المقالات

الحتمية التكنولوجية مقابل الإبداع!

الخطر الحقيقي ليس أن تبدأ أجهزة الكمبيوتر في التفكير مثل الرجال، ولكن أن الرجال سيبدأون في التفكير مثل أجهزة الكمبيوتر”. – سيدني ج. هاريس

مما لا شك فيه أن التقنية أضحت مقياسًا لحداثة الأمم ومحط تنافس بين الشعوب، ويعد توظيفها في كافة المجالات من المستحدثات التي تصاعد الاهتمام بها في جميع الدول،
الفن والأدب والإعلام والرسم والتخطيط والبحث والتقصي والريادة والفرادة كل تلك المجالات شملتها رياح التغيير، وبدأ وهج الإنسان فيها يخفُت مقابل معجزة الآلة.

الجدير بالذكر أن مجيء التقنية في اعتبار الإنسان الكادح بالفطرة كان يُعدّ خدمة للجنس البشري، على اعتبار أنه لا يوجد شيء يمكن أن يحل محل البشر في أي مهمة؛ وإذ بالمفاهيم تنقلب والقناعات تتعاكس، والمنطق لم يعد مطلوبًا في الأمر برمته، فلم يعد للفرد سيادة.

لقد أَجلَت المستحدثات عظمة الإنسان حتى تجاه قناعته بنفسه، فأصبح الخادم سيّدًا والسيد منصاعًا له بل وملغيًا معدومًا في كثير من الأحيان.

تجلّت التكنولوجيا كالبديهيات في عوالمنا، وألغت في معظمنا الفِكر والانتقاء والبراعة والتفنن والابتكار!
حتى انصهرنا مجددًا في قالب القطيع، نشبه بعضنا بلا لمسات، بلا بصمات تُقيّمنا، واجباتنا عصية عن التجلي، كلماتنا لا يستتر خلفها معنى جليل، نهيم في عادية مكررة مُملة يوسمها وسمُ التقنية التي وحّدتنا برغم فروقاتنا وتنقّلاتنا الشخصية والفكرية والنفسية، صيّرتنا مفلسين برغم كنوزنا!

خارج سياق الطبيعة لغت الحتمية التكنولوجية حتمية تسيّدنا على كل شيء، ننصاع بإرادتنا غير آسفين لهذه الآلة التي تكتب وتبحث وتصيغ، وترسم وتخطط وتفكر عوضًا عنا، وما من رادع، لوهلة حين أفكر في نتاج هذه الحتمية أجدني أفزع مما يجعلنا كبشر نخلق خادمنا لنخدمه!

لقد ابتدعنا بفرادتنا وعقلياتنا وإرادتنا نسقًا مُلهِمًا ومُعجِزًا ثم لغّمناه بإرادة مفرطة التقاعس، فأصبحنا خاضعين بوضوح لنسق مستبد يرفض التراجع، يتقدم ويلغي ما عداه، تباطأنا في حضرة تعاظمه عن اكتساب المزيد، خذلنا المعرفة وأغلقنا أبوابها، شرعنا في التحديق بلا هوادة فيما صيّرنا نُسخًا مكررة، نهيم في مأزق الحداثة التي نُسجت على مقاس احتياجنا لننهض، وإذ بنا نحتشد بغلوّ في مدارها لتصبح كل شيء بالجُملة ونحنُ اللا شيء مقابل سيادتها!

بَيدَ أن الزمن لم يطوِ مآثرنا بعد، وثمة مخارج لم تندثر كنجاة من حتمية التغيير، والجِبلّة البشرية لم تزل تتوهج في سِماتنا ومسالكنا مهما ألغتها هجمات الحداثة وفُرضِت بإرادتنا الشقية.

هنالك عبء على الإنسان في سياق مجتمعه وفي توجّهاته وفي رؤيته تجاه ذاته، وهو عبء القيمة التي لا يمكن ألا يهتز على إثرها مهما تغافل وتقاعس وانخرط في نسق القطيع، سيظل عناد الإرادة يضجّ في بواطن كل فرد له بصماته الجلية في مجتمعه وفي محيط عمله وله منجزاته التي لن يسمح بتلاشي فرادته فيها ليحل محلها عبث التناسخ ووسمُ التقنية..

شخصيًا لا أرى تعارضًا بين حتمية فرادة الإنسان وحتمية الحداثة والتطور، ففي عُرف المجتمعات المتمدنة يجب أن يكون مُبتكَرً ناجعًا يرقى بمساعدته الحاضر وتتفتح بخدماته معالم المستقبل، ولكن لعل استهواء الاتكالية في زمننا المُشبع بالخدمات قادنا إلى خسارة فرادتنا وتلف مقتنياتنا الفكرية والفلسفية والإبداعية مما يجعلنا أمام تهديد حقيقي يتفاقم ويتفشى في الأجيال القادمة التي لن تعرف ماهية الفِكر والإبداع، ولن تبصر للفرادة صورة، ولن تجد في سبيلها أي مناضل.

فهل سنفلح في حتمية التقنية وعلى إثرها، أم ستقتلع رياحها أي دلالة للإنسان!
الفيصل في الفرادة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى