في بداية الصف الأول الثانوي، كان أستاذ مادة التعبير شاعرًا معروفًا، وفي أول حصة لنا بعد التعارف المعتاد، طلب منّا أن نختار موضوعًا ونكتب عنه.
اخترت موضوعًا بعنوان: “الكتاب في عصر الفضائيات”، وكنت متحمسًا جدًا، وصورت أن الكتب تشكو وتبكي من هجر الناس لها، بعدما انشغلوا بالشاشات الصغيرة بمختلف اهتماماتها ومحتوياتها.
أتذكر أن الأستاذ دعاني إلى مقدمة الفصل، وطلب مني أن ألقي الموضوع أمام زملائي. تحمست، وألقيت الموضوع كأني أخطب، لكن سرعان ما أصبحت مادة للتندر (في رواية للتنمر) من الأصدقاء الأعزاء.
وبعد انتهائي، سألني الأستاذ: “ما هو آخر كتاب قرأته؟” أجبت بكل ثقة: “أسرار لقاء الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت”، وهنا زادت موجة المزاح والطقطقة من زملائي، يمكنكم تخيل الموقف!
ما جعلني أتذكر تلك القصة مؤخرًا هو اهتمامي بما أسميه اليوم “أنسنة التواصل”، مما جعلني أفكر في مشاركة ما يدور في خاطري عن “الأنسنة في عصر الرقمنة”.
لقد أصبحت فكرة “أنسنة التواصل” محور اهتمام في الآونة الأخيرة؛ خاصة من قِبل علماء التواصل والإعلام، وعلى رأسهم البروفيسور “روبرت بيكارد” من جامعة أوكسفورد، وهو رائد في اقتصاديات الإعلام وسياسات الإعلام الحكومي عالميًا.
بيكارد، وغيره من الباحثين، ركزوا على ضرورة “أنسنة التواصل” خاصة بعد أن أصبحت الروبوتات الذكية وأدوات الذكاء الاصطناعي جزءًا أساسيًا من عملية التواصل. هنا تبرز أهمية اللمسة الإنسانية التي تخلق روابط عاطفية عميقة بين المؤسسات وأصحاب المصلحة، وهذا الترابط يُساهم في بناء جمهور مستهدف مستدام وموثوق.
شخصيًّا، أجد أنني أفتقد اللمسة الإنسانية في الحملات الرقمية، وأعتقد أن الجمهور يرغب في بناء علاقات مع المؤسسات والشعور بأنهم يتواصلون مع بشر حقيقيين، حتى في البيئات الرقمية.
لكننا نلاحظ أن العديد من حملات التواصل الرقمي تركز على التكنولوجيا أو “المشاركات المزيفة”، بدلًا من التأثير الحقيقي على الجمهور.
المؤسسات تبذل جهودًا كبيرة في تصميم وتنفيذ هذه الحملات، لكنها غالبًا ما تتجاهل أهم استثمار، وهو فهم شعور جمهورها تجاهها وتجاه الرسائل المقدمة. يتطلب هذا النوع من الاستثمارات شجاعة وصبرًا؛ حيث يبدأ بفهم الجمهور المستهدف، معرفة ما يحفزه، وما الذي يدفعه للاهتمام بالحملة ورسائلها، ثم بناء الرسالة بناءً على ذلك الفهم، وليس فقط ما يرغبه القادة أو المسؤولون.
على أية حال يبقى السؤال: ما الذي يمكننا فعله كمهنيين في مجال التواصل لتعزيز عملية الأنسنة؟ هل يكون الحل في جعل وسائل الإعلام أكثر إنسانية في سماتها؟
لا شك أن وسائل التواصل الرقمي أصبحت تجسد التجارب الإنسانية بشكل أو بآخر، لذلك، علينا كممارسين في هذا المجال أن نتحلى بالشجاعة لدمج المنطق الرقمي مع المشاعر الإنسانية، بهدف خلق إستراتيجيات تواصل مؤثرة، قادرة على إحداث تأثير حقيقي وقيمة مستدامة.