** محاضرة قدّمت لطلبة الدراسات العليا في 29/ 2/ 1446هـ
دعوني أتسأل عما بقي يعيش فينا حتى اللحظة من نظرية النظم بعد ما يزيد على ألف عام من ظهورها , لعلّ هذا التساؤل يهدينا إلى معرفة أعمق بالنظرية , وقد يبدو هذا التساؤل صعب الإجابة ؛ لأن الأمة العربية تحتضر وهي منذ زمن وحتى اليوم في غيبوبة ثقافية وعلمية وفي عقم فكري وحضاري تعيشها من غير قلق ولا معاناة لأنها تعاني من الفتور الذهني والاسترخاء العقلي الذي أصاب عقلها , ولأنها ألفت التبعية البغيضة .
في سنة 1903م نعى شاعر النيل العظيم اللغة العربية بين أهلها , واليوم يا بني قومي هل تكسف شمس النظرية في سمواتنا , وهل تهدم بوارقها في نفوسنا ؟
نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني هي ضالة الأمة العالية والغالبة التي تحرص على علوها ودوام غلبتها , وهي ضالة المتخلف الذي يروم أن يتقدم , وهي ضالة المتقدم الذي يريد أن يستمر في تقدمه وتفوقه , وما دام الحال هكذا فكيف نصل إليها ؟ وكيف نخطب ودها ؟
لا تزال نظرية النظم العربية الأصل التي اهتدى إليها الشيخ عبد القاهر الجرجاني تتفوق على كل النظريات في العلوم اللغوية , وتقف كتفا إلى كتف مزاحمة أحدث النظريات في الغرب , وتفوق معظمها في مجال فهم طرق التركيب .
عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني {ت 471هــ } ( ) أرّخت له مراجع تاريخية وثقافية عديدة وهي على
التوالي : بغية الوعاة للسيوطي , دول الإسلام للذهبي , طبقات الشافعية للسبكي , وفَواتُ الوَفَيات لمحمد بن شاكر الكتبي , وشذرات الذهب لابن العماد , وهي كتب لم تؤرخ لحياة العلامة الجليل تأريخاً مفصلاً , بل كان جلّ اهتمامها منصباً على أصالته العلمية ومكانته الدينية وشهرته التي ذاعت بالأصقاع . أديب بليغ وشاعر فصيح كما أنه فقيه على المذهب الشافعي , ومتكلم على المذهب الأشعري. أخذ العلم عن شيخه أبي الحسن محمد الفارسي .
والأمام عبد القاهر هو واضع أصول علم البلاغة العربية , ومفصل القول في نظرية النظم القرآني المعجز . وقد ترك عبد القاهر بعض الدراسات البلاغية منها : أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز والرسالة الشافية والجمل في النحو .
اتبع منهجاً علمياً دقيقاً في تقعيد نظرية النظم حيث مهد لهذه النظرية بعرض عدة موضوعات وشبهات وآراء ناقشها وعالجها ودحض كل شبهة قد ترد من جهتها مما كان شائعاً في عصره أو العصور السابقة له .
فقبل أن يبدأ في وضع تعريف نظرية النظم وبيان أسسها افتتح كتابه دلائل الإعجاز بالدفاع عن الشعر
والرّد على مَنْ ذمه ؛ لأنه الأرض الخصبة للبلاغة والنظم , ثم نراه يدافع عن النحو ؛ لأنه الركيزة المهمة التي تقوم عليها نظرية النظم فالزهد فيه وعدم فهمه والعناية به معناه الفشل في الوصول إلى فهم أسرار إعجاز القرآن القائم على النظم .
ثم يوضح سبب تأليفه للدلائل , وما ذاك إلا أنه رأى بعد طول نظرٍ وتأملٍ في ما قاله العلماء من قبله في معنى الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة أو ما يسمى اليوم بالمهارة ,
وفي بيان المغزى من هذه العبارات وتفسيرها أن هناك ما يفوق هذه المسمّيات ويشمله ويسمى نظماً وترتيباً وتأليفاً وتركيباً وصياغة وتصويراً ونسجاً وتحبيراً ..()
ويرى عبد القاهر أن الكلام الذي يؤدي عند المتكلم ويكون مقبولاً عند المخاطبين لا بد له من ثلاثة عناصر : اللفظ والمعنى والنظم , أما اللفظ : فهو هذه الحروف والكلمات التي تنطق بها ألسنتنا وتسطرها أقلامنا , وأما المعنى : فهو تلك الأمور التي نجدها في نفوسنا , ونود أن نعبّرَ عنها ليدركها المخاطبون , وعلى هذا فالألفاظ قوالب المعاني , فالمعنى هو المعبِّر عنه , واللفظ هو المعبَّر به , لكن عبد القاهر لم يقف عند هذين العنصرين – اللفظ والمعنى – بل رأى عنصراً ثالثاً , وهو النظم . فما هو هذا النظم ؟
يقول عبد القاهر : ” النظم تعليق الكلم بعضها ببعض , وجعل بعضها بسبب من بعض , ثم يذكر أقسام الكلم اسم وفعل وحرف , وللتعليق في ما بينها طرق معلومة , وهو لا يعدو ثلاثة أقسام : تعلّق اسم باسم , وتعلّق اسم بفعل , وتعلّق حرف بهما “( ).
والمعاني التي تنشأ من هذا التعلّق هي معاني النحو وأحكامه , فعبد القاهر كان سبّاقاً في تقديم اللبنة الأولى للنظام اللغوي على قدر ما تقتضيه الفكرة البنيوية في القرن العشرين .
فالتعلق والإسناد يفهمان من النحو ,وعنهما تكون المعاني التي يريد المتكلم إبرازها بحيث يستطيع السامع إدراكها .
**- ما أبرز القضايا التي عرض لها ؟
**- لقد فنّد عبد القاهر آراء مَنْ يرون مزية اللفظ في ذاته , أو للمعنى وحده , وبيّن أن الألفاظ المفردة من حيث أصواتها أو معانيها لا دخل لها في الإعجاز ولا في باب الفصاحة , إذ لو كان لها دخل لكانت معجزة بأوضاعها اللغوية , وما فيها من أصوات وحركات وسكنات , ولو صح ذلك لما كان القرآن الكريم فُضل على غيره من الكلام , ولبطل إعجازه اللغوي . وإذا كان الأمر كذلك فما مرد الإعجاز ؟ وما مرجع المزية والفصاحة ؟
يرد الإمام عبد القاهر إعجاز القرآن الكريم إلى نظمه حيث جعله محور نظرية علم المعاني التي خص بعرضها وتفصيلها كتابه { دلائل الإعجاز } فكان النظم بذلك مناط بحثه , وجوهر نظريته في الإعجاز القرآني والإبداع الأدبي .
يقول : ” وهل تجد أحداً يقول : هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم , وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها , وفضل مؤانستها لأخواتها , وهل قالوا : لفظة متمكنة ومقبولة , وفي خلافه : قلقة ونابية ومستكرهة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما , وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها , وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقاً للتالية في مؤداها ” ().
فالإعجاز القرآني يرجع إلى شيء آخر وراء الألفاظ المفردة ومعانيها اللغوية , وذلك الشيء هو نظم الكلام , أو العلاقات بين المفردات . يقول : “أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه وخصائص صادفوها في سياق لفظه … وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة وعشراً عشرا وآية آية فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ولفظة ينكر شأنها أو يرى غيرها أصلح هناك … بل وجدوا اتساقاً بهر العقول وأعجز الجمهور ونظاماً والتئاماً واتقاناً وإحكاماً …” ( )
**- والمعنى عند عبد القاهر بنية قائمة بذاتها يقول : (( وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك لأنك تقتفي في
نظمها آثار المعاني وترتبها على حسب ترتيب المعاني في النفس فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع
بعض , وليس هو النظم الذي معناه ضمُّ الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق …”(). فكلمتا آثار وترتيب
تفيدان أن المعاني متعددة ومتغيرة ولكنها مرتبة ترتيباً خاصاً مرعياً في ذلك علائق النحو .
ولو كانت المعاني تبعاً للألفاظ في ترتيبها لكان محالا أن تتغير المعاني . فالألفاظ أوعية للمعاني وخادمة لها والمصرفة في حكمها , فلا يكون اللفظ من حيث هو لفظ موضعاً للمزية , بل لها دور وظيفي في خدمة المعاني ولقد فطن إلى أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ بل مجموعة من العلاقات .
ومن هنا يؤكد عبد القاهر ربط اللفظ بالمعنى واعتبار العلاقة بينهما علاقة تلاحم وتلازم , من طراز العلاقة بين الشيء ونفسه , لا بين الشيء والشيء الآخر , فلا جمال للفصل بين الدّال والمدلول , وإنما مجال المفاضلة هو صورة المعنى التي تتولد عن النظم ليس غير , فإذا اختلفت طرق التعبير عن المعنى الواحد لابد وأن يتبع هذا الاختلاف تبدل وتغير يصور هذا المعنى في النفس والذهن وبذلك يربط المعنى بطرق الأداء
واختصر الشيخ عبد القاهر رؤيته للمعنى بقوله : (( المعنى ومعنى المعنى )) , ونعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة , وذلك إذا قصدت أن تخبر عن { زيد } مثلاً بالخروج على الحقيقة فقلت : خرج زيد . وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر ,
ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل نحو قولك : { هو كثير الرماد , طويل النجاد , وهي نؤوم الضحى …} فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ ولكن يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانياً هو غرضك من كثير الرماد أنه مضياف ومن ونؤوم الضحى أنها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها ( ).
فالمعاني الإضافية عنده هي أساس جمال الكلام وإليها ترجع الفضيلة والمزية , وهذه الفكرة لم يلتفت إليها أحد من نقاد العرب السابقين , وقد تحدث عنها المعاصرون في الغرب وسموها { معنى المعنى }. وقال معلقاً على بيت العباس بن الأحنف :
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا *** وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
” بدأ فدل بسكب الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن والكمد فأحسن وأصاب لأن من شأن البكاء أبداً أن يكون أمارة للحزن وأن يجعل دلالة عليه وكناية عنه كقولهم : أبكاني وأضحكني على معنى : ساءني وسرني .
ثم ساق هذا القياس إلى نقيضه فالتمس أن يدل على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله : ( لتجمدا ) وظن أن الجمود يبلغ له في المسرة والسلامة من الحزن ما بلغ سكب الدمع في الدلالة على الكآبة والوقوع في الحزن , ونظر إلى أن الجمود خلو العين من البكاء وانتفاء الدموع عنها , وأنه إذا قال : ( لتجمدا ) فكأنه قال : أحزن اليوم لئلا أحزن غدا وتبكي عيناي جهدهما لئلا تبكيا أبدا , وغلط فيما ظن وذاك أن الجمود هو أن لا تبكي العين مع أن الحال حال بكاء ومع أن العين يراد منها أن تبكي ويشتكي من أن لا تبكي , ولذلك لا ترى أحداً يذكر عينه بالجمود إلا وهو يشكوها ويذمها وينسبها إلى البخل ويعد امتناعها من البكاء تركاً لمعونة صاحبها على ما به من الهم … “( ) . ويقول معلقاً على بيت بشار :
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا *** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وبيت المتنبي :
يزور العادي في سماء عجاجة *** أسنته في جانبيها الكواكب
وبيت كلثوم بن عمرو :
تبني سنابكها من فوق أرْؤسهم *** سقفاً كواكبه البيض المباتير
التفصيل في الأبيات الثلاثة كأنه شيء واحد لأن كل واحد منهم يُشبه لمعان السيوف في الغبار بالكواكب في الليل , إلا أنك تجد لبيت بشار من الفضل ومن كرم الموقع ولطف التأثير في النفس ما لا يقل مقداره ولا يمكن إنكاره ؛ وذلك لأنه راعى ما لم يراعه غيره , وهو أن جعل الكواكب تهاوى فأتم الشبه , وعبر عن هيئة السيوف وقد سُلت من الأغماد , وهي تعلو وترسب وتجئ وتذهب , ولم يقتصر على أن يريك لمعانها في أثناء العجاجة كما فعل الآخران , وكان لهذه الزيادة التي زادها حظ من الدّقة تجعلها في حكم تفصيل بعد تفصيل .
وذلك أنا وإن قلنا إن هذه الزيادة = وهي إفادة هيئة السيوف في حركاتها = إنما أتت في جملة لا تفصيل فيها فإن حقيقة تلك الهيئة لا تقوم في النفس إلا بالنظر إلى أكثر من جهة واحدة , وذلك أن تعلم أن لها في حال احتدام الحرب واختلاف الأيدي في الضرب اضطراباً شديدا وحركات بسرعة .
ثم إن لتلك الحركات جهات مختلفة وأحولاً تنقسم بين الاعوجاج والاستقامة والارتفاع والانخفاض وأن السيوف باختلاف هذه الأمور تتلاقى وتتداخل ويقع بعضها في بعض ويصدم بعضها بعضاً , ثم إن أشكال السيوف مستطيلة , فقد نظم هذه الدقائق كلها في نفسه ثم أحضرك صورها بلفظة واحدة , ونبّه عليها بأحسن التنبيه وأكمله بكلمة وهي قوله : ( تهاوى ) لأن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركاتها وكان لها في تهاويها تواقع وتداخل , ثم إنها بالتهاوي تستطيل أشكالها , فأما إذا لم تزل عن أماكنها فهي على صورة الاستدارة “( ).
ويقول عن بيت بشار أيضاً : ” فينبغي أن تنظر إلى الذي اتحدت به المعاني في بيت بشار , وإذا نظرنا لم نجدها اتحدت إلا بأن جعل ( مثار النقع ) اسم كأن وجعل الظرف الذي هو فوق رؤوسنا معمولاً ( لمثار ) ومعلقاً به , وأشرك ( الأسياف ) في ( كأن ) بعطفه لها على مثار ثم بأن قال : ( ليل تهاوى كواكبه ) فأتى بالليل نكرة ,
وجعل جملة قوله ( تهاوى كواكبه ) له صفة ثم جعل مجموع ( ليل تهاوى كواكبه ) خبراً لكأن “( )
وهذا تحليل دقيق لصورة المشبه به في بيت بشار , وبيان لسرّ قوته , ويبدو من تحليله للنصوص والتعليق عليها أنه لا يميل إلى الغموض الذي يستهلك المعاني لأنه ” إذا كان النظم سوّياً والتأليف مستقيماً كان وصول المعنى إلى قلبك تِلو وصول اللفظ إلى سمعك ,
وإذا كان على خلاف ما ينبغي وصل اللفظ إلى السمع ,وبقيت في المعنى تطلبه وتتعب فيه , وإذا أفرط الأمر في ذلك صار إلى التعقيد الذي قالوا إنه يستهلك المعنى “( ).
** وتقوم نظرية الشيخ عبد القاهر على ثلاثة أركان :
1- توخّي معاني النحو :
**- يقول عبد القاهر : ” اعلم أن ليس النظمُ إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه { علم النحو}, وتعمل على قوانينه وأصوله , وتعرف مناهجه التي نُهجت فلا تزيغ عنها , وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تُخِلُّ بشيء منها وذلك أنّا لا نعلم شيئاً يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه , فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك : ( زيد منطلق , وزيد ينطلق , وينطلق زيد , ومنطلق زيد , وزيد المنطلق , والمنطلق زيد , وزيد هو المنطلق , وزيد هو منطلق ) وفي الشرط والجزاء … وفي الحال … , وينظر في الحروف التي تشترك في معنى , ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى ,
وينظر في الجمل التي ترد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل , ويتصرف في التنكير والتعريف والتقديم والتأخير , وفي الحذف والذكر , والإضمار والإظهار والوصل والفصل , فيصيب بكلّ من ذلك مكانه هذا هو السبيل , فلستَ بواجدٍ شيئاً يرجع صوابه إن كان صواباً وخطؤه إن كان خطأ إلى { النظم } ويدّخلُ تحت هذا الاسم , إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه , ووضع في حقه أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه , واستعمل في غير ما ينبغي له .. ويرجع الفضل إلى معاني النحو وأحكامه”() .
وبيان ذلك أننا حينما ننطق بالكلمات والجمل فلا بد من أن تكون مرتبة ترتيباً مقبولاً معقولاً . فالكلمة كما نعلم : اسم وفعل وحرف , ولابد من ترتيب صحيح بين هذه الأجزاء , فلا يمكن أن يكون الترتيب بين حرف وحرف , لا يمكن أن نقول مثلاً ( إنْ مِنْ ) فإن { إنْ } حرف شرط , و ( من ) حرف جر ّ, ولا نستطيع أن نقول ( هلْ بلْ ) فإن ذلك ليس له معنى , كذلك لا يجوز الترتيب بين فعلين فلا نستطيع القول ( أخذ مشى) لأن مثل هذا لا تكون جملة مفيدة .
الترتيب لابد أن يكون بين اسمين ( الإسلام ديننا } أو بين اسم وفعل ( أفلح المؤمنون ) ,أو يكون هناك حرف يربط بين الأسماء والأفعال كما تقول : ( نصلي في الحرم ) , ( نبيع أرواحنا لله ) ( جاءني زيد وعمرو ) ” فهذه الطرق والوجوه في تعلّق بعضها ببعض وهي كما تراها معاني النحو وأحكامه ” .
إذن هذه اللبنة الأولى في النظم وهو أن يكون موافقاً لقواعد النحو . ونقصد بمعاني النحو , المعاني الإضافية , الخصوصيات التي هي مقتضى الحال كالتقديم والتأخير والذكر والحذف والإضمار والإظهار والوصل والفصل
” ويقصد عبد القاهر بفكرة التعليق العلاقات بين المعاني النحوية بواسطة القرائن أو ما يُسمى عند علماء النص معايير النصية أو معايير ضبط النص . ويسمي النظم والترتيب والبناء ويجمع هذه التسميات في حديثه عن التعليق بقوله : ” لا نظم في الكَلِمِ ولا ترتيب حتى يُعلَّق بعضها ببعض , ويُبنى بعضها على بعض , وتُجْعَل هذه بسببٍ من تلك ” ( ) . فالفرق إذن بين الأساليب ليس فرقاً في الحركات وما يطرأ على الكلمات , وإنما في معاني العبارات التي يحدثها ذلك النظم ,
ويورد عبد القاهر ما يؤيد دعواه فيأتي بنصوصٍ شعرية شواهد على فساد النظم ,عرفها النقد بعيدة عن الفصاحة والبلاغة , وينظر في أسباب ذلك ليجده في سوء الترتيب والنظم الذي يرجع إلى عدم توخي معاني النحو من ذلك قول الفرزدق :
ومَا مِثْلُهُ في الناس إلا مُمَلَّكاً أبُو أمّهِ حيُّ أبوه يُقاربه
فالوضع الصحيح للبيت : وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مُمَلكاً أبو أمه أبوه . ففي الشاهد أربع مخالفات نحوية هي : تقديم المستثنى على المستثنى منه , والفصل بين مثله وحي , وهما بدل ومبدل , وبين أبو أمه وأبوه وهما مبتدأ وخبر , وبين حيّ ويقاربه وهما نعت ومنعوت, ولا يفصل بين كل منهما بأجنبي .
قال عبد القاهر ” … أم ليس إلا لأنه لم يُرَتّب الألفاظ في الذكر على موجب تَرَتُّب المعاني في الفكر , فكدّ وكَدّر ومنع السامع أن يفهم الغرض إلا أن يقدم ويؤخر , ثم أسرف في إبطال النظم ..” ( ) .
وقول المتنبي : ولذا اسمُ أغطية العيون جُفُونُهَا من أنها عَمَلَ السيوفِ عواملُ .
في هذا البيت أراد الشاعر أن يُبين تحكم النظرات في نفسه وأنها بحِدتها استطاعت اختراق حواجز قلبه , فلما لاحظ فيها هذه الحدّة والقوة علّل تسمية جفن العين هنا بأنه أخذ له من جفن السيف , وذلك أنهم لاحظوا أن العيون تَعمل عَمَل السيوف في التأثير والقتل . ولكن هذا المعنى الذي أراد الشاعر أن يوصله إلى النفوس ويقرّره في القلوب جاء عن طريق ملتوٍ يصعب على الذهن اكتشافه بسرعة , وذلك لأنه قدّم معمول خبر إنّ عليه , والوضع الصحيح للبيت :
ولذا اسم أغطية العيون جفونها من أنها عوامل عمل السيف .
وهذا التقديم ألبس المعنى غموضاً وتعقيداً
وقوله : الطيب أنت إذا أصابك طيبه والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل .
والصحيح : البيت أنت طيبه إذا أصابك والماء أنت الغاسل له إذا اغتسلت .
وقوله وفاؤكما كالريع أشجاه طاسمه بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه .
والصحيح : وفاؤكما بأن تسعدا كالريع أشجاه طاسمه والدمع أشفاه ساجمه .
ثم يسوق عبد القاهر من محاسن الشعر ما يقطع بأن مرجع الحسن التوفيق في توخي معاني النحو حيث يورد منها ما خلص الحسن فيه للنظم ولم يشاركه فيه غيره من مقاييس الجمال يقول : ” فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت فانظر إلى حركات الأريحية ممّ كانت ؟ وعند ماذا ظهرت ؟ فإنك ترى عِياناً أن الذي قلت لك كما قلت , اعمد إلى قول البحتري :
بلونا ضرائب من قد نرى فما إن رأينا لفتح ضريباً
هو المرءُ أبدت له الحادثا تُ عزماً وشيكاً ورأياً صليبا
تنقّلَ في خُلُقيْ سُؤددٍ سماحاً مُرجًّ وبأساً مَهيبا
فكالسيف إن جئته صارخاً وكالبحر إن جئته مُستثيبا .()
ومنه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة , ويأتيك منه ما يملأ العين ضربة حتى تعرف من البيت الواحد مكان الرجل من الفضل وموضعه من الحذق .. وذلك ما إذا أنشدته قلت : هذا هذا , وما كان كذلك فهو الشعر الشاعر والكلام الفاخر والنمط العالي الشريف والذي لا تجده إلا في شعر الفحول البُزل ثم المطبوعين .. “( )
فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك , ووجدت لها اهتزازاً في نفسك ,فعد فانظر في السبب واستقص في النظر فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه “قدّم وأخر وعرّف ونكّر وحذف وأضمر وأعاد وكرّر , وتوخّى على الجملة وجهاً من الوجوه التي يقتضيها ( علم النحو ) فأصاب في ذلك كله ..
أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها قوله : ( هو المرءُ أبدت له الحادثات ) ثم قوله : ( تنقل في خلقي سؤدد ) بتنكير ( سؤدد ) وإضافة ( الخلقين ) إليه ,
ثم قوله : ( فكالسيف ) وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ ؛ لأن المعنى لا محالة فهو كالسيف , ثم تكريره الكاف في قوله : ( وكالبحر ) ثم قَرَن إلى كلّ واحد من التشبيهين شرطاً جوابه فيه وذلك , ثم أخرج من كل واحدٍ من الشرطين حالاً على مثال ما أخرج من الآخر , وذلك قوله : ( صارخاً ) هناك , و( مستثيباً ) ههنا ؟ ,
ثم بأن وصف العزم والرأي والسماح والبأس بصفات يشتد التلاؤم فيها والتوافق بين كل صفة وموصوفها تأمل : عزما وشيكاً .. رأياً صليباً سماحاً مرجّى .. بأساً مهيبا ,لا ترى حسناً تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت أو ما هو في حكم ما عددت فاعرف ذلك “( ).
ويقول عبد القاهر : ” واعلم أن مِمّا هو أصل في أن يَدِقَّ النظرُ , ويَغْمُض المسلك في توخي المعاني : أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض , ويشتد ارتباط ثان منها بأوّل , وأن تحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعاً واحداً , وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه ههنا في حالٍ ما يضع بيساره هناك … فمن ذلك قول البحتري :
إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها *** تذكرت القربى ففاضت دموعها ” ()
يقول محمد أبو موسى : ” المعاني في هذا البيت مرتبة ؛ احترابها أسلم إلى فيض دمائها , وفيض دمائها أسلم إلى تذكر القربى , وتذكر القربى أسلم إلى فيض الدموع , وكل حالة عبر عنها بجملة صارت في بناء الكلام كالاسم المفرد وصارت الجمل الأربع جملة واحدة “( )
وللفحل امرئ القيس بيت في الكناية له ما بعده , أذهل المتذوقين لأن معانيه وخواطره وصوره وأخيلته كانت بالغة الثراء ما دعاهم للبحث عن مدلولات المعاني المتوارية والخبيئة والمدفونة والخصبة , يقول :
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها *** نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل .
فالكناية هنا لا تفيد فقط صفة الترف , وأنها مخدومة , وهذا ما سُطر في كتب البلاغة وعليه فقد خلت الكناية من التأثير والجمال ما دعا صاحب تحرير التحبير للوقوف طويلاً عند هذا البيت فأضاف أنها تفيد دقة البشرة واقتبال الشباب وكثرة الحظوة وعظم الثروة وأنها غير شظفة ولا ممتهنة .
ويُسْتَشفُ من قوله : { وتضحي فتيت المسك فوق فراشها } أنها حَظيّة عند الرجال المثرين , وأنهم في غاية الميل إليها , إما لإفراط جمالها , أو لسعد جدها , وأنها مِمّن يُسمح لها بأغلى الطيب وأغلاه بما يبقي فتيته في صبيحة كل ليلة على فراشها بعدما يتصعد منه ويلصق بجسمها , وما يعلق بشعرها وبشرتها … وأما كثرة نومها الذي لا يكون إلا عن غلبة الدم الطبيعي في سن النمو وطبيعة الدم حارة رطبة فيكون اللون به مشرقاً والماء في الوجه كثيرا والأخلاق حسنة لأجل اعتدال المزاج , ولو ترك لفظ الكناية وعبر عما قصده باللفظ الخاص وهو قوله : إنها مخدومة لم تحصل هذه المعاني التي حصلت بلفظ الكناية ().
ولا تخدعنّك حلاوة الألفاظ ورشاقتها وحسنها وعذوبتها وسلاستها في بيت صناجة العرب الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها * * * مرّ السحابة لا ريث ولا عجل .
وإنما روعة هذه الأوصاف إلى ما يقع في القلب والعقل أعني المعنى لأنها هي التي تقع في القلب والعقل ” فإدخاله حرف التشبيه { كأن } على مشيتها التي هي اسم هيأة فلم يقل : { كأنها } و { كأن مشيتها } وإنما اختص هيأة المشي وتخير من أحوالها هذه الهيئة التي لها تعلق بقلبه وخياله لأنها هيئة حركة لطيفة هفهافة .
ثم إنه ذكر القيد { من بيت جارتها } فنفى عنها مشي الريبة والابتذال والتطواف في الطرقات والأسواق ثم أومأ إلى حسن معاشرتها ومودتها وزورتها لجارتها , ثم ذكر السحابة وهي ماء وخصوبة وحياة وطهارة ثم هذا الاستئناف اللطيف الذي يقيس حركتها .
ثم يعرض أبياتاً هي أظهر أمراً في هذا المعنى , وهي قول إبراهيم بن العباس في مدح الوزير محمد الزيات ( )
فلو إذْ نبا دهرٌ وأنكِرَ صاحبٌ وسُلَّط أعداءٌ وغاب نصيرُ
تكون عن الأهواز داري بنجوةٍ ولكنْ مقاديرٌ جرت وأمورُ
وإني لأرجو بعد هذا محمداً لأفضلِ ما يُرجَى أخٌ ووزيرُ ( )
فإنك ترى ما ترى من الرّونق والطَّلاوة ومن الحسن والحلاوة , ثم تتفقد السبب في ذلك , فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو { إذ نبا} على عامله الذي هو { تكون} , وأن لم يقل : فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر , ثم أن قال { تكون } ولم يقل : { كان} , ثم أن نكّر الدهر , ولم يقل : { فلو إذ نبا الدهر } ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد . ثم أن قال : { وأُنكر صاحبٌ } ولم يقل : أنكرت صاحباً , لا ترى في البيتين الأوّلين شيئاً غير الذي عددتُه لك تجعله حسناً في النظم وكله من معاني النحو كما ترى , وهكذا السبيل أبداً في كل حسنٍ ومزية رأيتهما قد نُسبِا إلى النظم , وفضل وشرف أحيل فيهما عليه ” ()
**- وإليك تحليلاً يكشف لنا عن روعة هذه الأبيات :
الشاعر سجين يئن تحت وطأة العذاب , وذلّ الحبس وانكسار النفس , فقد كان والياً على الأهواز , والسيد المطاع ثم ها هو ذا وقد تنكر له الدهر وتسلّط عليه الأعداء , فتمنى لو أنه أصيب بما أصيب بعيداً من الأهواز لأن الذل في موطن السيادة والعز أشد وقعاً وألماً على النفس فنراه يصوّر حاله هذه بألفاظ تبعثها المعاني النفسية للشاعر ,
حيث قدم الظرف { إذ نبا } على معموله ولأن الشاعر أحس أول ما أحس بوطأة ذلك الزمن فأراد أن يجسد أهواله ويصوّر جسامة الأمور التي ألمت به , فهو زمن يثير في نفسه الألم فقد أنكر هو الصاحب إذ لم يجد فيه ما كان يعهده , وتسلّط عليه الأعداء وانقلبت أحواله كلها وتغيرت فكان لابد أن يقدمه , لأن فيه ولدت مأساته وفيه ترعرعت, فاللفظ يترتب بحسب ترتيب المعاني في النفس .
ثم نكر لفظ الدهر ليبين عظم البلوى التي تحيط به , أو ليشير بهذا إلى أنه دهر منكر مجهول فليس هو الدهر الذي عهده الشاعر أيام نعمته وولايته على الأهواز , أو أنه نكره ليفرده ويجعله دهراً خاصاً به دهراً غداراً ابتلاه .
وبني الفعل { أنكر } للمجهول وما فيه من إيهام أن الإنكار ليس منه وحده وإنما هو عام ؛ لأن القصد إثبات الفعل دون أن يلاحظ تعلقه بفاعل معين . وإن كان يعرف أن الزيات هو الصاحب إلا أنه نكّره لأنه لازال يأمل في عطائه ونفعه . وفي تنكير {نصير } تجسيد لألم الشاعر وتجسيد لمأساته , فالذي غاب عنه في محنته هذه ليس فرداً واحداً , وإنما هم أفراد عديدون خذلوه ولم ينصروه .
وفي بناء الفعل { سُلّط}للمجهول وتنكير { أعداء } تصوير لتكالب الأعداء . واختيار الفعل المضارع { تكون} مع أن الحديث في البيت قبله كان بالماضي ؛ لأن الفعل المضارع يدل على المستقبل فيصور بذلك أمنيات الشاعر وأحلامه في أن يتحول هذا الزمن المليء بالآلام وتصبح داره في منجاة , وكأنه يعرض أمنيته هذه على صديقه القديم ويؤكد رجاءه في أن يحقق له هذه الأمنية . يؤكد هذا القول باستعماله إنّ المؤكدة ولام التوكيد في { وإني لأرجو}, وتنكير { أخ و وزير } لتعظيم شأنه والإعلاء من قدره () . ويقول عبد القاهر : ” الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردةٌ , ولا من حيث هي كلم مفردةٌ , وإنما الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها , وما أشبه ذلك مما لا تعلّق له بصريح اللفظ ” ().
نحن نرى اللفظة في غاية الفصاحة في موضع , ونراها بعينها فيما لا يحصى من المواضع وليس فيها من الفصاحة قليل ولا كثير . فإذا قيل إن لفظة { اشتعل } في قوله تعالى : ” واشتعل الرأس شيباً ” في أعلى مراتب الفصاحة فإننا لا نوجب تلك الفصاحة لها وحدها , ولكن موصولاً بها الراس معرفاً بالألف واللام ومقروناً إليهما الشيب منكراً ومنصوباً .
وتأمل قوله تعالى : ” واشتعل الرأس شيباً ” فقد دأب الناس على نسبة الشرف فيها إلى الاستعارة , وإفرادها بالمزية والفضل , وليس الأمر كذلك لأننا لو قلبنا العبارة فقلنا : واشتعل شيب الرأس لذهب ما فيها من روعة وفخامة مع أن الاستعارة لم تزل قائمة فلم يبق إلا أن يكون مكمن الحسن في العبارة هو إسناد فعل الاشتعال إلى الرأس والمجيء بالشيب منصوباً بعده , وهذا المسلك في نظم العبارة يشحنها بدلالات جديدة لم تكن ممكنة لو أسند الاشتعال إلى الشيب مباشرة , وذلك أن إسناد الاشتعال إلى الرأس يفيد بالإضافة إلى لمعان الشيب في الرأس الشمول والشيوع وأنه قد استغرقه وعمّ جملته () .
فجمال الاستعارة يكمن في الصورة التي نتجت من إظهار صورة الشيب وتجسيمها وتجسيدها كالنار التي تشتعل فتأتي على كل يابس بسرعة وإحاطة شاملة كذلك الشيب .
فالألفاظ عند عبد القاهر رموز للمعاني المفردة , وهي أوعية لها تتبعها في مواضعها في السياق , والمعاني هي الأصل ؛ لأن الألفاظ سمات المعاني وخادمة لها وضعت لتدل عليها .
ومن الشواهد التي تفرّد بها عبد القاهر الجرجاني وقلّ دورانها في كتب الأدب والبلاغة قول عبدالله بن المعتز :
وإنّي عَلَى إشفاق عَيْني مِنْ العِدَى *** لَتَجْمَحُ منّي نظرةٌ ثم أُطْرِقُ
فجعل النظرة تجمح كما تجمح الفرس , وكأنها تنفلت منه قهراً وهو يجتهد في حبسها , لأنه يرى من حوله الأعداء ,
يقول عبد القاهر الجرجاني : ” فترى أن هذه الطُلاوة وهذا الظرف إنما هو لأن جعل النظر ( يجمح ) وليس هو لذلك , بل لأن قال في أول البيت ( وإني ) حتى دخل اللام في قوله ( لتجمح ) ثم قوله : ( مني ) ثم لأن قال ( نظرةٌ ) ولم يقل ( النظر ) مثلاً , ثم لمكان ( ثم ) في قوله : ( ثم أطرق ) وللطيفةٍ أخرى نَصَرَت هذه اللطائف وهي اعتراضه بين اسم ( إنّ ) وخبرها بقوله : ( على إشفاق عيني من العدى ) ()
وتأمل أبيات كثير عزة , وقيل : ليزيد بن الطثرية وقيل : لعقبة بن كعب التي يقول فيها () :
ولما قَضَينا مِنْ مِنًى كُلَّ حاجَةٍ *** وَمَسّحَ رُكَن البيت من هو ماسحُ
وشُدّت على دُهم المهَاري رحالُها *** ولا ينظُرُ الغادي الذّي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا *** وَسالت بأعناق المطِيّ الأباطح
فابن قتيبة – عفا الله عنه – يستحسن الألفاظ مطالعها ومخارجها ومقاطعها , ولم يفطن إلى ما وراء الألفاظ من معان وإيحاءات نفسية وصور جمالية , فسلب الأبيات صياغتها .
أما الشيخ عبد القاهر فيبرز لنا ما وراء هذه الألفاظ من إشارات وإيحاءات وحسن دلالة وجمال ألفاظ ودّقة تصوير , وذلك من حيث الإيجاز في قوله : ( كل حاجة ) فكلمة ( كلّ ) أحاطت بكل شيء من أفعال الحج فرائضه وسننه وفضائله وغير ذلك من الأوطار والآراب التي تعتمل بها نفس الحاج .
وفي قوله : ( مسّح بالأركان ) أومأ به إلى طواف الوداع الذي هو آخر الأمر وإمارة على المسير , وإنما دل عليه بجزئه الذي هو المسح لأنه أشبه بحال المرتحل العاشق الذي يحتضن الأركان قبل رحلته فهذا البيت مقصوده من رحلته .
ثم حسن الترتيب حيث وصل زمام الركاب بمسّح الأركان وعقب بركوب الركبان فتجاذب أطراف الحديث ,
وفي التعبير بلفظ ( أطراف ) دلالة على أن الرفاق في السفر يتصرفون عادة في فنون القول وشجون الحديث ويبادلون الإشارة والتلويح والإيماء دون الوقوف عند حديث معين أو استغراقه مما يدعو إلى الملل فإن لفنون الأحاديث بين الأحبة أطرافاً وأواسط يتعمق إليها فلو اقتصر على أطرافها عذب الحديث وحلا , ودعا إلى الإقبال عليه وحسن الإصغاء والمشاركة , وإن تعمق إلى أوساطها كان الملل والسأم .
وفي البيت الثالث استعارة من الخاصيّ النادر ,لها أثرها إذ صوّر الشاعر سيرها الحثيث في غاية السرعة وكانت سرعةً في لين وسلاسة حتى كأنها سيولاً وقعت في تلك الأباطح ففجرت بها .
وأقول إنها من الاستعارة النادرة لأنه جعل ( سال ) فعلاً للأباطح ثم عدّاه بالباء بأن أدخل الأعناق في البَين ,
وقال : بالأعناق ولم يقل بالمطي . ولو قال : ” سالت المطّي في الأباطح ” , لم يكن شيئاً.
يقول :” ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة طبّق فيها مَفْصَل التشبيه , فصرّح أولاً بما أومأ إليه في الأخذ بأطراف الأحاديث من أنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرواحل , وفي حال التوجه إلى المنازل , وأخبر بعدُ بسرعة السير ووطاءة الظَّهر , إذ جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح , وكان في ذلك ما يؤكد ما قبله لأن الظهور إذا كانت وطيئة وكان سيرها السير السهل السريع زاد ذلك في نشاط الركبان , ومع ازدياد النشاط يزداد الحديث طيباً .
ثم قال : (( بأعناق المطي )) ولم يقل : بالمطي لأن السرعة والبطء يظهران غالباً في أعناقها , ويَبِين أمرهما من هواديها وصدورها وسائر أجزائها تستند إليها – أي إلى أعناقها – في الحركة وتتبعها في الثقل والخفة وتعبر عن المرح والنشاط, إذا كانا في أنفسها , بأفاعيل لها خاصة في العنق والرأس ..”( )
تذوق معي صنيعه في قصيدة ابن الرومي في تفضيل النرجس على الورد التي يقول فيها :
خجِلتْ خدودُ الوردِ من تفضيله * * * خَجَلاً تورّدها عليه شاهدُ
لم يَخْجَلِ الوردُ المورّدُ لونُه *** إلّا وناحُله الفضيلةَ عاندُ
للنرجس الفضلُ المبينُ وإن أبَى *** آبٍ وحادَ عن الطريقة حائدُ
فَصْلُ القضية أنّ هذا قائدٌ *** زهرَ الرياضِ وأنّ هذا طاردُ.
إلى أن يقول :
أين الخدودُ من العيون نفاسةً *** ورئاسةً لولا القياسُ الفاسدُ
فقد حَلّل القصيدة كوحدة , وتناولها صورة وجملة , فأبان عن ترابط أجزائها , وترتيب عناصرها , وتلاؤم معانيها كما نفعل الآن في تحليل النص , وبيان ترابطه في وحدة عضوية .
يقول : ” وترتيب الصنعة في هذه القطعة أنه عمل أولاً على قلب طرفي التشبيه فشبه حمرة الورد بحمرة الخجل ثم تناسى ذلك وخدع عنه نفسه , وحملها على أن تعتقد أنه خجلٌ على الحقيقة . ثم لما اطمأن ذلك في قلبه واستحكمت صورته طلب لذلك الخجل علّة فجعل عِلته أن فُضّل على النرجس ووُضِع في منزلة ليس يرى نفسهُ أهلاً لها فصار يتشور- يخجل – من ذلك , ويتخوف عيب العائب وغميزة المستهزئ , ثم زادته الفطنة الثاقبة والطبع المثمر في سحر البيان , ما رأيت من وضع حِجاج شأن النرجس , وجهة استحقاقه الفضل على الورد , فجاء بحُسنٍ وإحسانٍ لا تكاد تجد مثله إلا له ” () .
واعلم أنه وكلما كان التباعد بين الشيئين في الصفة كان التشبيه أحسن , يقول : ” وهكذا إذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشدَّ كانت إلى النفوس أعجب , وكانت النفوس لها أطرب .. وذلك أن موضع الاستحسان ومكان الاستطراف والمثير للدفين من الارتياح , والمتألف للنافر من المسرة والمؤلف لأطراف البهجة أنك ترى بها الشيئين مثلين متباينين , ومؤتلفين مختلفين وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض وفي خلقة الإنسان وخلال الروض , وهكذا طرائف تنثال عليك إذا فصّلت هذه الجملة وتتبعت هذه اللمحة ولذلك تجد تشبيه البنفسج في قوله :
ولازوردية تزهو بزرقتها *** بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعُفن بها *** أوائلُ النار في أطراف كبريت
أغرب وأعجب وأحق بالولوع وأجدر من تشبيه النرجس بمداهن درّ حشوهن عقيق – يقصد قول ابن المعتز – :
كأن عيون النرجس الغض حولها *** مداهن دُرّ حشوهن عقيق
لأنه أراك شبهاً لنبات غض يرف وأوراق رطبة ترى الماء منها يشف من لهب نار في جسم مستول عليه اليبس , وباد فيه الكلف , ومبنى الطباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه , وخرج من موضع ليس بمعدن له كانت صبابة النفوس به أكثر وكان بالشغف منها أجدر فسواء في إثارة التعجب وإخراجك إلى روعة المستغرب , وجودك الشيء من مكان ليس من أمكنته ووجود شيء لم يوجد ولم يُعرف من أصله في ذاته وصفته , ولو أنه شبه البنفسج ببعض النبات أو صادف له شبهاً في شيء من المتلونات لم تجد له هذه الغرابة ,ولم ينل من الحسن هذا الحظ “( )
فعبد القاهر الجرجاني يرى أن جهات الاختلاف بين المشبه والمشبه به كلما كانت كثيرة كان التشبيه أجود لأنه يحتاج إلى إطالة نظر وإجالة فكر وتكون النفوس به ألصق لأنها ستدركه بعد عناء .
2- ترتيب المعاني في النفس :
هي اللبنة الثانية وهي الأهم من سابقتها , فهي أن يكون هذا النظم دقيقاً بحيث ترتب المعاني التي تريدها في نفسك أولاً , ثم تختار لها بعد ذلك الألفاظ التي تتفق مع هذه المعاني , وهذا ملحظ دقيق يحتاج منك إلى حضور نفس وحضور فكر , ومن أجل ذلك نجده يفرق بين حروف منظومة وكلم منظومة , فالحروف المنظومة هو مجرد تواليها في النطق , من غير أن يكون هناك معنى ينتج عن هذا التوالي ,
وحتى الناظم لهذه الحروف لم يعمل عقله قاصداً إلى معنى بعينه , أما نظم الكلام فلابد للناظم لها أن يُعْمِل عقله في ترتيب المعاني بحسب ترتيبها في النفس . يقول : ” ومما يجب إحكامه بعقب هذا الفصل الفرق بين قولنا { حروف منظومة } و { كلم منظومة } وذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق وليس نظمها بمقتضى عن معنى ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسماً .., وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني وترتيبها على حسب المعاني في النفس , فهو نظم يُعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض وليس هو { النظم } الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق , ولذلك كان عندهم نظيراً للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير , مما يوحي اعتبار الجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع كلٍّ حيث وضع علة تقتضي كونه هناك وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح ” ( ) .
ويقول في موطن آخر : ” فإنه لا يتصور أن تعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه , ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيباً ونظماً , وأنك تتوخى الترتيب في المعاني وتُعمِل الفكر هناك , فإذا تم ذلك اتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب الألفاظ بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها ولاحقة بها , وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق ” ().
1- مراعاة السياق والموقع في التأليف :
ويقصد به ضم الكلام بعضه إلى بعض , والألفاظ عند الإمام عبد القاهر لا تتمايز ولا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلم مفردة , وإنما الفضيلة في موقعها في النظم والتأليف , فلا تفيد حتى تؤلّف ضرباً خاصاً من التأليف , ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب وفق المعاني المرتبة في النفس والمتضمنة فيها على قضية العقل . يعني أن هذا النسق اللفظي هو صورة لنسق نفسي وراءه عقل انتظمه , وأن بناء الكلام هو بناء فكر وعقل وأن ناطقية الإنسان هي عقله وليس لسانه فاللفظة المفردة لا تثبت لها الفضيلة وخلافها إلا بحسب موقعها في الكلام , وأعيد هنا ما قاله : ” إنّ الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة , ولا من حيث هي كلم مفردة , وإن الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظ لمعنى التي تليها وما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ ” () .
ويضرب مثلاً لذلك بقوله تعالى : ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر
واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ){ هود : 44} فالمزية الظاهرة والفضيلة القاهرة في الآية ترجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض وأنه لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا إلى أن تستقر بها إلى آخرها , وأن الفضل تناتج ما بينها وحصل من مجموعها ” () .
ويتابع قائلاً : ” إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدّت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الاية ؟ قلْ { ابلعي }واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها , وكذلك فاعتبر سائر ما يليها وكيف بالشك في ذلك ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت ثم في أن كان هذا النداء ب { يا } دون { أي } , ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال : ابلعي الماء ثم أن أتبع نداء الأرض , وأمرها بما هو من شأنها نداء السماء , وأمرها كذلك بما يخصها .
ثم أن قيل :{ وغيض الماء } فدل على أنه لا يغيض إلا بأمر آمر ثم تأكيد ذلك وتقريره يقوله : { قضي الأمر } ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو { استوت على الجودي } ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن ثم مقابلة { قيل } في الخاتمة بقيل في الفاتحة ” ().. هذه الخصوصيات الأسلوبية التي أرجع الشيخ إعجاز الآية إليها , والتي يؤكد بها أن الفضيلة إنما هي في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها .
دعونا مرّة أخرى نتأمل خصائص هذا النظم الفريد والكريم العالي والفاخر روعة التركيب وجودة السبك وقوة النظم لقد أجمع المعاندون على أنه ليس في طوق البشر أن يقولوا مثل هذه الآية , فتعال وانظر معي إلى جمال النظم وروعته في سبع عشرة لفظة :
** بدأ بفعل القول { قيل } , والقول يقال لمن يسمع ويعقل , ثم نادى { يا أرض , ويا سماء } والمنادى ينبغي أن يعلم أنه نودي لسماع شيء , وعليه أن يفعل شيئاً , لأن النداء حقيقي , وليس مجازياً , ثم أتى بفعل الأمر { ابلعي واقلعي } على سبيل الحقيقة , وعلى المأمور الاستجابة الفورية والامتثال للتنفيذ , وهذا يدل على أن السماء والأرض سمعتا ووعتا وعقلتا وامتثلتا , ثم إنّ الفعل جاء مبنياً للمجهول { قيل } فلم يفصح القائل عن نفسه , وسرّ ذلك أن هذا الملكوت العظيم السماء والأرض تعلم من هذا المنادي الآمر العظيم فيجاب له على الفور , فالمقام مقام تعظيم ومقام سلطة وجبروت .
** ثم لاحظ حرف النداء { يا أرض } – ولم يرد في القرآن حرف نداء غيره – نادها باسم الجنس للدلالة على عظمتها وكذا { ويا سماء } للدلالة على عظمتها وعظمة خالقهما .
** ولم يقل : { يا أيتها الأرض } لأن الغرض هنا للتوصل إلى المنادى مباشرة حتى إذا كانتا غافلتين تنبهتا ووعتا وأتمرتا لكل حرف صدر من الله الخالق العظيم , مع ما يحمله المعنى من فائدة الإيجاز
** وقال { ابلعي } ولم يقل : ابتلعي , لأن الابتلاع فيه جهد واجتهاد , وطول مدة والأمر يقتضي السرعة والفورية وقصر المدة , بالإضافة إلى أن { ابلعي } أوجز وأخصر من ابتلعي .
** ثم قال : { ابلعي ماءك } فذكر مفعول البلع , بخلاف { اقلعي } فلم يذكر المفعول لأن المقصود { بلع الماء } , ولو قال : { ابلعي } فقط بدون ذكر الماء , لأحتمل أن تبلع كل شيء الناس والجبال والشجر وما عليها , ولذلك حدد , بخلاف السماء لأنه ليس فيها غير الماء فأقلعت وكفت وحبست الماء .
** وقدّم أمر الأرض لبلع الماء ثم أمر السماء حتى ترسو السفينة وينزل الركاب , فبدأ بما هو أهم ,
واستعمل { استوت } بدلاً من { استقرت } حتى تثبت ولا تهتز وتضطرب وتتحرك , ولم يذكر فاعل الاستواء أعني السفينة , لأنه معلوم .
** وذكر القوم الظالمين , وكان يكتفى بأن يقال : ” وقيل بعداً للظالمين ” لأنها إذا طرحت استقل الكلام بدونها . لكن لما ذكر في أول القصة : (( وكلّما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه )) وقال بعد ذلك : (( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون )) اقتضت البلاغة أن يؤتى بلفظة القوم التي آلة التعريف فيها للعهد . وجيء بالمصدر { بعداً } للإيجاز والثبوت .
وأظهر { الظالمين } موضع المضمر { لهم } لبيان علية وسبب البعد , ووصفهم بالظلم ليرتد عجز الكلام على صدره ويُعلم أن القوم الذين هلكوا بالطوفان هم الذين كانوا يسخرون من نوح u , احتراساً لئلا يتوهم ضعيف أن الطوفان لعمومه ربما أهلك من لا يستحق الهلاك , فأخبر الله سبحانه وتعالى أن الهالكين هم الذين تقدم ذكرهم , وما كانوا يفعلونه مع نبيه u من السخرية التي استحقوا بها الهلاك .
** وتأمل معي أيها المتذوق الكريم لهذا النظم العالي حسن النسق فأنت ترى إتيان هذه الجمل معطوفاً بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة ؛ لأنه سبحانه بدأ بالأهم إذ كان المراد إطلاق أهل السفينة من سجنها , ولا يحصل ذلك إلا بانحسار الماء عن الأرض ,
فلذلك بدأ بالأرض فأمرها بالابتلاع , ثم علم سبحانه أن الأرض إذا ابتلعت ما عليها من الماء ولم تنقطع مادة السماء تأذى بذلك أهل السفينة عند خروجهم منها , وربما كان ما ينزل من السماء مخلفاً لما تبتلعه الأرض فلا يحصل الانحسار , فأمر سبحانه السماء بالإقلاع ,
ثم أخبر بغيض الماء عندما ذهب ماء الأرض وانقطعت مادة السماء , ومقتضى الترتيب أن تأتي هذه الأخبار ثالث الجملتين المتقدمتين , ثم قال { وقضي الأمر } أي هلك من جف القلم بهلاكه , ونجا من سبق العلم بنجاته , وهذا كنه الآية , وحقيقة المعجزة , ولا بد أن تكون معلومة لأهل السفينة , ولا يمكن علمهم بها إلا بعد خروجهم منها , وخروجهم موقوف على ما تقدم , فلذلك اقتضت البلاغة مجيء هذه الجملة رابعة الجمل ؛ وكذلك استقرار السفينة على الجودي , أي استقرارها على المكان الذي استقرت عليه استقراراً لا حركة معه لتبقى آثارها آية لمن يأتي بعد أهلها وذلك يقتضي أن تكون بعد كل ما ذكرناه ,
وعدل عن لفظة استقرت إلى لفظة استوت لما يحتمله الاستقرار من الزيغ والميل , ويدل عليه الاستواء من عدم ذلك , وفي هذا طمأنينة أهل السفينة وأمنهم من المخافة إذ لو كان استقرارها استقراراً لا تؤمن معه الحركة لكانت حالهم في مكابدة الحركة .
وقد حملت ضروباً أخرى كالمناسبة التامة في ابلعي واقلعي , والمطابقة اللفظية في ذكر السماء والأرض , والاستعارة في قوله : { ابلعي واقلعي للأرض والسماء } والإشارة في قوله : { وغيض الماء } فإنه سبحانه وتعالى عبر بهاتين اللفظتين عن معان كثيرة , لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطرُ السماء , وتبلع الأرض ما يخرج من عيون الماء فينقص الحاصل على وجه الأرض من الماء . والإرداف أو الكناية في قوله : { واستوت على الجودي } فإنه تعبير عن استقرار السفينة بلفظ قريب من لفظ الحقيقة .
والتمثيل في قوله : { وقضي الأمر } فإنه عبر بذلك عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بلفظ فيه بعدٌ من لفظ الحقيقة بالنسبة إلى لفظ الكناية , والتعليل لأن { غيض الماء } علة الاستواء . وصحة التقسيم حين استوعب سبحانه أقسام أحوال الماء حالة نقصه إذ ليس إلا احتباس ماء السماء , واحتقان الماء الذي ينبع من الأرض , وغيض الماء الحاصل على ظهر الأرض .
ثم يسوق شواهد أخرى تدل على أن الكلمة لا يحكم عليها بالفصاحة أو عدمها إلا من خلال وجودها في السياق , فأتى بلفظ { أخدع } في ثلاثة ابيات , فكان لها في مكانين حسن ومزية , وفي الموقع الثالث قبحٌ ورزية يقول : ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتُؤْنسك في موضع ثم تراها بعينها نثقل عليك وتوحشك في موضع آخر كلفظ الأخدع في بيت الحماسة للصمة القشيري :
تَلَفَّتُّ نحو الحَيّ حتّى وَجَدْتُنِي وَجِعْتُ من الإصغاء لِيتاً وأخدعا ()
وبيت البحتري : وإني وإن بَلَّغْتَنِي شرفَ الغنى وأَعْتَقْتَ من رقّ المطامع أخْدَعِي .
فإن لها في هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن , ثم إنك إن تأملتها في بيت أبي تمام :
يا دهرُ قَوّم من أَخدعيك فقد أضججتَ هذا الأنامَ من خُرُقِكْ ()
تجد لها من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح والإيناس والبهجة( ) . لم يعلل عبد القاهر لنا سبب الاستحسان أو الاستهجان ,
تعالوا نتذوق هذه الثلاثة الأبيات .
البيت الأول : بيت الصمة القشيري , هذا البيت ضمن قصيدة هوى فيها ابنة عم له يقال لها العامرية أو ريّا فخطبها من ابيها فرفض أن يزوجه إياها , فالقصيدة مليئة بالشوق والحنين العاصف ,
وقد نجح الشاعر في تصوير هذا الإحساس تصويراً حركياً , فهو عندما رأى جبل البشر قد اعترض طريقه ازداد إحساسه بألم الفراق وصاحت نوازع الشوق توقظ كوامن إحساسه حتى أن عينه العوراء قد خرجت تشارك أختها الصحيحة في البكاء فأخذ أخدعه يتلفت ويطيل التلفت من غير أن يشعر فلما طال تلفته استيقظ على ألم في ليته وأخدعه ,
وقوله : { حتى وجدتني } يظهر أنه أثناء تلفته لم يكن يشعر بوخز ألم التلفت لشدة وجده . واستعمال لفظ تلفت للدلالة على كثرة الحركة فهو أعمق في دلالة الشوق . وفي قوله : { الإصغاء} دلالة على أنه عندما كان يلتفت كان يطيل النظرة ويتأمل ويتحسس أخبار الحي , وكأن الإصغاء عنده يكون بالقلب .
البيت الثاني : بيت البحتري , جاء الشاهد ضمن قصيدة مدح تشيع في نفس صاحبها السعادة والحبور . واستعما ( إنّ) , وجاء بصورة الطمع والرق والعتق , فصور ما يفعله الطمع في الإنسان فهو يمتلك لبه وتفكيره , لا يكفيه القليل ولا يرضيه الكثير , وقوله : { أعتقت } اعتراف من الشاعر لممدوحه بالولاء الكامل ؛ لأنه رفعه عن تلك النقائص وكفاه مشقة الطلب .
أما البيت الثالث : يُلمح أن أبا تمام في هذا البيت ذو نفسية غاضبة , فقد ضج من الدهر وأيامه , لذا ابتدأ البيت بياء النداء للزجر واللوم , ونكر لفظ الدهر تحقيراً له , ثم غلّظ في مخاطبته حيث خاطبه مخاطبة الآمر المتضجر بأن يستقيم ويصلح حاله مع الناس , فاستعمل لفظ { قوم} وكأنه شخص يسمع ويعي , واستعار له لفظ الأخدعين استعارة مكنية واستعمال الفاء مع حرف قد للدلالة على التعقيب والسرعة , وهذه السرعة تدل على تحقق الأمر وتؤكده () .
وما كان المنصف الغربي ليجحد نظرية عبد القاهر الجرجاني ومدى استفادته منها في علم اللغويات الحديث الذي أسس له فرديناند دي سوسير في بداية القرن العشرين , وذلك في كتابه (( محاضرات في الألسنية العامة )) الذي نشر سنة 1915م , فقد أثبتت الدراسات المقارنة وجود علاقة قائمة بين منهج عبد القاهر والمنهج البنيوي فكلاهما يدرس اللغة نظاماً ونسقاً , فالنظام يتمثل في البناء العام في التركيب اللغوي الخاضع لقواعد اللغة بالنظرة الشمولية لطبيعة اللغة في اصطلاحها لدى المتكلمين بها , والنسق يتمثل في وجود السياق الذي تجري فيه هذه اللغة , فإذا نظر الباحث إلى اللغة بصفتها بنية عند عبد القاهر فإنه من طبيعة هذه البنية في الفكر اللغوي الحديث أنها تتآلف من عناصر يكون من شأن أي تحويل يعرض للواحد منها أن يحدث تحولاً في باقي العناصر الأخرى وهو ما ذهب إليه عبد القاهر الجرجاني في مفهومه للتعليق أو نظام العلاقات الذي يربط الظواهر ببعضها ويوضح تأثير اجزاء الجملة أو العبارة في بعضها .
واتخذ سوسير من اللغة ذاتها منطلقاً لدراسته وميداناً لها وهو ما يسمى (( علم اللغة النصي )) ومن هنا بنى قاعدة جوهرية تدعو إلى اعتبار اللغة منظومة لا قيمة لمكوناتها إلا بالعلاقة القائمة بينها , ولذا لا يمكن للألسني اعتبار مفردات لغة ما كيانات مستقلة بل إن لزاما عليه وصف العلاقات التي تربط هذه المفردات وهذا ما أكد عليه عبد القاهر الجرجاني في مواطن عدة من كتابه دلائل الإعجاز يقول : ” اعلم أن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها , ولكن لأن يُضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد “( )
ثم إن مصطلح التأليف عند عبد القاهر يقابله مصطلح التركيب عند دي سوسير , والكلمة عند عبد القاهر بمفردها لا فائدة لها في تأدية المعنى إلا بضمها إلى أخواتها التي تكوّن مجموع الكلم أو البناء وهذا ما يقابله عند دي سوسير أن الكلمات المتفرقة لا تعني شيئاً في التركيب إلا إذا كانت مجتمعة داخل وحدات متداخلة , ولا تفاضل للفظة على لفظة أخرى في رأي عبد القاهر ما لم تكن هناك دلالة تربط المعنى بمدلوله وتفسير هذا عند دي سوسير أنّ لا معنى للعلامة إلا بعلاقتها بما ترتبط به من معنى كلي .
ويقصد عبد القاهر بفكرة التعليق العلاقات بين المعاني النحوية بواسطة القرائن أو ما يسمى عند علماء النص معايير النصية أو معايير ضبط النص .
ويسمي النظم والترتيب والبناء ويجمع هذه التسميات في حديثه عن التعليق بقوله : ” لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ويبنى بعضها على بعض وتجعل هذا بسبب من تلك”( ).
فعبد القاهر كان سباقاً في تقديم اللبنة الأولى للنظام اللغوي على قدر ما تقتضيه الفكرة البنيوية في القرن العشرين .
واللغة عند دي سوسير نظام من العلامات ولا تعد الأصوات لغة إلا عندما تعبر عن الأفكار , ولكي تعبر الأصوات عن الأفكار ينبغي لها أن تكون جزءا من نظام العلاقات . وهو بذلك يلتقي مع عبد القاهر في قوله : ” إن اللغة تجري مجرى العلامات والسِّمات ولا معنى للعلامة أو السمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلاً عليه ” () .
ويسمي دي سوسير العلاقة اتحاد بين دال / أي شكل ومدلول / أي فكرة , وأن الرابط بينهما اعتباطي وأن العلامة هي مجموع ما ينجم عن ترابط الدال والمدلول وبالتالي إن العلامة الألسنية هي أيضا اعتباطية .
ومقصده من (( اعتباطية )) هو أنه لا معنى للعلامة في ذاتها وهذا ما سبقه به عبد القاهر بقوله : (( ولا معنى للعلامة أو السمة )) حتى يكون لها مدلول .
ويرى العالمان أن النظام اللغوي قائم على العلاقة الجدلية بين اللغة والفكر وأن نشاط هذا النظام لا يظهر إلا داخل محورين : وحدة العلامات أو الرموز والدلالة , وهو ما يعبر عنها بالمعنى وهاتان هما اللتان تصنعان التركيب بمفهوم عبد القاهر , والأنساق بمفهوم دي سوسير كما يتقصدها المتكلم بفعله الإرادي أثناء عملية التعبير .
وجعل دي سوسير من العلاقات بين البنى اللغوية مدخلاً للتفكير في طريقة الوصول إلى حقائق الأشياء من خلال منظور يحدد بينها من علاقات , ولاحظ نوعين من العلاقات اللغوية علاقات رأسية تصريفية يقوم بين الكلمة المذكورة وكل ما يمت إليها بصلة لفظية أو معنوية من كلمات لم تذكر وأخرى أفقية تركيبية تقوم بين الكلمات المتجاورة , والحق أن ابن جني قد درس هذه الأفكار منذ عشرة قرون يقول في حد اللغة في كتابه الخصائص : ” هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ” فهذا التعريف الموجز يحمل بين طياته ثلاثة أفكار من أفكار علم اللغة الحديث في الغرب حيث تعبر كلمة أصوات عن فكرة العلامة ومفهومها , في حين تعبر مفردات النص الأخرى عن فكرتي الاتصال { التداولية } والقصدية .
وقد فطن سيبويه إلى العلاقات الأفقية والعلاقات الرأسية حيث أورد لفظ { المعاقبة } في كتابه قاصداً به العلاقة الرأسية ويفهم من كلام عبد القاهر الجرجاني : (( ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها )) الدلالة على المحور الأفقي التركيبي , وحينما ينتقل عبد القاهر إلى المقارنة بين اللفظة تستحسن داخل سياق وتثقل على السامع في سياق آخر دلالة على المحور الرأسي الاستبدالي فالاستحسان والوحشة يرتبطان بممارسة الاختيار والاختيار أساس علاقة الاستبدال .
نخلص إلى أن عبد القاهر وسوسير متشابهان في ثلاث مسائل : الأولى أن اللغة مجموعة من العلاقات لا المفردات , والثانية أن الكلمات علامات اعتباطية تكتسب معناها من علاقاتها , والثالثة أن التفاوت يقع في الكلام لا اللغة . لكنهما مختلفان في خمس مسائل : الأولى : أن منهج سوسير وصفي , والثانية أنه معني باللغة المنطوقة لا اللغة القرآنية أو الأدبية والثالثة أن هدفه دراسة اللغة في ذاتها لا إظهار روعة القرآن وإعجازه والرابعة أنه مهتم بوضع الصيغة لا بالبحث عن المعاني الثواني والخامسة أنه لم ينته إلى الصورة مثل عبد القاهر الذي دخل بها إلى الأسلوب .
وأحاط عبد القاهر في نظريته بجميع الجوانب المؤثرة في العمل الأدبي ورأى أنه لن تحقق له المزية إلا باجتماع المستويات اللغوية المختلفة وتكاملها فيه في نفس الوقت وهذه المستويات تتمثل في (( المستوى النحوي والمستوى الدلالي والمستوى التركيبي )) ويكون بذلك قد سبق مدرستي النحو التحويلي والتوليدي التي يمثلها تشومسكي والذي أغرق في الوصف فميز بين ( الوصف اللغوي ) و ( الوصف البنيوي ) إذ يتعامل الأول مع بنى سطحية يجزّئ وحداتها ويعددها ويصنفها .
وهذا يعني أنه يدرس علم الأصوات phonetics )) )) والفونولوجيا (( phonology)) والمورفولوجيا (( morphology )) فيما يقوم الآخر بوصف التحويلات التي توصل إلى البنى السطحية .
وتعتمد مدرسة تشومسكي على أسس لامست إلى حد كبير منهج عبد القاهر :
*- اعتبار الجملة هي الوحدة اللغوية الأساسية ويميز فيها بين البنية الظاهرية ( السطحية ) والبنية العميقة وتنظم القواعد التحويلية العلاقة بين البنية العميقة والبنية الظاهرية السطحية للجملة .
*- مراعاة التغيرات التي تقع في الجملة من تقديم وتأخير من موضع إلى موضع وتميز بين هذه التغيرات وما يترتب عنها من تغير جوهري في المعنى الذي ينجم عنه تحولات قواعدية ويذهب عبد القاهر هذا المذهب في كتابيه فيميز بين ظاهرة التقديم على نية التأخير لأنه يؤدي إلى تحولات قواعدية وبين التقديم الذي هو ليس على نية التأخير لأنه يؤدي إلى تحولات قواعدية وهو مذهب تشومسكي نفسه .
*- ينطلق أصحاب المنهج البنيوي من الجملة باعتبارها وحدة جزئية ثم يذهبون على إثرها إلى تعميم النتائج في القاعدة والنظرية , بينما نظرية عبد القاهر تنطلق من النص الأدبي باعتباره وحدة كلية فتحلل أجزاءه وتحدد نتائجه , فنظرته المنهجية أن الكلي هو الذي يستدعي الجزئي , وكلما كان الكلي سليماً في بُنيته في الفكرة التي يعبر عنها تبع ذلك سلامة كل جزئية من جزئيات هذا الكلي .
*- نظرية عبد القاهر شاملة للمنهج الأدبي واللغوي معاً وفي احتوائها للقاعدة النحوية وتطويعها في معالجة الخطاب الأدبي بقطبيه الشعري والنثري في حين يصب رواد البنيوية اهتمامهم على متابعة الدرس اللغوي بمفرده فيبحثون في ظاهرته وقوانينه وقواعده ومن هنا كان التمايز والتفوق حليف عبد القاهر .
والصورة الأدبية في النقد الحديث تدور حول الخيال والموسيقا , فالخيال ينتظم الاستعارة والتمثيل والتشبيه والمجاز . أما الموسيقا فأساسها تجانس النغم وجرس الصوت في الكلمات والجمل مع المعنى الذي تؤديه العبارة .
ويبلغ عبد القاهر الجرجاني ذروة إبداعه الفني والنقدي في دراسته للصورة حينما ينظر إليها نظرة متكاملة لا تقوم على اللفظ وحده أو المعنى وحده , بل يرد ذلك إلى النظم وبذلك تتضافر العناصر كلها { الألفاظ والمعاني والتشبيهات والاستعارات .. } لتكوّن الصورة الكلية , ويشبهها بعملية الصياغة أو بالوشي , ويعدها من النمط العالي الذي يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع , يقول : ” واعلم أن قولنا { الصورة } إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة فكان بين إنسان من إنسان وفرس من فرس بخصوصية تكون في صورة ذاك .. وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء ويكفيك قول الجاحظ { وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير “( )
ولولا مراعاة النظم وروعته فيها لما جاءت هذه الصور على هذا النسق الجميل ثم يأتي دور الخيال والعبارة الموسيقية بعد ذلك ليضفي كل منهما جمالاً على الجمال .
ويربط عبد القاهر الصورة بدوافع نفسية إضافة إلى الخصائص الذوقية والحسية حيث تجتمع هذه الخصائص جميعاً عبر وشائج وصلات حية لتعطي الصورة شكلاً ورونقاً وعمقاً (( فالتمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورة كساها أبهة وكسبها منقبة ورفع من أقدارها وشب من نارها وضاعف قواها في تحريك النفوس لها , ودعا القلوب إليها واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفاً وقسر الطباع على ان تعطيها محبة وشغفاً )) أسرار البلاغة 115
ويرى عبد القاهر أن التفاوت في الصور هو الطريق لإثبات الإعجاز , فإذا بلغ الأثر الأدبي درجة من التميز لا يلحقه فيها أثر آخر صح أن يسمى معجزاً , وقد سبق تحليل قوله تعالى : (( واشتعل الرأس شيباً )) , واقرأ إن شئت قول البحتري من السينية :
تشهد العين أنهم جد أحياء *** لهم بينهم إشارة خرس .
يغتلي فيهم ارتيابي حتى * * * تتقراهم يدي بلمس .
تجد أن الأسلوب الحقيقي قد فاق الأسلوب الخيالي , فالصورة عنده تعتمد على التصوير الخيالي وتعتمد على التصوير الحقيقي ولكل منهما جماله وتأثيره .
وخلاصة القول يمكننا القول أن عبد القاهر الجرجاني أعطى اللفظ حقه كما أعطى للمعنى حقه , وأن الصورة الأدبية عنده تتشكل في الذهن أولاً ثم تبرز إلى الخارج بعد انتظامها , وأن الصورة يكون لها معنى مقصود وغرض يهدف إليه الشاعر , وأن أساس الجمال عنده يرجع إلى النظم والصياغة والتصوير , وأن كل كلمة في النظم أو الصورة لا بد أن تأخذ مكانها بين أخواتها ويرتبط معناها بمعاني الكلم فيها على أساس توخي معاني النحو .
وذهب سيد قطب ومحمد العشماوي إلى أن عبد القاهر الجرجاني أهمل القيم الصوتية للألفاظ مفردة ومجتمعة وهو ما عبر عنه بالإيقاع الموسيقي , كما أغفل الظلال الخيالية في أحيان كثيرة وهي بلا شك ذات قيمة فنية في العمل الفني .
والحق أن عبد القاهر لم يهمل ذلك وإنما اعترف بأهميته في آخر كتابه { دلائل الإعجاز } فقال : (( واعلم أنا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلاً فيما يوجب الفضيلة , وأن تكون مما يؤكد أمر الإعجاز , وإنما الذي ننكره ونفيّل رأي من يذهب إليه – يقصد تقبيحه وخطأه لفساده – أن يجعله معجزاً به وحده ويجعله الأصل والعمدة فيخرج إلى ما ذكرنا من الشناعات “( فهو لم ينكر فصاحة الألفاظ ونغمها ولكنه لم يرد أن يفسر الإعجاز بها ولذلك لم يدرسها كما درسها الآخرون ولم يُعن بها عناية تظهر مزيتها وتأثيرها في الكلام .
وخاتمة هذه الرحلة الماتعة والممتعة لا يفوتني أن أنوه بأن عبد القاهر قد ختم دلائله بفصل أبان فيه السر في وضع مفردات اللغة وأنها رموز للمعاني التي وضعت لها , وبذلك سبق النقد الغربي الحديث بقرون في نظرية الرمزية في اللغة كما سبقها في نظرية العلاقات .
ومهما يكن فعبد القاهر صاحب نظرية النظم وإن سبقه المتقدمون إلى الإشادة بها في إعجاز القرآن العظيم وقد بنى عليها تصوره البلاغي كله ونظر إلى إعجاز كتاب الله واللفظ والمعنى والتصوير الأدبي
ذاكم الإمام عبد القاهر الجرجاني – رحمه الله – أكبر ناقد عرفه النقد العربي , وأعظم بلاغي شهدته الدراسات البلاغية ؛ لأنه استطاع أن ينظر إلى البلاغة نظرة شاملة , وأن يربط بينها وبين الدراسات القرآنية المتصلة بالإعجاز , ويكفيه خلوداً أن الأسس التي آمن بها والآراء التي عرضها والقواعد التي وضعها ما تزال أساسَ الدراسات النقدية .
ولست هنا أدعو إلى الغرور والمكابرة بأسلافنا ولا أدعو إلى التواري والانزواء عن متابعة التقدم ؛ لأن الانعزالية تأباها طبيعة الحياة في تزاوج الثقافات بين الأمم قديما وحديثا , ولكن هل من صلاة ودعاء تكشف عنّا الغمة , وتبعث فينا الهمّة , وترد لنا الضالة … ؟
فاليوم حاجتنا إليك وإنما *** يُدعى الطبيب لساعة الأوصاب .