الحياة تفاعُلٌ بين مكوِّنات الوجود؛ فلكل فعلٍ ردُّ فعل مساوٍ له بالقوة ومضاد له بالاتجاه. إن هذا قانون كوني وحياة الأفراد والأمم محكومة بهذا القانون الكوني.
كنت أتأمّل في المراحل الثلاث التي مرَّ بها تفكير عبدالله القصيمي، وكيف أنه كان مدافعًا شديد القوة والاندفاع عن السلفية، وكيف أن هذا الاندفاع جعله منذ بداية التحاقه بالأزهر غير قادر على التكيُّف مع بعض اتجاهاته؛ فثار ضد ما يراه انحرافًا عن الإسلام الحق، وأدت ثورته على الأزهر إلى حرمانه من مواصلة الدراسة؛ فتم فصله مبكرًا من الأزهر فلم يواصل التعليم الرسمي وإنما اعتمد على ذاته في تعليم نفسه؛ فهو لم يكن نتاج الأقمطة أو الأقفاص التعليمية، وإنما هو طائر معرفي يرفرف في الأعالي لكنه أمعن في الرفرفة حتى فقد التماسك.
أنتج القصيمي عددًا من المؤلفات يدافع فيها بحمية شديدة وحرارة بالغة عن السلفية، وقوبلت هذه المؤلفات بالكثير من الإعجاب والتقريظ من قبل السلفيين، وقيلت في مدحه القصائد.
ولكن القصيمي عاش آنذاك في مصر واطلع على الفكر العالمي وقرأ علم النفس، وتعرَّف على الطبيعة البشرية وقرأ عن نهضة أوروبا؛ فبات يَغْلي ويتأجج احتراقًا على تخلف المسلمين عمومًا والعرب خصوصًا، ورأى أنه قد شَخَّص أسباب التخلف وأدرك أسباب الانعتاق من الانحطاط؛ فأصدر كتابه (هذه هي الأغلال)، وهذا الكتاب يمثل المرحلة الثانية من مراحل تفكير عبدالله القصيمي … كان هذا الكتاب بمثابة نداء حار للأمة لكي تتخلص من معوقات النمو، وتنطلق في مسار الحضارة المعاصرة.
لكن هذا التحوّل من السلفية الموغلة إلى الانفتاح المتعقل قد قُوبل برفض حاد عنيف فكان الرد المشتط سببًا في انفصاله المشتط؛ فالشطط يُنتِج الشطط والعنف يَخلق العنف فاشتط الهجوم عليه، وقابل ذلك هو برد فعل مشتط وأمعن في الشطط؛ فتواصلت كتبه التي تهاجم العرب وتسخر من الثقافة العربية فقوبل بالرفض من المتديين ومن القوميين لقد قوبل بالنفي من اليمين ومن اليسار؛ فلم يكن لفكره الحاد تأثير يتناسب مع رعوده.
خضع فكر عبدالله القصيمي للدراسة والتقييم؛ فأصدر عنه الألماني يورغن فازلا كتابًا بعنوان: (القصيمي: بين الأصولية والانشقاق) كما كتب عنه الأستاذ هاشم الجحدلي سلسلة مقالات نشرها في جريدة عكاظ، وأصدر عنه صديقه المصري إبراهيم عبد الرحمن كتابًا توثيقيًّا بعنوان :(خمسون عامًا مع عبدالله القصيمي)، وأصدر عنه الدكتور عبد اللطيف الصديقي دراسة مركَّزة بعنوان: (هكذا تكلم القصيمي)، وللدكتور عبدالله القفاري كتاب بعنوان : (عبدالله القصيمي: حياته وفكره)، وأخيرًا أُعِدت عنه رسالة دكتوراة بجامعة بغداد في العراق وصدر الكتاب عن دار جداول بعنوان: (عبدالله القصيمي: من الأصالة إلى ما بعد الحداثة)، وهو (دراسة تحليلية) أما صاحب الأطروحة فهو الدكتور صباح مفتن حميدي.
بقي أن نقول بأن الشطط الذي قُوبل به كتابه المعتدل (هذه هي الأغلال) قد دفعه هو إلى الشطط الأقصى فثار على كل شيء.
0