المقالات

تباين الرؤى والأحكام

لو أدرك الناس في كل مكان أولوية وتلقائية وأصالة الاختلاف لتوارتْ من الحياة البشرية مشكلات كثيرة تُفسد الحياة وتربك العلاقات؛ لذلك فإن أول ما ينبغي أن يتعلمه الناس ويعتادوا عليه هو أن اختلاف التصورات والرؤى والأحكام والآراء والاتجاهات هو شيء طبيعي تمامًا، وبشكل كلي بل إن الاختلاف هو الأصل وأن التماثل التام في الآراء محال، وأن الممكن فقط هو التقارب والتلاؤم بين مختلف الاتجاهات فلا يوجد اثنان متماثلان تمامًا في بنيتهما الذهنية، ولا حتى التوائم فكل فرد هو عالَمٌ مختلفٌ عن كل الآخرين.
وليس التباين محصورًا في الآراء المرتجلة والنقاشات الشفهية، وإنما سيجد الباحث تباينًا صارخًا بين الباحثين والدارسين والنقاد الذين يرون بأن أحكامهم تتأسس على الدراسة الموضوعية والتمحيص الدقيق وفق أصول وقواعد وضوابط مرجعية يُفترَض أن الكل يعرفها، وأن الجميع ملتزمون بها.
لذلك ينبغي أن لا تفاجأ حين تجد ناقدين يتحدثان عن مبدع واحد وعن نص إبداعي بعينه، ولكنهما يختلفان إلى درجة التباين التام.
وعلى سبيل المثال نجد أن الناقد الشهير هارولد بلوم في كتابه (خريطة للقراءة) يضع الشاعر البريطاني جون ميلتون في الذروة مع المبدعين العالميين فيقول:
(ما من شاعر يمكن مقارنته بميلتون على صعيد شدة تركيز وعيه الذاتي كفنان وفي مقدرته على تجاوز كل النتائج السلبية لِهَمٍّ كهذا) ويضيف:
(إن مشروع ملتون الطموح المتضمن قصْدية عالية جَعَلَه بالضرورة متطورًا في منافسةٍ مباشرة مع هوميروس وأوفيد ودانتي).
ويقول في موضع آخر: (الشعراء الأقوياء هم قِلَّةٌ قليلة وقَرْنُنا يُظهر شاعرين اثنين فقط، ويمكن أن يؤخذ ميلتون كتتويج للقوة الشعرية).
ويعود بلوم للحديث عن ميلتون بوصفه ملهمًا ومعلِّمًا للشعراء ومُرشِدهم وقدوتهم.
كما يتناوله في كتابه (كيف نقرأ) كما يتحدث عنه أيضًا في كتابه (فن قراءة الشعر) كما يتناوله في كتابه (قلق التأثُّر) وبشكل أوسع في كتابه (التقليد الأدبي الغربي)، وهكذا يرى بلوم أن ميلتون يقف في الذروة بين الشعراء العالميين.
ولكن بالمقابل نجد الناقد الحصيف (برتون راسكو) يقف في كتابه (عمالقة الأدب الغربي) ليرجُم جون ميلتون بقذائف ساحقة ويقذف به إلى الحضيض، ولا يكتفي بأن يزيحه عن الذروة التي يرى أنه قد احتلها عن طريق غفلة الدارسين وعدم تدقيقهم؛ فيؤكد أن الفردوس المفقود والفردوس المستعاد وهما الإنتاج الشعري لميلتون هما: (مثالان شنيعان لما يمكن أن يحدث)؛ ولأن رؤيته تتصادم مع الشائع فإنه قد طلب من القارئ أن يأخذ مسَكِّنًا لئلا يُصدَم: (بأبشع عبارات التجديف) ثم يؤكد: (إنني سجلت حقيقة ما فاضت به مشاعري وذلك بعد إدمان التأمل وإمعان النظر ومعاودة القراءة ومساءلة النفس).
هكذا هم البشر لا يكاد يجمعهم رأي ولا يوحدهم موقف، وإنما هم كما قال الفيلسوف خوسيه أورتيغا: إننا نعيش وسط أناس مسرنمين يتقدمون في الحياة في حلمٍ مطبق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com