رغم كل مظاهر التقدم الإنساني؛ فإن المنافسات الشرسة بين الأفراد والفئات والعدوانية المتوحشة التي تندلع وتتفجر على شكل حروب جماعية مدمرة بين الأمم، تتكشف عن كثافة عنف الإنسان وعُمق عدوانيته وأصالة الشر في نفسه وأولوية الانحياز في أحكامه ومواقفه.
ولا تقتصر مظاهر العدوانية الفظيعة على المتحاربين أنفسهم، وإنما تَهُبُّ أممٌ أخرى ليس لوقف العدوان وإنقاذ المعتدى عليه، وإنما تهب لتشارك في تأجيج الحرب وإطالة أمدها، إنهم بدلًا من ردع المعتدي يواصلون إمداده بالسلاح، ويؤيدونه بالأقوال ويدافعون عنه في المحافل الدولية.
إن الحروب تكشف أن أحكام الإنسان تتأرجح مع أهوائه، إن أحكامه وآراءه ومواقفه تتذبذب وتتغير حسب الهوى والرغبة؛ فالذي يتحكم بالمواقف أثناء النزاعات ليس منطق القانون والحق والعقل والأخلاق والإحساس بآلام الآخرين، وإنما الرغبات والأهواء هي التي تتحكم بالأقوال والأفعال، وهي التي تحدد المواقف فمنها تندلق التصريحات والأقوال والمرافعات، إننا حين نريد أن نتعرف على حقيقة الطبيعة البشرية لا ينبغي أن ننظر إلى الناس في حالة السِّلم؛ حيث إن الوحش كامنٌ ومُتربص بل يجب أن نقرأ تاريخ الحروب؛ فالإنسان يبطش بعنف ويتلذذ بالقتل وتُشرق عواطفه العميقة حين تسيل الدماء بغزارة.
إن المتحاربين ينزعون الصفة الإنسانية عن خصومهم؛ فكل طرف يَعتبر الطرف الآخر همجيًّا ومتوحشًا وفظيعًا ومجرمًا وعدوانيًّا، ولا يستحق الرحمة أو الشفقة أو الإنقاذ.
ولأن الإنسان كائن عدواني؛ فإن الحروب تندلع بين الأمم لأوهى الأسباب؛ فالإنسان كائن تبريري فهو يبرر لنفسه أي فعل، ويدافع عن أي عدوان فالمواقف محكومة بالعواطف أما القوانين الدولية والمواضعات العالمية؛ فهي تمنيات توضع أثناء فترات السلم التي تعْقُب الحروب، ولكن ليس أسهل من التخلي عن الأعراف الإنسانية وانتهاك كل القوانين الدولية وتلقائية وجاهزية تبرير العدوان.
إن الحروب بين الأمم والعدوانية المتبادلة بين الأفراد المتنافسين تكشف هشاشة القشرة الحضارية؛ فالقوانين والأخلاق هي من أدوات التعايش الاضطراري وقت السِّلم أما حين يندلق ما في النفوس من عدوان؛ فإن كل الموبقات تكون مباحة وكلها من أدوات الصراع.
حتى إيجابيات الإنسان وتفتُّق مواهبه تكون كثيفة العطاء في الحروب، إننا حين نقرأ تاريخ الاختراعات أو نقرأ تاريخ الأمم، نجد أن العدوانية الملتهبة هي التي تشحذ قابليات الإنسان وتفتح له أبواب الابتكار والاختراع والاكتشاف من أجل تحقيق النصر؛ فمعظم وسائل الحياة كانت في الأساس اختراعات دفعت إليها الحروب، وليس اختراع الكومبيوتر والنت سوى نماذج من التطورات النوعية التي أسفرت عنها الحروب.
إن إدراك هذه الحقيقة عن أصالة وأولوية وتلقائية السلبيات في الإنسان هي التي يمكن أن تدفعه إلى تعميق الجانب الإنساني في التعامل؛ حيث يجب التأكيد الدائم ليس فقط على بناء كفايات الإنسان وقدراته، وإنما الإلحاح الشديد والمستمر على أولوية الأخلاق في الحياة الفردية والجماعية، إن براعات الإنسان تنسيه عدوانيته فلا بد من تذكيره الدائم بأصالة وتلقائية العدوانية، أما الجوانب الخيرة فتتطلب الاهتمام الدائم والعناية العميقة والتذكير المتكرر.
0