في الأسبوع الماضي ذهبت إلى لندن في رحلة خاصة، ومررت في الشوارع وفي الحارات. نظرت إلى المباني والمحلات، ورجعت بي الذاكرة إلى أول رحلة لي إلى لندن بل إلى أوروبا. تلك الرحلة لها ذكرياتها، وسأكتب عن بعضها في القادم من الأيام حسب ما تحفظه الذاكرة.
وما جعلني أرجع إلى تلك الرحلة، والتي مضى عليها ما يقارب من خمسة عقود. هو أني وجدت كل شيء على حطت يد البريطانيين. وحطة يدهم هنا إيجابية لأن الماضي يُحاكي الحاضر وليس كحطة يدنا التي غالبًا “حطة” يبغالها كوي. الشارع كما هو الأسفلت كأنه الذي رأيته في تلك الأيام ومرت عليه خطواتي؛ وكأني أرى آثارها تتشكل أمامي. والخطوط البيضاء كما هي لم تُمحها عشرات السنين.
أعلم أن البعض من هواة الصيد في الماء الصافي، سيقولون أكيد قد تجددت عشرات المرات، فأرد المهم أنك تأتي وتذهب مرارًا أو تكون مقيمًا لن تشعر إلا بثبات البنية التحتية. بدأت من صغيرها ولن أذهب بعيدًا؛ فالغرض ليس دراسة أكاديمية إنما انطباعات نلتقطها بأعيننا لتسجل في الذاكرة، ومنها ما يبقى ومنها ما يعفو عليه الزمن، ولكن في لحظة ما قد تنتعش الذاكرة وتذكر لحظات من أيام قد خلت. وأحيانًا لا نعرف أسباب تذكر تلك الصورة التي قد تكون في تقديرنا محدودة أو نعتقد أنه لا قيمة لها ولكن العقل له موازين وأبعاد وحرية؛ فلا نستطيع أن نتحكم فيه فهو في حرم منطقته الحاكم الآمر.
أرجع إلى لندن وتشدني أضواء إشارات المرور التي لم أرها في كل زيارة قد تعطلت أو خبأ ضوؤها أو تعكر لونها بل هي باهية خضراء تسر الناظرين، وحمراء مشعة وأعوذ بالله من حمرتها وحمرة أعين رجل المرور، ربما ليس في لندن فأعينهم متنوعة كتنوع أطياف لندن. ولكن في أمريكا فعيونهم الحمراء لا تتوقف وهم حمر العيون على العرب وخضرها بل وتسلهم عيونهم، وتذبل رقة وشغفًا عندما يكون العنوان الآخر إسرائيل أو إيران ووكلاءها رغم ادعائهم البراءة فالأفعال أصدق إنباءً من الكتب وطق الحنك.
لندن وربما غيرها من المدن الأوروبية ندر ما تجد الحفريات بأم عينك ولا بأختها؛ فهي نادرة وفي الشديد القوي وإذا حصلت فكل شيء منظم رغم صغر الشوارع عندهم وكبرها عندنا مع قلة بركتها. شوارعهم صغيرة لكن المسؤولية المجتمعية والقانونية عندهم كبيرة سواء بالقناعة أو بالعقاب، ولكن يتبعون النظام بحذافيره. فمثلًا الشارع لا يتجاوز العشرة أمتار ولكن ذهابًا وإيابًا ووقوفًا، وعندما يصعب المرور لأحد الاتجاهين يتوقف الذي في الاتجاه الآخر بما يسمح للطرف الثاني بالمرور فالحياة لن تتوقف على دقائق تذهب في حل إشكال. في هذا الشارع الذي هو أقرب إلى أن نسميه زقاقًا. سيارة شحن تنزل أغراضًا لمحل هناك فلا أبواق ولا صريخ الكل يفهم أن الحل هو الصبر وخدمة كل منهم الآخر؛ فهذه الشاحنة سنحتاجها يومًا وسنجد من يقف لأجلها ولأجلنا، وكما تدين تدان.
أناظر في الحدائق وبحيرة البط المعروفة فالماء نفس الماء صافي كما هو صفاء تحركات وبطبطة البط والبطبطة في اللغة العربية هي صوت البط، ولكن أسمي ذلك تغريدًا؛ فالبط في منظره وجمال غوصه، وقبوله الطرف الآخر من الأنس، وربما من إخواننا الجن فهم أيضًا لهم نفس.
البط يقبل بكل وداعة ولا يترفع عن التقاط حبات ذرة أو قطعة خيار من يد طفل صغير أتى ليتمتع بتلك الحياة الزغنطوطة، والتي هي نموذج كيف يمكن أن تسير الحياة العامة بين الأطراف ببساطة وهدوء وتعامل وتعايش وقبول لا يسأل عن جنس ولا لون ولا عرق ولا لغة الكل متصالح والكل متفاهم. أناظر البط وأعلم أن ما رأيته قبل عقود هم أجداد الأجداد، وأن هؤلاء هم أحفاد الأحفاد وتساءلت هل يبقي أحفاد أحفادنا على ذكرياتنا بل هل سيبقون وإن على ما قُسِمَ على بعض سماتنا.
وعلي كل حال فالبط لم يخذل أهله. أما الشجر الأخضر الذي لا يكل ولا يمل من الخضرة في كل الفصول. نعم هناك صيف وخريف وشتاء، وأشعر أنها كلها تحضر بكل ود ووفاء لموسم الربيع؛ فيأتي الربيع ليستلم الأمانة وهي مشتاقة متلهفة لتنمو وتخضر أكثر وتزهر أجمل؛ وكأنها تقول للشتاء: تعظيم سلام لك من الصيف والخريف والشتاء.
كل شيء في لندن كما هو وحتى لو كان ليس هو؛ فالحياة هناك نظام سلسلة متتابعة من السلوك ومن الإجراءات المتناغمة.
بعد عشرات السنين أرى لندن في معظم مناحيها متشابهة.. إن لم تكن في معظمها كما هي. الفرق الوحيد أننا عندما زرناها في تلك الأيام الخوالي نبحث عن عربي فلا نجده. والآن نبحث عن بريطاني فلا نجده. لندن نعم عجوز ولكنها تعتني بنفسها فتتصابي.