محمد بربر
في مشهدٍ هزّ القلوب المتحجرة، لفظ رجل مسن أنفاسه الأخيرة أمام قسم الشرطة، بعدما جاء ليحرر محضرًا ضد ابنه الذي تخلى عنه ورماه في الشارع، إلا أن قلب الأب المكلوم لم يحتمل الألم الذي عاشه، وفارق الحياة قبل أن يتمكن من تقديم الشكوى.
الرجل السبعيني، المعروف بـ”عم عوف”، كان في حالة يرثى لها، يجلس أمام باب القسم بوجهٍ شاحب وجسدٍ منهك، يرتجف تحت وطأة البرد والمعاناة. كان يرتدي ملابس قديمة وبالية، وتحمل عيناه الحزينتان قصصاً من الألم. عندما اقترب منه أحد رجال الأمن ليسأله عن سبب وجوده في ذلك الوقت المتأخر، قال بصوتٍ مبحوح: “جئت لأحرر محضرًا ضد ابني… ابني الذي تركني بلا مأوى بين دار المسنين والقهوة.”
بدأ عم عوف في سرد قصته المؤلمة، حيث تخلى عنه ابنه الوحيد بعد زواجه، وخضع لرغبة زوجته التي اعتبرت وجود الأب في المنزل عبئًا. أودع الابن والده في دار المسنين، حيث كان يزوره مرة واحدة في الشهر، وبمرور الوقت توقفت تلك الزيارات وأصبح الوالد وحيدًا بلا أي دعم. وعندما تراكمت عليه الديون في الدار ولم يعد الابن قادرًا على تسديدها، اضطر إلى إعادته إلى شقته.
لكن تلك الشقة لم تكن ملاذًا آمنًا للرجل العجوز، بل كانت سجنًا باردًا. زوجة الابن عاملته بقسوة، وحرمته من الطعام والعلاج، فكان يجلس في غرفة مظلمة يعاني من الجوع والألم. أحيانًا، كان يهرب من المنزل ويتجول في الشوارع، يجلس على المقاهي، يستمع إلى أحاديث الغرباء على أمل أن يجد من يمد له يد العون.
وفي إحدى الليالي، قرر عم عوف التوجه إلى الشرطة بعدما نصحه محامٍ بذلك، لكن مشاعره كانت مختلطة بين الخوف والحب لابنه الذي رغم جحوده، لم يتوقف قلب الوالد عن الشعور نحوه. وبينما هو يسرد قصته ويبكي بحرقة، توقف جسده عن الارتعاش، وأسلم روحه إلى بارئها قبل أن يتمكن من كتابة المحضر.
وهكذا انتهت حياة “عم عوف” وحيدًا ومهملًا، بعدما ضحى بكل شيء من أجل ابنه. لكن تلك القصة المؤلمة التي انتهت أمام باب قسم الشرطة ستظل شاهدة على العقوق والجحود، وعلى قلوب لم تعرف الرحمة.