لا يمكن للمواقف الصعبة التي تتدخل فيها العناية الإلهية؛ لتُلهم الإنسان ليتصرف بحنكة وحكمة إلا أن تظل خالدةً في الذهن رغم النجاة منها وتجاوزها إلى مرافئ الأمان !
أقول قولي هذا، وأنا أستعرض شريطًا من الملمات التي تعرضت لها كسائر الناس، وتعرض لها غيري في أصقاع المعمورة والتي مازالت – رغم تجاوزها – تنحت في ذاكرة الخوف والذهول تارةً، والوجد والانكفاء تارةً أخرى!
هذه الحالة الوجدانية المعقدة، والتي ينجو فيها الإنسان من الصعاب بيد أنه يبقى في أغلال الرعب تمثلث لي في الفيلم البديع Mrs. Chatterjee vs. Norway والذي يروي قصة عائلة هندية مكونة من أم وأب وطفلين هاجروا إلى النرويج، وتم فصل طفليهما عنهما وإرسالهما إلى دار رعاية الأطفال تحت ذريعة أن الطفلين لا يحظيان بالرعاية المناسبة من أمهما التي تقوم بفعلين مُشينين وسيئين وهما: إطعام الطفلين بيديها بدلًا من الملعقة، وتكحيل عينيهما !
ولأن هذين السلوكين يحفران في عُمق الثقافة الهندية التي لا يعرف عنها معظم رجال الدول الإسكندنافية (النرويج والسويد)؛ فالنرويجيون يتناولون الطعام بالكاتلري (ملعقة وشوكة وسكاكين بأحجام مختلفة)، ولا يكحلون أطفالهم عوضًا عن أن يؤمنوا بأنه يبعد الحسد عنهم وفقًا للمعتقدات والثقافة الهندوسية، لأجل هذا، كانت تهمة الإساءة للطفولة حاضرة، وتم ذلك من خلال منظمة محلية مشبوهة قامت باختطاف وتحويل الطفلين إلى دار الرعاية ثم لأسرة لتبنيهما بعيدًا عن والديهما البيولوجيين !
الأم العظيمة السيدة “تشاترجي” لم تستسلم كما فعل زوجها فانطلقت بحنان الأم في كل اتجاه لمحاولة إعادة طفليها لمنزلهما، ووصل بها الأمر أن وقفت في ردهات دور الحضانة وذهبت لبيوت التبني، وأخذت الطفلين وعبرت بهما الحدود من النرويج إلى السويد قبل أن يتم اعتقالها وإعادتها بصحبة الطفلين إلى النرويج، ثم استغلت وجود مشروع تقارب تعاوني بين البلدين بحضور مندوبة هندية إلى النرويج فاقتحمت القاعة لتبث همها إلى ممثلة الهند التي تعاطفت مع مواطنتها، وأوقفت التعاون ليتم بعدها بخدعة مدروسة من تلك المنظمة المشبوهة الاتفاق لإرسال الطفلين إلى الهند في رعاية عمهما الشرير مقابل تقاضي أموال؛ لذلك دون السماح للأم بزيارتهما إلا بموافقة من السلطات النرويجية والهندية معًا! وفي النهاية لجأت المكلومة “تشاترجي” للقضاء الهندي وقدمت محاميتها الهندية النجيبة دفوعات استطاعت بها دحض كل التهم عنها كأم مستهترة ومختلة وغير متعلمة رغم أنها تحمل درجة البكالوريوس في العلوم ! المؤلم في المقاضاة أن زوجها الطامع في الجنسية النرويجية شهد كذبًا عبر الاتصال الإلكتروني ضد زوجته بأنها مختلة وسيئة لكي لا يتأثر ملف التجنيس الخاص به في هذه الحادثة ! وأخيرًا، صدر قرار المحكمة الهندية بإعادة الطفلين لأمهم، ورفع الوصاية عنهما وكسبت “تشاترجي” أبناءها بعد عامين من الانفصال والألم والحرقة عليهما !
دموع السيدة تشاترجي بعد انتهاء القضية، ألمها، عدم قدرتها على استيعاب عودة طفليها، صدمتها بأقرب الناس إليها، عجزها عن الوقوف ليهنئها الجموع، عدم قدرتها على الكلام، كل هذه السيمفونية المحزنة في نهاية هذا العمل الدرامي الموغل في المشاعر ذكرتني بالمقولة الرائعة:
لقد نجا من الغرق، لكن البحر ظل عالقًا في عينيه !