كثيرًا ما نسمع مصطلحات رنّانة مثل: التربية الإعلامية، الوعي الإعلامي، التربية الرقمية، والسؤال الذي يتبادر على أذهاننا: هل لهذه المستحدثات الفكرية نقلة حقيقية في السلوك الإنساني أم أنها توقفت عند حدّ معين لا يتعدى ضخامة المصطلح!
يدخل تعليم الإعلام اليوم في المؤسسات الأكاديمية مظهرًا جديدًا من مظاهر العصرنة الثقافية والفكرية والاجتماعية، تؤدي فيه الثورة التكنولوجية دورًا أساسيًا في الضغط على عامل المعايير القيمية والركائز الأخلاقية له؛ إذ تبنّت العديد من المؤسسات الإعلامية هذه التطورات بمواكبتها في العمل والتعليم والتطبيق.
والجدير بالذكر أن عصرنة تعليم الإعلام يوضح في حقيقته ضرورة الانخراط مع ما تقتضيه التطورات الحديثة كمستجدات تواكبها جميع دول العالم، ومما لا شك فيه أن وجود هذه الحتمية في مواكبة التحديثات سيفرض تنافسًا مدروسًا بين القطاعات التي تستهدف الإعلام وتعليمه وتطبيقه وتوظيفه توظيفًا يتفق مع العصر الحديث.
الأمر الذي يخلق فجوةً في جانب أساسي ترتكز عليه المجتمعات، وتستقيم على إثره السياقات التعليمية بكافة مجالاتها، ألا وهو الجانب الأخلاقي والقيمي الذي يُصاحب الممارسة والتطبيق، وقد اعتنقت الكثير من المؤسسات بمختلف مجالاتها مجموعة من التطورات وواكبتها بهدف النهوض بالمهنة والمجال والعاملين فيه؛ ونتيجة لذلك دعت الضرورة لوجود فِكر تربوي يقوّم ويهذب ويضمن الثبات فيما لا يقبل الزعزعة، بدأ نشوء مصطلح التربية الإعلامية منذ ستينيات القرن الماضي، تنامى من خلالها مفهوم التربية الإعلامية إلى أن عُرف بأنه “الضوابط والمعايير التي نعلمها المتلقي أثناء تلقي وسائل الإعلام المختلفة”، وكلما تنامت التحديثات في مجال الإعلام كلما تطوّرت مفاهيم التربية الإعلامية، وجميعها تتفق في أن التربية الإعلامية تستهدف تحقيق أهداف إعلامية وتربوية بناءً على ما يتلقاه الشخص من مضامين يتطلب التعامل معها مهما كانت خلفياتها أو كواليسها، وهو ما يكفل تحقق الوعي النشط والتفكير الناقد أثناء التعرّض للإعلام بمختلف أشكاله، ولا سيما الإعلام الرقمي الذي يُشكّل تهديدًا جليًا من حيث القيم والمضمون والمصداقية والشائعات، والكثير مما فرضته تطورات العصر.
من هنا ظهرت الحاجة لتدشين فِكر التربية الإعلامية من حقول الإعلام الأكاديمية أولًا وتصديره من خلال المؤهلين لتطبيقه وتوظيفه بدءًا بالكوادر التدريسية التي تعد نموذجًا يُحتذى به في توظيف الفِكر القيمي وصولًا للمتلقي الذي يبدأ في اعتناق التربية الإعلامية في كل ما يتلقّاه ويسلكه ويوظّفه، والتي تتضح معالمها بالتزامه بأخلاقيات الصف والتعاون والتفكير الناقد والرأي السديد وتمحيص المواضيع واكتشاف الخلل، وتعزيز الحوار واحترام وجهات النظر المتباينة، والمشاركة الفعالة فيما بين المتلقي والمرسل، ومعاونته على فهم الواقع الحديث وتطبيقاته في التعلم وإسهاماته في ذلك، وإجلاء شوائب الممارسات الحديثة التي تعارض القيم؛ مما يهيئ بيئة ينشط فيها الواجب الأخلاقي في طور الممارسة الحديثة، والتي تكون فيها المؤسسة الأكاديمية نموذجًا حيويًا يعكس الوعي الإعلامي والالتزام المهني والأخلاقي، كتجسيد يتشكّل على ركائزه الطلبة والمؤهلون لتوظيف الإعلام فيما بعد.
والجدير بالذكر أن الكثير من المؤسسات الأكاديمية السعودية وعلى رأسها جامعة الملك عبد العزيز معنية بكلية الإعلام، قد تبنّت مناهج النقد الإعلامي والمواطنة الرقمية والأخلاقيات والتشريعات، والتي تتضمن في قوائمها قواعد السلوك الأخلاقي والوعي الإعلامي ومواجهة التضليل الذي يتعرّض له المتلقي بصفته مستخدمًا لوسائل الإعلام الحديثة ومواكبًا لتطبيقات العصر الحديث، كما تبنّت في تأهيلها الدمج ما بين الممارسة الفعّالة التي تواكب العصر الحالي وما بين الواجب الأخلاقي الذي يتعلق بالحفاظ على القيم المهنية والأخلاقية؛ وذلك من خلال الكوادر الفاضلة التي تُعلم الجديد وتحرص على الثوابت، كمؤسسة أكاديمية تُدرّس الإعلام الحديث وتُصدّره وتوظّفه.
لن تتوقف الحاجة للتربية الإعلامية ولم تتحقق مساعيها بعد، كلما تنامت التكنولوجيا كلما زادت الحاجة، وكلما وفدت إلينا تحديثات في التعليم وجب معها ترقية المساعي التي تهيئ تطبيق التربية الإعلامية بشكل أرحب يتعدى المناهج والنماذج، يصل إلى التمكين والتوظيف والنقد والاستخدام، والتي تُعد من ركائز التربية الإعلامية
أي أن تُمكّن الفرد من مناقشة المضمون الإعلامي بوصفه نقطة ارتكاز، وتحليله والحكم عليه، وفهم أيديولوجيات الوسيلة ومضمونها والقائمين عليها وكل ذلك لإرساء القيم الصحيحة وطمس القيم الضالة التي يُعد اكتشافها من المهارات التي تسعى لإنجاحها منهجية التربية الإعلامية في العصر الرقمي الحديث.