُجُومُ .
في هذا البيت يشبّه أبو تمام الأسنّةَ بالشمس تارة وبالنجوم تارة أخرى. ولو اقتصر الأمر على ذلك لكانت الصورة جامدة جافة، لكنّ الشاعر ببراعته الفكرية أخرجها مخرجاً جديداً عن طريق الاقتران الزمني في صورة المشبه به: فهذه الأسنة شمس مع الضحى ونجوم مع الظلام. وهذا الأمر دليل واضح على نزعة أبي تمام التصويرية، وميله إلى عدم الإخلاء. فالصورة الواحدة (الأسنة) كانت تستدعي إلى ذهنه أكثر من مثيل ونظير (الشمس والنجوم).
وتبلغ براعة أبي تمام التصويرية به أن يفيد من الصور التقليدية، فيركّب من أكثر من صورةٍ صورةً جديدةً هي خلاصة هذه الصور مجتمعة، وإن لم يكن لها رصيد واقعي. فعمق ثقافة الشاعر ورهافة إحساسه ويقظة فكره أهّلته لأن يفيد من تلك الصور التراثية، فيفكك علاقاتها ويخلق منها صورة جديدة. يقول في وصف فرس ([205]) :
هَادِيِهِ جِذعٌ مِنَ الأراكِ وما *** خَلفَ الصَّلا مِنْهُ صَخْرةٌ جَلْسُ .
إن جيد الفرس يشبه جذع الشجرة من حيث الضخامة، كما يشبه نبات الأراك من حيث الملاسة. والصورتان بهذا الشكل العلاقة فيهما حرفية حسية شكلية. فأخذ الشاعر هاتين الصورتين وفكَّك تلك العلاقة فيهما، ثم أعاد تركيبهما في صورة جديدة(جذع من الأراك)، وهي صورة غير واقعية، إذ إنّ نبات الأراك لا جذوع له.
*= وتنقلنا الصورة الحرفية إلى أسلوب تصويري ثالث، طالما أُعجِبَ القدماء به وعدّوه عنواناً لبراعة الشاعر. هذا الأسلوب هو أسلوب التكثيف التصويري، حيث يعمد الشاعر فيه إلى حشد الصور في قصيدته. وكلما استطاع أن يكثّف هذا الحشد في بيت واحد كان أبرع وكان البيت أروع.
وأبو تمام شاعر الصور، وإذا كان لا يتكلم إلا بصور فإن هذا لا يعني تقليديته، فالتكثيف عنده يخرج على الحدود الحسية ليتناول الأمور الفكرية. إنه تكثيف فكري، وهذا في رأينا أصعب من النمط الحسي الذي شاع في بعض نماذج الشعر القديم.
من هذا التكثيف عند أبي تمام قوله ([206]) :
كالخُوطِ في القَدِّ والغزالةِ في البهجةِ *** وابنِ الغزالِ في غَيَدِهْ
ثلاث صور اجتمعت في هذا البيت لترسم صورة المحبوب. إنه كالغصن في حسن قوامه، وكالشمس في إشراق وجهه، وكولد الغزال في تثنيه. والصور جميعها حسية حرفية.
ومن تكثيفه أيضاً قوله ( [207]):
إِقدامَ عَمْرٍو في سماحةِ حَاتِمٍ *** في حِلْمِ أحنفَ في ذكاءِ إياسِ .
يأتي هنا لممدوحه بأربع صور، فهو مثل عمرو بن معد يكرب في صفة الإقدام، ومثل حاتم الطائي في السماحة والجود، ومثل الأحنف بن قيس في صفة الحلم، ومثل إياس بن معاوية في صفة الذكاء.
والصورة هنا حرفية تقليدية، لكنّ أبا تمام يرفدها بصورة فكرية، الأمر الذي يُخرج هذه الحرفية مخرجاً فكرياً ([208]):
لا تُنكروا ضَربي لَهُ مِنْ دُونِهِ *** مَثَلاً شَروداً في النّدى والباسِ
فالله قد ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ *** مَثَلاً من المِشكاةِ والنِّبراسِ .
وإذا كان أبو تمام قد رفد الصورة الحرفية هنا بصورة فكرية، فإنّه قد يكثّف في الصور الفكرية نفسها ( [209]) :
فاضْمُمْ أَقاصِيَهُم إليكَ فإنّهُ *** لا يَزْخَرُ الوادي بِغَيرِ شِعابِ
والسَّهمُ بالرّيشِ اللُّؤَامِ ولن تَرَى *** بَيتاً بلا عَمَدٍ ولا أَطنابِ
يأتي أبو تمام هنا لفكرته بثلاث صور حسية. أما الفكرة فهي عظمة شأن الممدوح بقومه وأقاربه، وأما الصور الحسية فهي صورة الوادي والسهم والبيت: مثل الممدوح مثل هذه الصور، فكما أن الوادي لا يعظم سيله حتى تدفع فيه الشعاب التي حوله، وكما أن السهم لا تستقيم إصابته إلاّ بلأم ريشه، وكما أن البيت لا يستقيم إلاّ بعمده وأطنابه، كذلك الممدوح لن تتم سيادته إلاّ بقومه وأقاربه. وهو بذلك يحضّه على التأليف لهم، والصبر على مكرههم، واحتمال أذاهم، والصفح عن جانيهم، لأنه لن تتم له السيادة بغير ذلك.
وغالباً ما يعمد أبو تمام إلى هذا التكثيف في مقدمة قصائده، وكأنما يريد بذلك لفت النظر إلى صنعته، حتى إذا ما مضى في القصيدة قلّ هذا التجمّع الصوري، وبدأت تنساب الأبيات انسياباً، ولكنْ من غير أن تبتعد عن الصنعة التصويرية والزخرف البديعي.
يقول في مقدمة قصيدته في عمورية ([210]):
السيفُ أصدقُ أنباءً مِنَ الكُتبِ *** في حَدِّهِ الحَدُّ بينَ الجِدِّ واللَّعِبِ
بيضُ الصّفائحِ لا سودُ الصحائفِ *** في متونهنَّ جلاءُ الشكِّ والرِّيَبِ
والعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامعةً *** بين الخَمِيسَيْن لا في السبعةِ الشهبِ
ويقول في مقدمة قصيدته في الربيع ([211]):
رقَّتْ حواشي الدَّهْرِ فَهْيَ تَمَرْمَرُ *** وغدا الثّرى في حَلْيِهِ يَتَكسَّرُ
نَزَلَتْ مقدّمةُ المصيفِ حميدةً *** ويدُ الشتاءِ جديدةٌ لا تُكفَرُ
لولا الذي غَرَسَ الشتاءُ بكفِّهِ *** لاقَى المصيفُ هشائماً لا تُثْمِرُ
إن الفنان عامة، والشاعر خاصة، يتألف عمله من مجموعة دفقات، كل واحدة منها تبدأ شديدة عنيفة غزيرة، ثم تهدأ لتعود من جديد إلى شدتها وعنفها. هذه الدفقة قد تكون في وسط القصيدة، وقد تكون في أوّلها، وقد تكون في آخرها. أما أبو تمام فإنها تبدأ معه من أول القصيدة لتستمر غالباً إلى نهايتها. وهذا دليل واضح على براعة الشاعر الإبداعية، وعلى تملكه أداته التصويرية.
وليس غريباً أن يعمد أبو تمام إلى التكثيف في شعره، وقد قلنا إنه يتكلم بصور ولا يكاد يخلي بيتاً من غير أن يضمّنه صورة. مثال الكلام بصور عنده قوله ([212]) :
فَسَقَاهُ مِسْكَ الطَّلِّ كافورُ الصَّبَا *** وانحَلَّ فيهِ خَيْطُ كُلِّ سماءِ .
أنضرَتْ أَيكَتي عطاياكَ حتّى *** صارَ ساقاً عُودِي وكانَ قضيبا .
وعناية أبي تمام بعدم الإخلاء والتكثيف في الشعر قد تخرجه إلى التكلّف والإغراق في الصنعة. نجد ذلك في قوله ([213]):
بِحَوَافِرٍ حُفْرٍ وصُلْبٍ صُلَّبٍ *** وأَشاعِرٍ شُعْرٍ وخَلْقٍ أَخْلَقِ .
*= التجديد في رسم الصورة الشعرية :
لم يستند إلى الأوصاف الجاهزة أو المعلبة ولم يتعكز على الصورة المكررة وإنما سعى نحو أطر جديدة ومضامين مبدعة حيث عالج المعاني الجديدة وفتق أكمامها كما تفتق شمس الربيع أكمام الأزهار وأزاح عنها غبار السنين كما تنزاح عن وجوه الجواهر . ومن المعاني التي فتق أكمامها قوله :
إلى الحسن اقتدنا ركائب صيّرت *** لها الحزن من أرض الفلاة ركائبا
هذه الركائب قد ركبت الأرض فالأرض ركائب لها , واعتمد المشهد على التلاعب في فكرة الثابت والمتحول فهذه الأرض لم تعد ثابتة بل غدت متحولة منتقلة تنتقل بانتقال الممدوح , فالأرض جميعاً راغبة في أن تسعى إلى ذاك الممدوح ليدلك على عمق الرغبة التي ملكت من على الأرض لتغدو الأرض ومن عليها في شوق وتلهف إلى الممدوح ولا شك أن الصورة حادثة مبدعة فيها أنسنة للأرض وإخراج من إطارها الثابت المألوف .
ويقول ([214]):
أطلّ على كُلى الآفاق حتى *** كأن الأرض في عينيه دار
كلى جمع كلية , واستعارة للآفاق لأن من أطّلع على كلية الشيء فقد خبر أمره إذا كانت الكلية لا تكون إلا في الباطن . إن استعارة الكلى الحيوانية إلى الآفاق هو تجسيم لها إذ جعل من الآفاق كائناً مشاهداً ليدلل على بعد نظر الممدوح وعلى قدرته على التعمق في أصل الأشياء فهو لا يكتفي بالاطلاع على المظهر بل يتعمق في الجوهر , وبالتالي فإن تجسيم الآفاق وتحويلها إلى مشاهد مرئية ينضج فكرة القدرة الاستشراقية التي يتمتع بها الممدوح .
ويقول أيضاً ([215]) :
حتى غدت وهداتها ونجادها *** فئتين في حلل الربيع تبختر
صورة رائعة وغريبة , والأغرب هذا التداخل بين الزمان والمكان في صورة الشاعر وهداتها ونجادها وحلل الربيع . وكيف تحولت تلك الوهاد والنجاد بما تحمله من خضرة ربيعية متبخترتين في حلتها البهية , ماذا علينا لو رسمنا هذه الصورة , فكيف سنرسمها بل كيف سنتخيلها وهاداً ونجاداً تتبختر على حجمها وجمالها .
وتصادفنا صورة رابعة عند أبي تمام، طالما أُولع بها، وكثرت استعارته لها، وهي صورة الأخدع في قوله ([216]) :
فضربْتَ الشتاءَ في أخدعَيْهِ *** ضَربةً غادرَتْهُ عَوْداً رَكُوبَا
وقد لفت أبو تمام بولعه بهذه اللفظة أنظار النقاد قديماً وحديثاً حتى تمنى بعضهم لو صفع الشاعر في أخدعيه . وأبو تمام مسبوق إلى هذه اللفظة، فقد سبقه إليها الصّمّة بن عبد الله والفرزدق وغيرهما , لكنّ الفارق بين هؤلاء وبينه، هو أنّ : هؤلاء نَحَوا في الاستعارة منحى قريباً، فجاءت مقبولة في شعرهم سائرة على مذاهب العرب في الاستعارة، أمّا أبو تمام.. فكانت استعارته مغرقة في التقعّر، مما أطلق ألسنة النقّاد عليه , صورة طريفة إذ جعل الشتاء بوعوثة ثلوجه فرساً جامحاً وجعل انتصار أبي سعيد فيه كأنه ضربة سددت إليه فقضت على جموحه وشراسته , ويتم الصورة فيقول :
لقد انصعت والشتاء له وجه *** يراه الرجال جهماً قطوباً
طاعناً منحر الشمال متيجاً *** لبلاد العدو موتاً جنوباً
*= نخلص إلى أن أبا تمام لم يكن له مذهب جديد وإنما كان له طريقة جديدة في الالتقاط والاعتناء والتأليف فكل جزئية من جزئيات هذا المذهب قد سبق إليها فمسلم اعتنى بالبديع والجناس وأبو نواس بالمعاني وغزارتها وإمامهم في هذا بشار ولكن كل هذه الجزئيات – مبالغاً فيها – لم تجتمع لأحد مثل ما اجتمعت لأبي تمام فخرج على الناس بنوع جديد من الشعر تضافرت فيه العاطفة الجياشة الصادقة إلى جانب العقلانية والتكثيف التخييلي , فهو يغوص على المعاني العقلية غوصاً ثم يرفعها إلى السماء ويعمل فيها خياله البعيد ويختار لها الألفاظ ويعنى ببديعها وجناسها فتم له من معانيه العميقة إلى القاع وخياله المرتفع إلى السماء وألفاظه المتجانسة نوع جديد من الشعر لم يسبق إليه .
*= وينبغي أيضاً أن نكشف أن أبا تمام التزم بأمرين رئيسين في منهج قصائده : أولهما يتعلق بالشكل الفني العام وما احتواه من جزئيات استوقفت الناقد العربي القديم حتى بدا أبو تمام شديد الأمانة في التعلق بأهداب التراث فلم يشأ أن يضرب عنه صفحاً ولا أن يوليه ظهره بل راح ينهل منه ويسجل ولاءه للنموذج التقليدي لقصيدة المدح العربية تلك التي لم يكن ليخرج على روحها بحال ولم يعلن ثورته ولا تمرده عليها .
والثاني : أن أبا تمام قد استبطن التراث ووعاه ولكنه لم يستسلم له في موقف الخاضع المستعبد بقدر ما طوعه لطبيعة ثقافته ولنمط تكوينه العقلي فاقتحم مجال التصوير والصياغة اللفظية ليعكس من خلالهما معا ما أراد من فروع ثقافته ومصادرها العديدة والمتنوعة .
وبعد …. ذلكم أبو تمام حامل لواء الشعر العربي في عصره , أحد جهابذة الكلام وقبلة أصحاب المعاني وقدوة أهل البديع من الشعراء الذين أسسوا عظمة الشعر العربي وصنعوا مجدنا الشعري.
المراجع
[1] ) ديوان أبي تمام 3/ 309
[2] ) انظر : طبقات الشعراء المحدثين ص:268
[3] ) انظر : شرح ديوان الحماسة 3/ 972
[5] ) انظر : شرح ديوان الحماسة 1/ 3.
[6] ) انظر : حديث الشعر والنثر لطه حسين ص : 106.
[7] ) انظر : ديوان أبي تمام 2/ 324 .
[8] ) انظر : ديوانه : 1/ 22
[9] ) انظر : الديوان : 3/ 338
[10] ) 1/ 28
[11] ) 3/ 225
[12] ) 4/ 311
[13] ) الديوان : 2 / 249-250
[14] ) انظر : الديوان 1/ 197, 1/ 421
[15] ) 2/ 55
[16] ) 1/ 397.
[17] ) 3/330
[18] ) انظر : الديوان 2/ 23
[19] ) انظر ديوانه : 2/ 182.
[20] ) انظر :4 /209
[21] ) 2/ 160
[22] ) 4/ 331
[23] )3/ 117
[24] )2/ 135
[25] ) 2/ 362
[26] ) 2/ 77
[27] ) 3/11
[28] ) 1/ 405
[29] )1/206
[30] )1/20
[31] ) 2/ 256
[32] )4/ 191
[33] ) 2/45
[34] ) 2/307
[35] )1/386
[36] )1/222
[37] ) 1/ 397
[38] ) 1/174
[39] ) 1/ 213
[40] )1/405
[41] ) في اشعر العباسي 96.
[42] ) الفن ومذاهبه 239
[43] ) الخصومة بين القدماء والمحدثين 70
[44] ) 3/ 82.
[45] ) 1/23
[46] ) منهاج البلغاء 19
[47] ) 1/258
[48] ) 4/ 445
[49] ) 3/ 112-114
[50] )2/192-194
[51] )1/ 403
[52] ) 1/ 205
[53] ) 1/ 160
[54] ) 2/ 360
[55] ) 2/ 47
[56] )4/613
[57] )1/53-54
[58] )3/187
[59] )2/ 452
[60] )2/25
[61] )2/330
[62] ) 1/ 129
[63] ) 2/431
[64] ) 1/ 201
[65] ) 1/261
[66] )4/81
[67] )1/ 61
[68] ) 4/636
[69] )3/56
[70] )2/41
[71] )2/208
[72] )3/250
[73] )1/156
[74] )2/32
[75] )1/403
[76] )2/ 249
[77] )2/415
[78] )3/ 244
[79] )2/391-392
[80] )4/159
[81] )1/22
[82] ) انظر : أخبار أبي تمام للصولي ص : 35
[83] ) انظر : سر الفصاحة ص : 134.
[84] ) المثل السائر 2/152
[85] ) انظر : النقد المنهجي عند العرب ص : 98. [86] ) 1/23-24
[87] )1/29
[88] )1/35
[89] ) 2/111
[90] )1/30
[91] )1/32
[92] )3/339
[93] ) الموازنة 1/265
[94] ) الوساطة40
[95] )1/408
[96] )3/22
[97] ) شرح مشكلات ديوان أبي تمام 228
[98] )4/46
[99] )2/191
[100] )2/88
[101] ) 2/ 90
[102] )1/307
[103] )2/192
[104] )1/46
[105] )1/49
[106] )1/216
[107] )4/79
[108] )4/79
[109] )1/20
[110] )2/191
[111] )2/148
[112] )1/291
[113] )2/402
[114] )1/40
[115] )2/198
[116] )1/157
[117] )2/243
[118] )4/99
[119] ) أسس النقد الادبي عند العرب ,احمد بدوي 298
[120] )2/10
[121] )1/290
[122] ) 3/301
[123] )2/266
[124] )3/144
[125] )1/360
[126] )3/213
[127] ) 1/ 113
[128] ) 2/292, 3/254
[129] )3/73
[130] ) 2/ 171, 2/ 454
[131] )1/324
[132] )2/239
[133] )1/353
[134] )1/332, 2/ 144
[135] )2/229
[136] )2/450
[137] )2/452
[138] )3/ 296, 1/ 191
[139] )2/425, 4/76
[140] )3/109
[141] )3/190
[142] )3/274
[143] )1/174
[144] )4/590
[145] )4/207
[146] )4/212
[147] )4/45
[148] )2/415
[149] )3/217
[150] )2/447
[151] )2/375
[152] ) 2/405
[153] )3/187
[154] )3/254
[155] )4/329
[156] )3/312
[157] )3/ 236
[158]) 1/165
[159] )1/122
[160] )2/248
[161] ) 2/ 339
[162] )4/ 349
[163] ) 2/ 457-458
[164] ) 4/81
[165] )4/ 139
[166] )4/52
[167] )2/93
[168] ) 1/325
[169] ) 1/18
[170] )4/ 201
[171] )2/340
[172] )1/ 32
[173] ) 3/ 117
[174] ) 2/95
[175] )4/574
[176] ) 3/ 253
[177] ) 1/ 13
[178] )1/48
[179] )2/396
[180] )4/ 521
[181] ) 2/350
[182] ) 4/ 237
[183] )4/568
[184] )4/ 143
[185] ) ديوان البحتري 1/ 382
[186] ) ديوان البحتري 1/ 39
[187] ) ديوان البحتري 1/39
[188] ) ديوان -أبو تمام 3/ 308
[189] )2/ 194
[190] )2/319
[191] )3/ 133
[192] )4/ 519
[193] ) نهاية الأرب 2/ 55
[194] )2/ 372
[195] ) 3/ 104
[196] ) 4/ 534 , 1/249
[197] ) 2/ 81
[198] )4/ 549
[199] ) 3/ 206
[200] ) 4/ 568
[201] ) 4/ 81 . 2/ 111
[202] ) 4/ 270
[203] ) 1/ 139
[204] )3/ 290
[205] )2/ 226
[206] ) 1/ 427
[207] )2/ 249
[208] )2/ 250
[209] )1/ 88
[210] )1/ 40
[211] ) 2/ 191
[212] )1/ 25 , 1/ 171
[213] )2/ 410
[214] ) 1/ 149
[215] )2/ 136
[216] )1/ 166