المقالات

يسألونك عن مسائل في الأدب

هذه جلسة بحث وقراءة تمتعت بها في مكتبتي , كانت رحلة ماتعة قطعتها عبر أربعة عشر قرناً من الزمان , أجبت فيها عن أسئلة راودتني , كان منها ما يلي :

س : هناك عدد من النظريات والطرائق التي غلبت على الدراسات الأدبية ؛ فما هي ؟ وما أشهرها ؟ وأيّها أولى بالدراسة الأدبية ؟

ج : لشكري فيصل دراسة وافية في هذا الموضوع , ويمكنك العودة إليها , وهي النظرية المدرسية , ونظرية الفنون الأدبية , ونظرية الثقافات , ونظرية خصائص الجنس , ونظرية المذاهب الفنية , والنظرية الإقليمية . وأشهرها : النظرية المدرسية وهي المهيمنة على مناهج الدراسة الأدبية والنقدية لأسباب منها : تسهيل الدراسة على الدارسين , ولأنها معتمدة في مناهج التعليم العام والجامعي في الوطن العربي , ولأنها أرّخت للحياة السياسية والاجتماعية والعقلية للمسلمين .

وهي أثر من آثار المزاوجة بين لونين من ألوان التأريخ الأدبي : اللون العربي بكل خصائصه القديمة التي علقت بها السياسة وشغلتها حياة القصور والصراع على السلطة , واللون الذي أرخ الأدب الغربي في أوروبا .

وهي تقوم على تقسيم الأدب العربي إلى عصور ( العصر الجاهلي , وعصر صدر الإسلام وبني أمية , والعصر العباسي , وعصر الدول المتتابعة , وعصر النهضة ) وهناك من يجعل العصر الأندلسي في مطاوي العصر العباسي . وقد سادت هذه النظرية مؤلفات أولئك الرواد في التأليف الأدبي المدرسي مثل : حسن توفيق العدل والمرصفي والإسكندري وجرجي زيدان وأحمد حسن الزيات وأحمد أمين .

ويؤخذ على هذه النظرية أنها درست الأدب على أساس قسمة العصور قسمة تاريخية لا أدبية وأنها وضعت حدوداً فاصلة بين الآداب طبقاً لحدود العصور على حين أن العصور تتداخل والآداب تتشابك والنماذج تختلط , ثم أهملت إلى حد كبير الأساس المكاني وتأثير البيئة في النتاج الأدبي , وقد أدّى هذا الإهمال فيما بعد إلى بروز النظرية الإقليمية في الدراسة الأدبية وتباين الأحكام الأدبية تبايناً غريباً هو أقرب إلى التناقض وأدنى إلى التضاد .

كما يؤخذ عليها أنها أهملت النوازع الفردية وخصائص الإبداع الذاتي عند الأدباء وذلك بسبب طغيان المقياس الزمني الأفقي وقد جنى هذا على مئات من الشعراء الذين أغرقتهم هذه النظرية في تيار التعميم السطحي الذي لا يثبت عند التحقيق والفحص العميق .

كما يؤخذ عليها العناية بالمشاهير والتركيز على اللامعين ثم إصدار الأحكام النقدية من خلال أعمالهم , أما الأصوات الفنية الأخرى فقد تجوهلت على الرغم من اتسام كثير منها بالعبقرية والخصوبة والتفرد في الإبداع .

أما نظرية الفنون الأدبية فهي نظرية ترصد تطوّر الفنون الأدبية منفصلة فناً فناً وتبرز ظواهرها عبر العصور رقياً وانحطاطاً , استقامة والتواء , قوة وضعفاً , كما تتتبع منابع كل فن والروافد التي غذته .

إن هذه النظرية تُمكّننا من الاستفادة من التسلسل الزماني والعامل الإقليمي ومعرفة تأثيرهما في تطور أي غرض شعري أو فن أدبي , كما تجعلنا على اتصال بالنصوص المدروسة ذاتها وفحصها فحصاً حياً فيه معاناة ومعايشة .

إنها نظرية تنتهج الاستقراء منهجاً لتجلية المغمورين الموهوبين من الأدباء وتناولهم بالقدر الذي يُتناول به الأعلام اللامعون في مختلف الأعصر والبيئات .

وهذه الطريقة تفيدنا في الموازنة بين النماذج الأدبية من حيث الشخصية والأسلوب , وأسلوب هذه النظرية يعود على التريث والتدقيق والتقصي ويعمل على تبرئة الأحكام الأدبية من السذاجة والسطحية والتعميم , ورفض الأحكام العامة الفضفاضة التي تستغرق عصراً بأسره كتابه وشعرائه وخطبائه وتتجه نحو التناول الفردي , بل تتخصص في تناولها فتقصره على غرض واحد أو فن مستقل بذاته . ويؤخذ عليها :

تجزئة النتاج الأدبي عند دراسته ذلك أنها تدرس نتاج الأديب موزعاً بين الفنون أو الأغراض فالمتنبي مثلاً يُدرس مرة في شعر المديح ,ومرة في شعر الوصف ,وتارة في فن الهجاء وأخرى في فن الفخر . ومن هنا تتفتت شخصية الشاعر ويتجزأ نتاجه وهذا لا شك يفقدنا التصور الكامل لجوانب الإبداع وألوانه المختلفة عند الشاعر الواحد ويضيع علينا الإلمام الشامل بخصائص شاعريته .

كما يؤخذ عليها أنها تهمل صاحب النص المدروس وتتجاهل سيرته الذاتية فلا تلتفت إليه إلا بقدر لماماً وبقدر ضئيل والحق أن هذا الإهمال هو إسقاط لرصيد ضخم عظيم الأهمية في الدراسة الأدبية , وعلى الرغم من هذا إلا أنه قد وجد لها في البيئة الجامعية قدم صدق فقامت دراسة ( شعر الطبيعة في الأدب العربي ) لسيد نوفل , و( دراسة الحرب في أدب العرب ) لزكي المحاسني , ودراسة ( الهجاء والهجاءون ) لأحمد حسين.

وهناك نظرية المذاهب الفنية تقوم على رصد خطى الشعراء وتتبع أساليبهم الفنية من خلال المعارك النقدية وقسمة الشعراء إلى طبقات , وكان أول من تطرق لقضية المذاهب الفنية من المحدثين حسن المرصفي في كتابه ( الوسيلة الأدبية ) ففي هذا الكتاب كثير من النظرات الصادقة والآراء النافذة التي رمت إلى إقامة دراسة جديدة على أساس من مذاهب الشعراء والأدباء ومن طرائقهم الفنية .

ثم جاءت خطوة الخالدي في كتابه ( فيكتور هيجو وعلم الأدب عند الفرنج والعرب ) 1904م حيث قسم الشعراء العرب إلى أربع طبقات , وهي قسمة متأثرة بالمذاهب الفنية أكثر من تأثرها بأي نظرية أخرى . واتخذت نظرية المذاهب الفنية شكلها التطبيقي في أعمال كل من :

 

دراسة لطه حسين عن مدرسة زهير بن أبي سلمى في الأدب , وأطروحة الدكتوراه لشوقي ضيف ( الفن ومذاهبه في الشعر العربي ) ودراسته ( الفن ومذاهبه في النثر العربي )

وتتمتع هذه النظرية بخصائص منها : الوحدة الفنية عند جماعة من الشعراء , كما أنها تفيد من جهود النظريات الأدبية التي تهتم بدراسة الآثار الأدبية فهي لا تهملها بل هي غاية لها , كما أنها تجمع بين جمالية الأدب ومنهجية النقد حيث تقوم على الإدراك أولاً ثم على التمييز ثانياً ثم على اكتشاف الحدود ثالثاً .

كذلك من خصائصها الجمع بين الأدب والعلم والحرص على تزاوج الذوق والعقل . كما تقوم على الوحدة والانسجام فهي تجمع خيوط الصلات العميقة بين كل شاعر وآخر وبين كل كاتب وآخر . وهي لا تواجه سلبيات واعتراضات لأنها تحقق للدراسة الأدبية الفائدة واللذة وتقيمها على دعامتي العقل والذوق , ولكن يخشى عليها الاقتصار على الاهتمام بالأسماء اللامعة وإهمال التتبع الدقيق للروح الفنية عند الشعراء المغمورين فقد يكون أحد هؤلاء مفتاحا لمذهب أدبي أو عنواناً لاتجاه فني .

ويخشى عليها إصدار الأحكام الشائعة من عصر الجاهلية إلى العصر الحديث ولذا نحن بحاجة إلى استقراء جديد شامل ودقيق يقودنا إلى الصحة والاعتدال .

ويخشى عليها أن تنقلب الوسيلة عند هذه المدرسة هدفاً والهدف وسيلة بحيث تصنف المدارس الأدبية أولاً , ثم يقاس عليها الأدباء ثانياً , إننا إن فعلنا ذلك نكون قد قلبنا المسألة رأساً على عقب ,فإن الإطار لا يوضع قبل الصورة والمذاهب لا تقرر قبل استقراء الظاهرة الأدبية نفسها .

وهناك تقسيم آخر قدّمه نجيب البهبيتي حيث قسم الأدب إلى ثلاثة عصور : العصر الفني وهو يمتد من أقدم ما نعرف عن الشعراء الجاهليين , وينتهي إلى ما قبل ظهور الإسلام . ويتسم بملابسة الطبع للصنعة والواقعية ورقة الإحساس بالحياة والاعتدال والمحافظة والإيجاز والمثالية .

والعصر العاطفي ويبدأ من قبيل ظهور الإسلام وينتهي عند ابن هرمة وابن ميادة وبشار . ويتسم بالانصراف إلى التجريد وغناء النفس , فهو ثمرة حياة خصبة متعددة الوجوه مليئة بالاستمتاع والبهجة , ولعل ما أغرى الباحث بهذه التسمية بروز مدرستين عاطفيتين في الغزل هما مدرسة الحب العذري , ومدرسة الحب الحسي .

والعصر العقلي ويبدأ بهؤلاء وينتهي بأبي تمام وقد يلحق به ابن الرومي والمتنبي وأبو العلاء ويتسم بالعودة إلى أصول الشعر العربي فيما أسماه شعر المدرسة العراقية التي تمثل هذا الاتجاه في مقابل مدرسة الحجاز التي تمثل العصر العاطفي .

وعلى كل حال لم تف هذه النظريات بحاجة هذا الأدب ولم تفلح في دراسته وتأريخه وعليه فإننا بحاجة إلى نظرية شاملة لدراسة الأدب العربي الممتد ومنهج تركيبي تكاملي يجمع بين كل النظريات , ويمكن حصر هذا المنهج الجديد كما تصوره د / شكري فيصل في الآتي :

1- التعاون بين الدراسات الأصلية والدراسات المساعدة : فإِن دراسة الأديب نفسه، والتعرف على حياته ودراسة شعره وتحليله، والتمرس بأسلوبه، والوقوف منه الموقف الشارح المميز الناقد في آن واحد، هو ما نسميه بالدراسات الأصلية. هذه الدراسات لابد لها من الاستفادة والتعاون مع دراسات النظريات الإِقليمية والثقافية والجنسية والفنية باعتبارها دراسات مساعدة لها كثير من الجوانب الإِيجابية التي يمكن استغلالها.

2- إِفراد القضية الأدبية وتمييزها : إِن جوهر الدراسة الأدبية هو الظاهرة الأدبية ذاتها، وهي الغاية الأساسية والأصل. ولقد كان من عيب النظريات السابقة أنها اعتبرت القضية تبعًا أو وسيلة، وركزت عنايتها على أمور ثانوية جانبية؛ فأدى هذا إِلى الاضطراب والانتهاء إِلى نتائج قاصرة. أما المنهج الجديد فيحفظ للقضية الأدبية طابعها الخاص واستقلالها المتميز، ثم يجعل سائر الدراسات المساعدة أدوات معينة لها ومكملة.

3- النظرة الواسعة المرنة: وهي ألا نجاوز المهمة الأساسية للدراسات الجانبية المساعدة عن الحياة السياسية وعن أثر البيئة وتفاعل الثقافات، وألا نعلو بها فوق قدرها، فنسلم بنتائجها التقريرية؛ وإِنما الصحيح أن نفيد منها في حدود معينة وبكل حيطة وهدوء، وبعد فحص ومراجعة .

4- تحقيق الوحدة الفنية الكلية: وهي تتم بصورة منتظمة متدرجة : نبدأ بالشاعر الواحد لننتهي إِلى المجموعة من الشعراء، وبالكاتب لنصل إِلى الطائفة من الكتاب، دون تقيد بمكان أو عصر أو إِقليم. فإِذا انتهينا إِلى المدارس الأدبية كان من الممكن ملاحظة توزعها بين الأقاليم أو العصور أو الثقافات. إِذن فالمنهج الجديد يقوم على الانتقال من الفردي إِلى العام، ومن الجزئي إِلى الكلي، بطريقة متزنة عميقة هادئة نافذة.

5- توسيع مفهوم الأدب : فلابد من توسيع دائرته من المعنى الخاص إِلى المعنى العام وربطه بميادين الفكر في الدراسات الإِنسانية المتنوعة من تاريخ وتصوف وفلسفة. إِننا إِذا صنعنا ذلك، سنجد أن مقدمة ابن خلدون مثلاً كانت مثالاً أدبيًا رائعًا، يستحق التمهل في التقويم والعمق في الدراسة، فيتغير كثير من آرائنا الجاهزة الشائعة وسنكتشف في تراثنا الفلسفي والصوفي كثيرًا جدًا من النماذج الراقية المجهولة كذلك. وما من شك في أن أمثال هذه الدراسات الجديدة ستشيع الخصب والنماء في عملنا الأدبي، وستحدث انقلابًا كبيرًا في أحكامنا الأدبية، وستغير من نظرتنا إِلى كثير من العصور والفترات.

إِن هذه الميزة في المنهج الجديد ترفع الحواجز بين دائرة الأدب بمعناه الضيق، وسائر فنون المعرفة الإِنسانية، وتعمل على إِغناء الأدب بثمار الفكر بمختلف ألوانه من جهة، وعلى إِكساب الإِبداع الفكري في كل العلوم الإِنسانية نكهة الأدب ورواء أسلوبه وأناقة مظهره من جهة أخرى.

إِن مناهج دراستنا الأدبية الراهنة ، خصوصًا ما يتصل منها بالمناهج التعليمية هي في حاجة ماسة إِلى إِصلاح جذري جاد. إِنها لا تزال أسيرة المدرسة التقليدية – في الغالب – بكل ما لها من عيوب كما قدَّمنا، ولقد آن الأوان أن نستبدل بها منهجًا جديدًا على ضوء الحقائق التي انتهينا إِليها من خلال هذا العرض الموجز . إِننا نتطلع إِلى منهج يناسب الوعي الثقافي المعاصر وما وصلت إِليه الأذواق والأفهام الأدبية الحديثة.. منهج متكامل يجمع بين الأصالة والمعاصرة ويتميز بشخصيته المستقلة ومعاييره الخاصة.

س : دكتور محمد ماذا يقصد بالنظرية الإقليمية ؟

ج : نظرية أو دراسة تهتم بالبيئة المكانية , وتدرس الأدب وفقاً لهذه للبيئة , وقد وجدت عند نقادنا القدماء , فابن سلام في الطبقات قسم الشعراء على الطريقة الإقليمية : ( جاهليون – أصحاب المراثي – شعراء القرى – شعراء مكة والمدينة والطائف والبحرين والمدينة ) .

وابن رشيق قسم الشعراء أيضاً إلى أقاليم ( الشعر في ربيعة , ثم في قيس , ثم في تميم ..) والثعالبي صاحب اليتيمة قسم الشعراء إلى أربعة أقسام : ( محاسن أشعار آل حمدان من أهل الشام ومصر والموصل , ومحاسن أشعار أهل العراق , ومحاسن أشعار أهل الجبال وفارس وجرجان وطبرستان , ومحاسن أهل خراسان وما وراء النهر ) .

س : دكتور محمد هل كان للمستشرقين جهود مذكورة في تقسيم الأدب العربي ؟

ج : لعل أول رائد لكتابة تاريخ الآداب العربية في الشرق والغرب النمساوي جوزيف بروجشنال , حيث نشر كتاباً في تاريخ الآداب في (7 مجلدات) , ونظر إلى الأدب بالمعنى الواسع وطوّل الكتاب , وبدأ بالعصر الجاهلي وانتهى به المطاف إلى العصر العثماني , وقد جرّه هذا العمل إلى أخطاء كثيرة فضلاً على أنه لم يكن متمكناً من العربية .

ثم جاءت النظرة في مجال دراسة تاريخ الأدب العربي على يد الألماني بروكلمان في (10مجلدات) تشمل تاريخ الثقافة العربية من الجاهلية إلى القرن العشرين , والكتاب يدل على إحاطة الباحث بجوانب الثقافة العربية والشرقية , وقد أحصى أدباء العرب إحصاء دقيقاً مبيناً العلماء والفلاسفة مع ذكر آثارهم المطبوعة والمخطوطة , وما كتب عنهم قديماً وحديثاً , كذلك مكانتهم في الفن والعلم وما قدموه من علم مع نبذة عن كل علم وفن , وقسم كتابه وفق العصور السياسية إلى مرحلتين أساسيتين :

المرحلة الأولى : أدب الأمة العربية من أوله إلى سقوط الأمويين 132هـ , وهذه المرحلة قسمها ثلاثة أقسام : أدب العرب إلى ظهور الإسلام . الأدب في عهد النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – وعصره . وعصر الدولة الأموية . وجعل فترة الجاهلية 100سنة قبل الإسلام , وزعم أن أدب العصر الأموي امتداد للعصر الجاهلي , وأن الإسلام لم يؤثر في الشعر الأموي المرحلة الثانية : الأدب الإسلامي وقسمها إلى خمسة عصور :

عصر ازدهار الأدب العباسي بالعراق 132هـ إلى 382هـ . وعصر الازدهار المتأخر في الأدب من 382هـ إلى 656هـ . وعصر الأدب من سيادة المغول إلى فتح مصر على يد سليم الأول 565هـ – 923هـ . وعصر الأدب العربي , وعصر الأدب الحديث .

وألف كارلونالينو كتابه تاريخ آداب العربية , وقسم الأدب العربي إلى : عصر الجاهلية الذي لا يدرك أوائله . والعصر العربي الإسلامي ويبدأ من ظهور الإسلام إلى 132هـ . والعصر العباسي الأول ويبدأ من 132هـ إلى 450هـ . والعصر العباسي الثاني ويبدأ من 450هـ إلى 656هـ . وعصر الانحطاط ويبدأ من 656هـ إلى 1220هـ . وعصر النهضة ويبدأ من 1220هـ إلى أوائل القرن العشرين .

وألف نيكلسون كتابه تاريخ الأدب السياسي , وتابع تطور الأدب العربي , وتميز كتابه بإيراد النصوص الشعرية وتحليلها , واهتم بالمتنبي كظاهرة شعرية فريدة , واهتم بالاتجاهات الشعرية كاتجاه ابن الفارض الصوفي .

وألف الفرنسي بلاشير كتابه تاريخ الأدب العربي , وقسم الأدب إلى : عصر ما قبل الإسلام . وعصر النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – والأمويين . وعصر العباسيين حتى 656هـ كتلة واحدة . والعصر العباسي اللاحق المماليك والعثمانيون إلى نابليون . وعصر النهضة .

س: دكتور محمد , هناك من الدارسين من يقسم الأدب في العصر العباسي إلى عصرين أو أكثر ؛ فلماذا ؟

ج : اعتقد أن السبب في هذا الاضطراب الواسع في تقسيم هذا العصر يرجع إلى فكرة الربط بين التاريخ السياسي والأدبي هذا من جهة , ومن جهة أخرى فالعصر العباسي يمتد من عام 132هـ إلى 656هـ تقريباً ( 524) سنة وهي فترة واسعة وعريضة شهد فيها الأدب ألواناً من التطور , وأنواعاً من التجديد , ولذلك نجدهم قد عزلوا العصر الجاهلي ( 200سنة ) عن بقية العصور ودرسوه وحدة واحدة , والعصر الإسلامي ( 40سنة ) , والعصر الأموي ( 90سنة ) ونظروا إلى العصر العباسي نظرة مستقلة, واتفقوا على تاريخ سقوط بغداد سنة 656هـ , وبالتالي قسموا العصر العباسي إلى تقسيمات قد تكون هذه التقسيمات خاضعة للسياسة , ومنها :

العصر العباسي الأول من سنة 132هـ إلى سنة 232هـ وهي السنة التي ولّي فيها المتوكل .

العصر العباسي الثاني من سنة 232هـ إلى 334هـ وهي السنة التي آل فيها الحكم إلى البويهيين .

العصر العباسي الثالث من سنة 334هـ إلى 447هـ وهي السنة التي دخل فيها السلاجقة بغداد .

العصر العباسي الرابع من سنة 447هـ إلى سنة 656هـ وهي السنة التي سقطت فيها بغداد .

وهناك قسمة أدبية جديدة فنية بحسب التيارات , ذكرتها الدكتورة حنا فاخوري جاءت على النحو التالي :

*= أدب الثورة التجديدية ويبدأ مع بشار بن برد ( 96هـ ) وينتهي بظهور أبي تمام ( 231هـ) ومن أشهر أعلامه : ( مسلم بن الوليد – أبو نواس – أبو العتاهية – ابن المقفع ) .

*= أدب الحركة المعاكسة ويبدأ مع أبي تمام وينتهي بظهور المتنبي ( 354هـ ) ومن أشهر أعلامه : ( البحتري – ابن الرومي – الجاحظ – ابن المعتز ) .

*= أدب الاستقرار والتدرج نحو الصنعة ويبدأ بظهور المتنبي وينتهي بالبهاء زهير (656هـ  ومن أعلامه : ( الشريف الرضي – المعرّي – أبو فراس الحمداني , والتهامي ) .

*= ويذهب الدكتور يوسف خليف في كتابه تاريخ الشعر السياسي إلى تقسيم آخر بناه على فكرة كل قرن برزت فيه ظاهرة معينة , ميزت العصر العباسي ابتداء من القرن الثاني .

القرن الثاني : يمثل البداية الحقيقية للقصيدة العباسية , وقد شغل بقضية التجديد في القصيدة العربية للخروج من الكلاسيكية الأموية إلى إطار القدرة على التعبير والتكيف مع المجتمع الجديد ومن أعلامه : ( بشار وأبو نواس وأبو العتاهية ) .

القرن الثالث : شغل بقضية الصراع بين القديم والجديد , الصراع بين المحافظين على عمود الشعر والمجددين ومن أعلامه : البحتري رأس المحافظين , وأبو تمام رأس المدرسة البديعية .

القرن الرابع : عصر المتنبي غير منازع فيه ؛ لأنه شغل الناس حينما رد وأعاد روح البداوة للقصيدة العربية وعقد المزاوجة بين البادية وثقافة عصره .

القرن الخامس : عصر أبي العلاء المعري غير منازع فيه ؛ لأنه عقد بين الفن والفلسفة .

س : دكتور محمد , يختلف الدارسون في موضوع نشأة الشعر الجاهلي وميلاده وتطوره , حدثنا عن هذا الموضوع .

ج : يكاد يجمع معظم الباحثين القدماء على أن الشعر الجاهلي قد بدأ قبل الإسلام بحوالي مائتي عام من الزمان , وهو شعر مقصد مطول , منسجم التفاعيل , مؤتلف النغم , أشار إلى ذلك الجاحظ . يقول في الحيوان : ” الشعر حديث الميلاد صغير السن , وأول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة .. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له  إلى ان جاء الله بالإسلام – خمسين ومائة عام , وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام ” إذاً هذا هو عمر الشعر الناضج المكتمل .

أما قبل ذلك فلا يمكن أن يحد بفترة قليلة كهذه , فهناك مئات من السنين مرّ بها الشعر حتى وصل مكتملاً إلى مهلهل وامرئ القيس وعنترة . وهذا امرؤ القيس يحاكي من قبله من الشعراء السابقين , يقول :

                عوجا على الطلل المحيل لأننا *** نبكي الديار كما بكى ابن خذام

وعنترة يؤكد على أن الشعراء قد تناولوا شتى المعاني فلم يتركوا للمتأخرين معنى صالحاً , يقول :      هل غادر الشعراء من متردم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم .

فهذا إقرار من الشاعرين بأنهما مسبوقان بأجيال من الشعراء , والشاعر العربي القديم مرتبط ارتباطا وثيقاً بالصحراء في طريقة تفكيره ونوع شعوره وفي رحليه فظل أحقاباً يقول الشعر بلهجة قومه بضرب من الغناء والحداء ثم ضرب من السجع , ومن الرجز بعد ذلك , ويوم اهتدى العربي إلى الرجز وُجد له شعر صحيح قوي ناضج ومتقن وقصيدة تامة ؛ لأن الرجز – حمار الشعراء – كان هو الصورة الأولى التي بدأ بها الشعر العربي , ولأنه الوزن الشعري الذي كان العرب يستخدمونه حين تضطرهم ظروف الحياة اليومية إلى ارتجال الشعر . ولأنه أصبح اللحن الشعبي المحبب إلى كل طوائف الشعب العربي في شتى مجالات نشاطه اليومي .

وأن ما وصل إلينا من البدايات المبكرة لا يعدو الأبيات القليلة يقولها الرجل في حاجته , يقول ابن سلام في الطبقات : ” ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حادثة , وإنما قصّدت القصائد وطوّل الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف ” .

ثم جاء ابن قتيبة فتابعه فيها وقال في الشعر والشعراء : ” لم يكن لأوائل الشعراء إلا الأبيات القليلة يقولها الرجل عند حدوث الحاجة ” ولكن ليس بمعقول أن يكون ممثلاً لطفولة الشعر وهو على ما نرى من نضج في الأسلوب والموسيقى والمعنى والتصوير . فلا بد أن يكون للشعر تاريخ طويل قطع فيه أشواطاً من الصناعة والدربة حتى استقام واكتمل على هذا الشكل الموزون المقفى .

وهناك من قسم الشعر الجاهلي حسب تطوره الفني إلى ثلاث فترات تتمثل الفترة الأولى في حرب البسوس وهي الأولية الناضجة للشعر الجاهلي , ما يعني أن هناك بدايات ومحاولات وتجارب سابقة وقد أفرزت هذه الحرب مدرسة الطبع والتلقائية وكان على رأس هذه المدرسة المهلهل بن ربيعة حيث أعطى القصيدة العربية صورتها المعروفة وشكلها التقليدي , وأخرجها من نطاق المقطوعة أو الأبيات المحدودة إلى نطاق القصيدة , وهي ريادة أضفت عليه لقبه الذي عرف به , فهو أول من هلهل الشعر أي أطاله وأرّقه . وسار معه امرؤ القيس وعبيد بن الأبرص وطرفة بن العبد والمرقشان وعلقمة بن عبدة والصعاليك .

والفترة الثانية حرب داحس والغبراء , وقد أسهمت في تطوير القصيدة العربية الجاهلية وأفرزت تياراً فنياً أطلق عليه فيما بعد تيار الصنعة , وعلى رأس هذه المدرسة الطفيل الغنوي ( المحبر ) لما لاحظوه على شعره من ضروب التنميق والتجويد والصناعة . وعاصره أوس بن حجر أستاذ زهير بن أبي سلمى ومعهما بشامة بن الغدير والنابغة الذبياني وعنترة .

والفترة الثالثة حرب ذي قار , وقد نشبت في أواخر العصر الجاهلي , وأفرزت مدرسة أدت إلى تقليد هاتين المدرستين . وهي قمة استقر فوقها شعراء الجيل الثالث الكبار كحسان ولبيد والأعشى .

س / تسير القصيدة الجاهلية على نظام أو هيكل لبنائها يمثل الصورة المثلى لها , فما هي صورتها المثلى ؟

ج / القصيدة المطولة هي الصورة المثلى للقصيدة الجاهلية , وخاصة قصائد المعلقات , حيث اعتنى النقاد القدماء بدراسة هيكلها وشكلها، ووضعوا لها أصولاً، وأول هذه الاصول الاهتمام بالمطلع ، والحرص على جعله فخماً ضخماً، ذا بهاء ورواء، وصلصلة وجلجلة، ليكون بعيد التأثير في النفس، قادراً على اجتذاب الأسماع، مراعياً مقتضى الحال، متّسق المعنى مع معاني الأبيات في القصيدة كلها ، لا منافياً لها بعيداً عن التعقيد والغموض بريئاً من التكلف في الصياغة منزّهاً عن الركاكة في التعبير فيه جدة وابتكار وأسْرٌ للأسماع والقلوب.

ويرى ابن رشيق أن المطلع مفتاح القصيدة، وهذا المفتاح السحري لا يفتح باباً واحداً فحسب، يدخل منه الشاعر الى بناء القصيدة وصورها، ويدخل معه القارئ والسامع اليها، بل يفتح أبواب القلوب التي تدخل منها معاني القصيدة وصورها ومشاعرها في نفوس السامعين.

يقول : « إن الشعر قفل، أوله مفتاحه . وينبغي للشاعر أن يجوّد ابتداء شعره، فإنه أول ما يقرع السمع ، وبه يستدل على ما عنده من أول وهلة». ثم ضرب مثلاً يمثّل براعة الاستهلال، وهو قول امريء القيس :

                                    قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ

وعقّب عليه بقوله: « هو عندهم أفضل ابتداء صنعه شاعر، لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد ».

واذا كان المطلع الحلقة الاولى في سلسلة القصيدة الجاهلية فالحلقة الثانية مقدمتها، وهي بضعة أبيات تلي المطلع .

وأشيع الأغراض في المقدمات النسيب أو بكاء الأطلال ، أو صفة الطيف ، أو الشكوى من الشيب. وربما هجم الشاعر على غرضه بلا تقديم ولا تمهيد. وهذا الهجوم شائع في شعر الهذليين .

وربما كان زهد الهذليين في المقدمات نابعاً من ذوبان الشخصي في القبلي أو من طغيان الجماعة على الفرد ، أو من فقدان الماضي الجدير بالتأمل والتحليل .

قال الدكتور أحمد زكي في تعليله اختفاء المقدمات او ضمورها في شعر الهذليين: « لم يتغزلوا، ولم يبكوا الدمن، لأنه لم يكن لهم أبداً عهد قديم يذكرونه. فهم يعيشون لحاضرهم فقط ». وفي قوله تعميم واستقراء وقطع مطلق لا يقبله النقد الحديث الذي يؤثر الدقة والصدق ويجانب الارتجال في إطلاق الأحكام .

ومما يضعف رأيه أن بين شعراء هذيل قوماً رقّت نفوسهم وارتقت وتاقت الى الماضي وبه تعلقت، حتى شعّ منها غزل ارق من غزل عمر بن أبي ربيعة كرائية أبي صخر الهذلي التي مطلعها: « لليلى بذات البين دار..»، وذابت نفوسهم من الحزن حتى تحولت أنفاسهم إلى رثاء أصدق من رثاء الخنساء وأعمق كرثاء أبي ذؤيب لبنيه بالعينية التي مطلعها :

                         « أمن المنون وريبها تتوجّع ».

واذا لم يكن للهذليين ماض يأسون على مفارقته ـ وهذا ادّعاء لا يؤيّده دليل ـ فإن لهم غرائز وملكات ومنازع ودوافع، تجعلهم يحسون ما يحسه الناس، فيحبون ويكرهون ، ويفرحون ويحزنون، ويقفون قانتين أمام الموت القاهر، صامتين بين يدي الطلل الداثر .

وإذا كان أهل الحضر يزدرون الأطلال كما ازدراها أبو نواس الذي آثر المرور بخمارة البلد على المرور بالطلل والوقوف عليه ، فقد كان للطلل في نفس الشاعر البدوي تأثير أيّ تأثير، يصعب علينا أن نتمثّله.

واذا صعب علينا أن نتمثله فإنه لا يحق لنا أن ننكر على البدوي تواجده وهو يقف عليه، وحزنه وهو يفارقه لأنه وطنه وسكنه، ومثوى عترته وأحبته.

ونحن نميل الى ترجيح الرأي القائل : إن الوقفة الطللية كانت في العصر الجاهلي ظاهرة إنسانية، وإن تصوير هذه الوقفة موجة وجدانية مشحونة بالوفاء والشجن والوجد، وليست مَنْسكاً تقليدياً بارداً، او شعيرة فنية، او ضريبة قبلية يؤديها الشاعر. وعلى هذا فمن الاجحاف ان نجرد الهذليين من شرف هذه الوقفة، وما يلابسها من الحس الأصيل.

قالت الدكتورة سهير القلماوي في تعليل الوقفة الطللية وفي الدفاع عمن وقفوها: « إنها كانت أكثر من بكاء على حبيبة أو على سعادة انقضت. انها صرخة متمردة أمام حقيقة الموت والفناء، لأن الشاعر الجاهلي لم يكن يؤمن بإله ولا جنة ولا ثواب ».

وثالثة الحلقات في سلسلة القصيدة الجاهلية التخلّص من المقدمة الى الغرض الاساسي كالفخر أو المدح أو الهجاء مستعينا بعبارات (( فدع – فسل – فعد ..)).

ويعد التخلص خطوة حرجة في موطئ زلق، لا يخطوها الا فحل ، له في ميدان النظم قدم ثابتة وخبرة راسخة . بل هي جسر يصل موضوعاً بموضوع ، أو برزخ يفصل موضوعاً عن موضوع، وعلى هذا البرزخ الواصل الفاصل أن يكون أخذاً مما قبله ومما بعده بسبب. فإذا وقع الانتقال على نحو مفاجئ سُمّي صنيع الشاعر اقتضابا . والاقتضاب القطع . وهذه التسمية تعني أن الشاعر يفتقر الى اللباقة ، أو تعوزه الرشاقة، ويعجز عن ربط فكرة بفكرة، فيقفز فوق أعناق المعاني قفزاً متقطعاً يفاجئ به عقل السامع وقلبه .

ورابع الأجزاء في هيكل القصيدة موضوعها الأساسي كالفخر في معلقة عمرو بن كلثوم، والمدح في معلقة زهير بن ابي سلمى، والاعتذار والوصف في معلقة النابغة الذبياني، والغزل في معلقة امريء القيس . وربما جمع الشاعر بين هذه الموضوعات كلها ، حتى تغدو القصيدة المطولة تصويراً لحياة الشاعر وتأريخاً لقبيلته ، وربما نثر بين تضاعيف القصيدة مجموعة من الحكم والتأملات كما صنع طرفة بن العبد وزهير بن ابي سلمى.

وآخر الأقسام في هيكل القصيدة «خاتمتها». ولما كانت الخاتمة الصوت الأخير الذي يجلجل في أذان السامعين فقد حرص الشعراء أشدّ الحرص على أن تكون مرصوصة في بيت قوي، وصوت عتيّ، ومعنى جليّ . وأن يكون الرصف متيناً محكماً شديد الأسر، يلخّص فلسفة الشاعر في الحياة، أو موقفه من قبيلته. ومما يزيد الخاتمة جودة أن يصب فيها معنى عميق يذهب مذهب المثل، أو حكمة تختصر موقفاً انسانياً، حينئذ تذاع وتملأ الأسماع، وتحيا في أذهان العرب أبد الدهر.

س : من مصادر الشعر الجاهلي المعلقات , وقد اختلفت الآراء حول صحة تعليق هذه القصائد , نريد بياناً في هذا الموضوع .

ج : كما قلت هي من مصادر الشعر الجاهلي , وهي أقدم القصائد التي أثرت عن فحول الشعر الجاهلي . وهي قصائد طوال جياد تتميز بطولها , وبتنوع فنونها , وجزالة أسلوبها , وابتكار كثير من معانيها , وتصوير شخصية قائليها . ولم تكن كلمة المعلقات وحدها هي التي أطلقت على تلك القصائد المشهورة بل إن لها ألقاباً أخرى تدل عليها , كالسبع الطوال , والقصائد العشر والسموط والمذهبات ؛ لأنها كتبت في القباطى المصرية بماء الذهب .

أما قضية التعليق على جدار الكعبة فالقدماء والمحدثون والمستشرقون منقسمون بشأن هذه القضية فمنهم من يؤيد الرأي القائل بصحة التعليق كابن رشيق وابن عبد ربه وابن خلدون والبغدادي , ومنهم من ينكر كأبي جعفر النحاس , فهو يرى أن خبر تعليقها مجهول من الرواة , وأن حماداً رأى صدوف الناس عن الشعر وزهدهم فيه فجمع لهم هذه القصائد .

وكان من المحدثين أحمد الحوفي ومصطفى صادق الرافعي فقد أنكرا خبر التعليق محتجين بأن أحداً ممن يوثق بروايتهم وعلمهم لم يشر إلى هذا الخبر كالجاحظ وابن قتيبة والمبرد وصاحب الجمهرة والأغاني . وللمزيد : ينظر الحياة العربية للحوفي , وتاريخ آداب العرب للرافعي ومصادر الشعر الجاهلي لناصر الدين الأسد

س : دكتور محمد أشرت في حديثك أن المعلقات من مصادر الشعر الجاهلي , فهل هناك مصادر أخرى غيرها ؟

ج : بالتأكيد هناك مختارات ويحق لنا أن نسميها مصادر , وأولها : المفضليات للمفضل الضبي وهي أقدم ما وصل إلينا , وتحتوي على 126قصيدة لسبعة وستين شاعراً منهم ستة شعراء إسلاميون وأربعة عشر مخضرماً وسبعة وأربعون شاعراً جاهلياً لم يدركوا الإسلام , وأفضل وأصح رواياتها رواية محمد بن زياد الأعرابي تلميذ المفضل , ولم يشرح المفضل هذه المختارات بل كان يرويها شعراً مجرداً , ولم يبين فيها أساس الاختيار , وليس فيها تبويب ولا تقسيم , وقد شرحها ابن الأنباري .

والثانية : الأصمعيات لعبد الملك بن قريب الأصمعي وتحتوي على 92قصيدة لواحد وسبعين شاعراً منهم ستة شعراء إسلاميون , وأربعة عشر مخضرماً وأربعة وأربعون جاهلياً وسبعة مجهولين ليس لهم تراجم , ولم يبين فيها أساس الاختيار , وليس فيها تبويب ولا تقسيم , واعتمد في مصادره على أبي عمرو بن العلاء والرواة من الأعراب والصحف والمدونات .

والثالثة : حماسة أبي تمام بناها على الشعر في المعاني , وجعلها في عشرة أبواب : الحماسة والمراثي والسير والنعاس والملح والأدب والنسيب والهجاء والمديح ومذمة النساء , وتميزت بالتبويب والتقسيم وهي مقطعات , وليس لها راوية وإنما انتقاها من الدواوين والكتب وشرحها التبريزي والمرزوقي .

والرابعة : جمهرة أشعار العرب لمحمد بن أبي الخطاب القرشي وهي تحتوي على 49قصيدة من عيون الشعر العربي في الجاهلية والإسلام وأنفسها , وقد قسم الشعر إلى سبعة أقسام :

المعلقات أو أصحاب السموط وجعلها سبعاً وهم : ( امرؤ القيس وزهير والنابغة والأعشى وطرفة ولبيد وعمرو بن كلثوم ) . وأصحاب المجمهرات وهم : ( عنترة وعبيد بن الأبرص وعدي بن زيد وأمية بن الصلت وبشر بن أبي خازم والنمر بن تولب وخداش بن زهير ) وأصحاب المنتقيات : ( المسيب بن علس والمرقش الأصغر والمتلمس وعروة بن الورد ومهلهل بن ربيعة ودريد بن الصمة والمتنخل ) وأصحاب المذهبات : ( حسان وابن رواحة ومالك بن العجلان وقيس بن الخطيم وأحيحة بن الجلاح وأبو قيس بن الأسلت وعمرو بن امرئ القيس ) وأصحاب المراثي : ( أبو ذؤيب ومالك بن الريب ومتمم بن نويرة والغنوي وأعشى باهلة وعلقمة الحميري وأبو زبيد الطائي ) . وأصحاب المشوبات : ( الحطيئة والنابغة الجعدي وكعب بن زهير والقطامي والشماخ وعمرو بن أحمر وتميم بن أبي مقبل ) وأصحاب الملحمات : ( الفرزدق وجرير والأخطل وذو الرمة والكميت والطرماح والراعي ) وهناك أيضا ديوان القبائل إذ ذكر الآمدي ستين ديواناً إلا أنه لم يبق لنا من هذه الدواوين سوى ديوان هذيل أو كتاب هذيل , ومعنى ديوان القبائل : مجموعات شعرية تضم بين دفتيها قصائد كاملة ومقطعات قصيرة وأبياتاً متفرقة وأخباراً وقصصاً وأحاديث وأنساباً .

وننبه إلى أن شعر هذيل غير كامل والدليل على ذلك أن الشافعي كان يحفظ 10000 آلاف بيت بإعرابها وغريبها ومعانيها والذي بين أيدينا في أطول رواياته 3000 آلاف بيت . والدليل الثاني أن ابن جني استدرك ما فات السكري ذكره من شعر هذيل وحجمه 500 ورقة المسمى بكتاب التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري .

وقد طبع في مجموعتين الأوربية والمصرية , ونكتفي بالأولى لثقتها وجاءت على النحو التالي :

= شرح أشعار الهذليين صنعة السكري عن نسخة مخطوطة محفوظة في ليدن كتبها محمد علي العتابي , تحقيق : جودفري كوزجارتن , وقد اعتمد السكري في جمعه لهذا الديوان على ثلاث روايات : رواية بصرية عن الرياشي عن الأصمعي عن أبي طرفة الهذلي . ورواية كوفية عن محمد بن حبيب عن أبي عمرو الشيباني وابن الأعرابي . ورواية جمعت بين الروايتين عن الأحول والجمحي .

= أما ديوان أبي ذؤيب الهذلي فهو الجزء الأول من مجموع دواوين أشعار الهذليين , شرحه المستشرق الألماني يوسف هل .

= مجموعة أشعار الهذليين وتشمل على أشعار ساعدة بن جؤية وأبي خراش الهذلي والمتنخل وأسامة بن الحارث وهو الجزء الثاني , واعتنى به يوسف هل .

= أشعار الهذليين مطبوع للمستشرق فلهاوزن في برلين 1884م , وفيها تعليقات , وترجم إلى اللغة الألمانية .

س : هذه الإجابة دكتور محمد تدفعني إلى أن أسأل عن قضية تقييد وتدوين الشعر الجاهلي , وهل وصل إلينا عبر الرواية الشفهية ؟ أم عن طريق التدوين ؟

ج : ساق الدكتور ناصر الدين الأسد في كتابه مصادر الشعر الجاهلي أدلة عقلية استنباطية وصريحة مباشرة تؤيد تدوين الشعر الجاهلي , والأدلة جماعها أربعة مدموجة بعضها في بعض :

الدليل الأول أن العرب كانوا يقيدون كتبهم الدينية ورسائلهم وعهودهم ومواثيقهم فهو الذي يسجل وقائعهم وانتصاراتهم ومآثرهم . قال بعض شعراء بكر بن وائل :

                    ألهى بني تغلب عن كل مكرمة *** قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

                    يرونها أبدا مذ كان أولهم  ***   يا للرجال لشعر غير مشئوم .

وكان الرجل من بني أنف الناقة إذا قيل له : ممن الرجل ؟ قال : من بني قريع , فما هو إلا أن قال فيهم الحطيئة :

            قوم هم الأنف والأذناب غيرهم *** ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا

كما كان للشعر قيمة عند الشاعر والقبيلة وهذا لصيق بالدليل الأول , ومن أنصع الإشارات إلى ذلك ما ذكره ابن الأعرابي , قال بلغ عمرو بن كلثوم أن النعمان بن المنذر يتوعده فدعا كاتباً من العرب فكتب إليه :

            ألا أبلغ النعمان عني رسالة ***  فمدحك حولي وذمك قارح

         متى تلقني في تغلب ابنة وائل ***  وأشياعها ترقى إليك المسالح .

والدليل الثاني = من العرب من تعلم الكتابة والخط كالمرقش وأخيه حرملة وسويد بن الصامت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك والربيع بن زياد والزبرقان بن بدر والنابغة الذبياني ولبيد بن ربيعة وأمية بن الصلت وعدي بن زيد العبادي ولقيط بن يعمر وغيرهم .

والدليل الثالث = يتعلق بمدرسة عبيد الشعر الذين كانوا يقولون الشعر الحولي المحكك , وكانوا يسمون تلك القصائد : الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحككات ليصير قائلها فحلاً خنذيداً وشاعراً مفلقاً كزهير صاحب الحوليات السبع , والطفيل الغنوي ( المحبر ) وامرئ القيس بن بكر ( الذائد ) أي الذي ينتخب الألفاظ . يقول كعب بن زهير :

        فمن للقوافي شأنها من يحوكها *** إذا قالوا ثوى كعب وفوّز جرول .

والدليل الرابع = الشعر الجاهلي حافل بذكر الكتابة وصورها والإشارة إلى أدواتها كالدفتر والقلم والخط والدواة والمداد والكراسة يقول المرقش :

          الدار وحش والرسوم كما *** رقش في ظهر الأديم قلم

ويقول طرفة :  وخد كقرطاس الشآمي ومشفر *** كسبت اليماني قده لم يجرد

ويقول امرؤ القيس :  لمن طلل أبصرته فشجاني *** كخط زبور في عسيب يماني

ويقول بشر بن أبي خازم :  وجدنا في كتاب بني تميم *** أحق الخيل بالركض المعار .

ويقول لقيط بن يعمر في العينية منذراً قومه بعزم كسرى على غزوهم :

       هذا كتابي إليكم والنذير لكم *** لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا .

ويقول أيضاً :   سلام في الصحيفة من لقيط *** إلى من بالجزيرة من إياد

أما التدوين فقد ظهر في مرحلة متأخرة لدى كتاب المغازي والسير والتأريخ والتفسير , وممن تخصصوا في تدوين الشعر الجاهلي أبو عمرو بن العلاء , وحماد الراوية , والأصمعي فهؤلاء وغيرهم عرفوا بتدوين الشعر الجاهلي ومن أشهر المدونات : كتاب قريش وهذيل وثقيف وتميم وشعر الأنصار والذي يعود تدوينه إلى زمن عمر بن الخطاب , وكتاب الأنساب لدغفل النسابة وحكم أكثم بن صيفي وغير ذلك كثير . ويمكننا القول بأن الرواة قد اعتمدوا في رواية الشعر الجاهلي على المدونات المذكورة وعلى التصحيف .

س : ولكن هناك يا دكتور محمد أدلة يسوقها الدارسون على الرواية الشفهية , فما رأيك ؟

ج : صحيح , ولكن هذه الرواية لم تأت من فراغ , وإنما كانت معتمدة على المدونات المحدودة والموجودة عند الشاعر أو ما يسمى بنسخة الأم , ينسخها الشاعر أو أبناؤه أو بعض من أفراد قبيلته ثم يحفظون هذا الشعر ويتناقلونه إنشاداً – لا قراءة – في مجالسهم ومشاهدهم وأسواقهم , ويرددونه شفاهاً في سمرهم ومحافلهم ومنافراتهم فيشيع بين العرب وتتناقله الركبان عن هذا الطريق من الرواية الشفهية . إذا الرواية طور متأخر عن التدوين .

س : دكتور محمد نعرف جميعاً أن المعلقات من القصائد الجيدة , وهي لعدد من فحول الشعراء الجاهلين ؛ في حين أن هناك قصائد شهيرة عرفت بمسمياتها ؛ ألق الضوء على هذه المسميات .

ج : أحسنت , القصيدة فن إبداعي رفيع , قريب من وجدان الناس وعقولهم , وهي في ذاتها معاناة وصراع عنيد بين الذات الشاعرة وبين محدودات الوسيط التعبيري وقيوده , إنها ليست نتاج لحظة مقطوعة ولا تتم في جلسة واحدة , إذ يمكن أن تستغرق كتابتها أياماً وربما شهوراً , وقد يعود إليها الشاعر بنظرته وحساسيته الشعرية فيضيف ويحذف ويزيد وينقص ويعدل ويبدل , أما اليوم فقد أصبحت القصيدة سلعة رخيصة خالية من الذوق والجمال , وفقدت السمو وصار هم الشاعر ذاتياً .

على كل حال هناك قصائد الحوليات : وهي منسوبة إلى زهير بن أبي سلمى , والمعنى أن القصيدة تمكث عنده حولاً كريتاً ينقحها ويهذبها ويعيد فيها النظر , روى ابن جني أن زهيراً عمل سبع قصائد في سبع سنين , وروى ابن قتيبة أن زهيراً نفسه كان يسمي قصائده الكبرى الحوليات , وقد قيل : إنه كان يعمل القصيدة في أربعة أشهر , وينقحها في أربعة أشهر , ثم يعرضها في أربعة أشهر , ثم بعد ذلك يخرجها للناس .

وهناك قصائد الهاشميات : وهي قصائد طويلة أنشدها الكميت بن زيد الأسدي يمدح ويدعو لموالاة آل بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – الهاشمين والثورة على الحكم الأموي .

وهناك قصائد العلويات لابن أبي الحديد المعتزلي وهي سبع في مدح النبي – صلى الله عليه وسلم – .

وهناك قصائد الممحصات لابن عبد ربه وهي قصائد في المواعظ والزهد نقض بها كل ما قاله في صباه من الغزل والنسيب .

وهناك قصائد اللزوميات للمعري وهي تعتبر سجلاً حافلاً لآرائه ونظرياته في نواحي الحياة . وهناك قصائد السيفيات للمتنبي في مدح سيف الدولة وهي من أحسن نتاجه الأدبي .

وهناك قصائد المكتمات يقولها الشعراء في مواجهة الطغيان السياسي في العصر الأموي , وقد أخفوا أسماءهم لأنهم طرحوا فيها آراءهم التي تنتقد الحكام .

وهناك قصائد الروميات لأبي فراس الحمداني وهو مسجون في سجن الروم يستنجد بابن عمه سيف الدولة , وكذلك كتب قصائد لأمه سميت بالأسريات .

وهناك قصائد السرنديبيات وهي قصائد قالها البارودي في منفاه . وهناك الأندلسيات لأحمد شوقي … وهلم جرا .

س / من القضايا التي أثيرت في دراسة الشعر الجاهلي قضية الانتحال في الشعر الجاهلي , نريد جواباً شافياً حول هذه القضية عند القدماء العرب , وعند المستشرقين الغرب .

ج / هناك مفاهيم ينبغي أن نفهمها وهي النحل والانتحال والوضع , والجواب عن هذه القضية يحتاج إلى محاضرات ولكن لا مانع من الإجابة عن هذه القضية , لعل أول من أثار هذه القضية من النقاد العرب القدماء هو محمد بن سلام الجمحي فقد ردّ مشكلة الانتحال في الشعر الجاهلي إلى عاملين : عامل القبائل التي كانت تتزيد في شعرها لتتزيد في مناقبها . وعامل الرواة الوضاعين يقول في طبقاته : (( لمّا راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسن شعرائهم ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار )) .

ويشير ابن سلام إلى طائفتين من الرواة كانت ترويان منتحلاً كثيراً وتنسبانه إلى الجاهليين طائفة كانت تحسن نظم الشعر وصوغه وتضيف ما تنظمه وتصوغه إلى الجاهليين ومثل لها بحماد الراوية .

وطائفة لم تكن تحسن النظم ولا الاحتذاء على أمثلة الشعر الجاهلي ولكنها كانت تحمل كل غثاء منه وكل زيف وهم رواة الأخبار والسير والقصص من مثل ابن إسحاق .

أما المستشرقون الغرب فإن أول من تناول قضية الانتحال من المستشرقين هو المستشرق نولدكه سنة 1864م , وبعد ثماني سنين تطرق للقضية المستشرق ألّورد في مقدمة دواوين الشعراء الستة الجاهليين منتهياً إلى أن عدداً قليلاً من قصائد هؤلاء الشعراء يمكن التسليم بصحته , مع ملاحظة أن شكاً لا يزال يلازم هذه القصائد الصحيحة في ترتيب ألفاظها وأبياتها

وتابع كثير من المستشرقين ألّورد في موقفه الحذر من قبول كل ما يروي للجاهليين ومنهم موير وباسيه وبروكلمان .

وكان مرجليوث أكبر من أثار قضية الشك في الشعر حيث ذهب إلى رفض الشعر الجاهلي جملة في مقالة بعنوان { أصول الشعر العربي } نشرها في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية عدد يوليو سنة 1925م , ويرى أن الشعر الذي نقرأه على أنه شعر جاهلي إنما نظم في العصور الإسلامية ثم نحله الواضعون لشعراء جاهليين , وقد بنى رأيه على ضربين من الأدلة:  أدلة خارجية , وأدلة داخلية وهي :

**= الأدلة الخارجية :

1- وجود شعراء في بلاد العرب قبل الإسلام أمر شهد به القرآن الكريم , إذ أن فيه سورة واحدة باسمهم { سورة الشعراء } وأن هناك أوصافا كان الخصوم ينعتون بها النبي محمدا – صلى الله عليه وسلم – كوصف الكاهن والمجنون والشاعر وهو يريد أن يستنتج من هذا المضغ غموض الشعر الجاهلي وإبهامه , وأنه كان قبل الإسلام بعض الكهان كانت لغتهم مبهمة وغامضة .

2- غموض أولية الشعر الجاهلي , إذ أن القدامى ذهبوا فيها مذاهب متباينة فقيل : عزا بعضهم شعراً إلى عهد آدم , بينما أورد آخرون شعراً إلى عهد إسماعيل , ويكاد الإجماع أن أولية الشعر تعود إلى قبل الإسلام بمائتي عام ..

3- نفى أن يكون الشعر حفظ ووصل إلينا عن طريق الرواية الشفهية لأسباب ثلاثة :

*- عدم وجود حرفة وصناعة لرواية الشعر في العقود الأولى قبل الإسلام تحفظه وتنقله

*- احتقار القرآن الكريم للشعراء الغاوين مدعاة لنسيان الشعر الجاهلي , فالإسلام يجب ما قبله .

*- القصائد المخلدة هي المرتبطة بالحروب وانتصارات القبائل , والإسلام يحث على نسيان تلك الحوادث والنعرات القبلية لإثارتها النفوس وتهييج الدماء .

4- ينفي كتابة الشعر الجاهلي لوجهين :

*- وجود أدب فصيح قبل الإسلام بلغة القرآن الكريم وبالكتابة الحميرية يتناقض مع صريح ألفاظ القرآن الكريم , نحو قوله تعالى : (( أم لهم كتاب فيه يدرسون )) وقوله تعالى : (( أم عندهم الغيب فهم يكتبون )) ولو أن الشعر الجاهلي كان مكتوباً لكان للجاهليين كثير من الكتب

*- الشعر الذي يزعم أنه جاهلي إنما هو مرحلة تالية للقرآن الكريم لا سابقة عليه , فالأساليب الأدبية العربية شعراً ونثراً فيها مشابهة من أسلوب القرآن .

5- ثم يتطرق بعد ذلك إلى الحديث عن الرواة من علماء القرنين الثاني والثالث الهجريين فيذكر حماداً وجناداً وخلفاً الأحمر وأبا عمرو بن العلاء والأصمعي وأبا عمرو الشيباني وابن إسحاق صاحب السيرة والمبرد , ثم أضاف أن هؤلاء الرواة العلماء لم يكن يوثق بعضهم بعضا .

 

 

 

الأدلة الداخلية :

1- إن ما في هذا الشعر الجاهلي لا يمثل الجاهليين الوثنيين بدليل ورود بعض الإشارات  في الشعر الجاهلي كالقصص الديني أو الكلمات الدينية الإسلامية مثل : الحياة الدنيا , يوم القيامة , الحساب , بعض صفات الله , الحشر , السجود , الجحيم …

2- أقامه على اللغة وأدار حديثه عن هذا الدليل على أمرين :

الأول : الاختلاف بين لهجات القبائل المتعددة . والثاني : الاختلاف بين لغة القبائل الشمالية جملة واللغة الحميرية في الجنوب . ومعنى ذلك أن اللغة لا تمثل إلا لغة الشمال وهي لغة القرآن , يقول : لو أن هذا الشعر كان صحيحاً لمثل لنا لهجات القبائل المتعددة في الجاهلية كما مثل لنا الاختلاف بين لغة القبائل الشمالية العدنانية واللغة الحميرية في الجنوب .

3- ثم ينتقل إلى موضوعات القصائد , ولعله يريد أن يستنتج منه أن اتفاق القصائد الجاهلية في التطرق لموضوعات واحدة بعينها تتكرر في كل قصيدة أمر يدل على أنها نظمت بعد نزول القرآن لا قبله .

4- النقوش المكتشفة لممالك الجاهلية المتحضرة وخاصة اليمنية لا تدل على وجود أي نشاط شعري فكيف أتيح لبدو غير متحضرين ان ينظموا هذا الشعر .

ولكن هناك من المستشرقين من تصدى لهذه الآراء وفندها وذهب إلى صحة الشعر الجاهلي كالمستشرق شارلس جيمس ليال في مقدمة الجزء الثاني من المفضليات , وجور جيوليفي دلاّ في مقالته بلاد العرب قبل الإسلام .

ينقض جيمس ليال آراء مرجليوث ويفندها قائلاً : أن الشعر الجاهلي انتقل إلينا عن طريق الرواية ومن الطبيعي أن هذه القصائد اعتراها بعض التغيير في أثناء التناقل فقد تستبدل بعض الكلمات المترادفة بغيرها وقد يؤدي عدم تثبيت الذاكرة إلى إسقاط أبيات أو تغييرها وأن شعر القرن الأول الهجري يتضمن وجود هذا الشعر الجاهلي فقد استمر شعراء القرن الأول الهجري المشهورون { الفرزدق وجرير والأخطل وذو الرمة } يتبعون تقاليد الشعراء الجاهليين في الأسلوب والموضوعات .

وأن الشعر القديم مليء بألفاظ كانت غريبة على العلماء الذين كانوا أول من عرض هذا الشعر على محك النقد فقد كانت تنتمي إلى مرحلة لغوية أقدم من عصرهم وكانت غير مستعملة في الزمن الذي كتبت فيه القصائد وجمعت فيه الدواوين

س / ما موقف الأدباء العرب المحدثين من هذه القضية ؟

ج / أول من شق طريق البحث في هذا الموضوع من العرب المحدثين هو مصطفى صادق الرافعي في كتابه { تاريخ آداب العرب } حيث ردّ بواعث وضع الشعر الجاهلي إلى عوامل عدة منها :

*- تكثر القبائل لتعتاض مما فقدته بعد أن راجعت الرواية وخاصة القبائل التي قلّت وقائعها وأشعارها , وكانت أولاها قبيلة قريش فقد وضعت على حسان أشعاراً كثيرة .

*- شعر الشواهد لحاجة العلماء إليها في تفسير الغريب ومسائل النحو خاصة عند الكوفيين .

*- الشواهد التي كان بعض المعتزلة والمتكلمين يولدونها للاستشهاد بها على مذاهبهم .

*- الشواهد على الأخبار لأنه لما كثر القصاصون واهل الأخبار اضطروا أن يصنعوا الشعر لما يلفقونه من الأساطير فوضعوا من الشعر على آدم فمن دونه وأول من أفرط في ذلك محمد بن إسحاق .

*- الاتساع في الرواية يضعون على فحول الشعراء قصائد لم يقولوها ويزيدون في قصائدهم التي تعرف لهم ويدخلون من شعر الرجل في شعر غيره . ومن أشهرهم حماد الراوية وخلف الأحمر .

وهكذا نرى أن مصطفي صادق الرافعي قد دار مع القدماء من العرب في فلكهم وتابع ابن سلام في آرائه دون غلو أو شطط ولم يحمل النصوص أكثر مما تحتمل ولم يتعسف الطريق اعتسافا إلى الاستنتاج والاستنباط , ولم يجعل من الخبر الواحد قاعدة ولا من الحالات الفردية نظرية شاملة .

أما طه حسين فقد تناول هذه القضية في كتابه { في الشعر الجاهلي } سنة 1926م , فأثار ضجة كبيرة لما فيه من آراء جريئة يتعرض بعضها للدين , ثم حذف منه وزاد فيه ووسعه فأصدره سنة 1927م بعنوان { في الأدب الجاهلي } , وقد استقى أكثر مادته من روايات ابن سلام العرب واستنتاجات واستنباطات وآراء مرجليوث وتوسع فيها حتى وصل إلى ان قال : ” إن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء , وإنما هي منتحلة بعد ظهور الإسلام فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهوائهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين وأكاد لا أشك في ان ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئاً ولا يدل على شيء ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر ”

وقد قسم طه حسين بحثه إلى ثلاثة أقسام : الدوافع والأسباب التي تدفع الباحث إلى الشك في الشعر الجاهلي وأسباب الوضع والانتحال في الشعر الجاهلي ثم درس فريقاً من الشعراء وشك في نسبة الشعر إليهم , نذكر كل هذا باختصار شديد :

*- دوافع الشك عند طه حسين :

= الشعر لا يمثل الحياة الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للعرب الجاهليين

= اختلاف اللغة , فهو يرى أن هناك اختلافاً قوياً بين لغة حمير ( وهي العرب العاربة ) ولغة عدنان وهي ( العرب المستعربة ) مستنداً على قول أبي عمرو بن العلاء : { ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا }

= اختلاف اللهجات فقبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة بخلاف المعلقات تستطيع أن تقرأها دون أن تشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافاً في اللهجة أو تباعداً في اللغة .

= الاستشهاد بالشعر الجاهلي على ألفاظ القرآن والحديث حتى إنك لتحس كأن هذا الشعر الجاهلي إنما قدّ على قدّ القرآن والحديث وهذه الدقة تبعث على الشك والحيرة .

أما أسباب الانتحال عند د / طه حسين فيرجعها إلى :

*- السياسة ويريد بها العصبية مثل ما كان بين قريش والأنصار , ومن كان بين القبائل من أحقاد قديمة ومع ذلك لم يستشهد بشعر جاهلي بل استشهد بشعر إسلامي قيل بعد الإسلام يسوق مثالاً على ذلك بما ذكره ابن سلام : (( وقد نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية , فاستكثرت منه في الإسلام ))

*- الدين فقد نظمت أشعار في الجاهلية إرهاصاً ببعثة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإثباتاً لنبوته , أو ما جاء عند المفسرين من ذكر الأمم السابقة , وتشكك فيما أضيف إلى شعراء اليهود والنصارى من أشعار , وكذلك ما أضيف إلى عدي بن زيد العبادي .

*- القصص وتحدث عن هذا وما كانوا يضعون من الشعر لتزيين القصص والأخبار , وقد نبه ابن سلام على ذلك عند ابن إسحاق وأضرابه .

*- الشعوبية وتحدث عن الخصومة بين العرب والموالي وأن هؤلاء الشعوبيين قد نحلوا أخباراً وأشعاراً وأضافوها إلى الجاهليين والإسلاميين وكذلك فعل خصومهم يقول في ذلك : (( وكانت الشعوبية تنحل من الشعر ما فيه عيب للعرب وغض منهم وكان خصوم الشعوبية ينحلون من الشعر ما فيه ذود عن العرب ورفع لأقدارهم ))

*- الرواة , تحدث عن فساد مروءة بعض الرواة مثل حماد وخلف وأبي عمرو الشيباني وأنهم كانوا ينحلون الأشعار ويعبثون بالشعر وتحدث أيضاً عن طائفة أخرى اتخذت الرواية مكسباً وهم الأعراب الذين كان يذهب إليهم رواة الأمصار يسألونهم عن الشعر والغريب .

= أما الدراسة التطبيقية فقد شك في شعر امرئ القيس وعلقمة الفحل وعبيد بن الأبرص وعمرو بن قميئة والمهلهل وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وطرفة والمتلمس والأعشى ثم شك في الشعر المضري .

س : من ظواهر الشعر الجاهلي الصعلكة , فماذا يقصد بها وما خصائصها الفنية ؟ ومن أبرز شعرائها ؟

حركة الصعاليك الشعرية أول حركة تمرد في تاريخ الشعر العربي إذ شق هؤلاء الصعاليك عصا الطاعة, وخرجوا على الإجماع الشعري الجاهلي .

والصعلكة لغة تعني الفقر , والصعلوك الفقير الذي لا مال له يستعين به على أعباء الحياة , ولا اعتماد له على شيء أو أحد يتكأ عليه , وقد تطورت دلالة هذا المصطلح بحيث أصبح يدل على طائفة من الشعراء ممن كان يمتهنون الغزو والسلب والنهب . والصعلكة ظاهرة اجتماعية برزت على هامش الشعر الجاهلي كرد فعل لبعض العادات والممارسات وهم ثلاث طوائف : الخلعاء الشذاذ الذين خلعتهم القبيلة لكثرة جرائرهم وخبثهم مثل : حاجز الأزدي وقيس الحدادية وأبي الطمحان القيني . والطائفة الثانية أبناء الجنسيات السود الإماء ممن نبذهم أباؤهم ولم يلحقوهم بهم لعار مثل : السليك بن سلكة , والشنفرى الأزدي , وتأبط شراً , وهؤلاء يسمون أغربة العرب , وكانوا يتمردون على ذويهم ويلوذون بالصحراء . والطائفة الثالثة اللصوص المحترفون وهم الذين يعيشون على الإغارة ويقتاتون من ورائها , وهذه الطائفة كانت تضم قبائل بأكملها مثل قبيلتي فهم وهذيل . ومن شعرائها عروة بن الورد .

وحركة الصعلكة ذات مضمون اجتماعي وإنساني تعمل على وضع الأمور في نصابها , ومظهر من مظاهر الصراع بين الفقراء والأغنياء , لذا فهي سمة واقعية تكشف عن حس متوهج برفض الظلم والقهر .

وتدور موضوعات شعر الصعلكة حول المغامرات وشعر المراقب والتوعد والتهديد ووصف الأسلحة والحديث عن الرفاق وسرعة العدو والتشرد والغزوات على الخيل .

أما الظواهر الفنية في شعر الصعاليك فنجد أن أغلب شعرهم مقطوعات , ولسنا نعني بهذا انعدام القصيدة فيه , وإنما نعني ذيوع المقطوعة أكثر من ذيوع القصيدة .

أول ما يلفت النظر في شعر الصعاليك ذيوع المقطوعة أكثر من ذيوع القصيدة التي يتراوح عدد أبيات الواحدة منها بين البيتين والسبعة , ومرجع ذلك إلى طبيعة حياتهم تلك الحياة القلقة المشغولة بالكفاح في سبيل العيش التي لا تكاد تفرغ للفن من حيث هو فن يفرغ صاحبه لتطويله وتجويده وإعادة النظر فيه كما يفعل الشعراء القبليون .

والناظر في شعر الصعاليك تلفت نظره أيضا تلك الوحدة الموضوعية في مقطوعاته وأكثر قصائده . بحيث يستطيع أن يضع لكل مقطوعة عنواناً خاصاً بها دالا على موضوعها سواء ما كان منها في وصف المغامرات أو الحديث عن سرعة العدو أو الفرار أو تقرير فكرة اجتماعية أو اقتصادية .

ومن الطبيعي أن تخلو قصائدهم من المقدمات الطللية والغزلية والخمرية لحرصهم على الوحدة الموضوعية , وإذا كانت قصائدهم قائمة على التمرد الاجتماعي فمن الطبيعي أن تتحلل قصائدهم من الشخصية القبلية , وألا تظهر شخصية القبيلة عند شاعر فقد إحساسه بالعصبية القبلية . والناظر في شعر الصعاليك يجد أن الروح القصصية تسري في تضاعيفه يصور فيه الشاعر حياته وحياة أصحابه , ويسجل فيه الشاعر كل ما يدور في حياته الحافلة من حوادث مثيرة . كما صور الشعراء الصعاليك في فنهم البيئة البدوية التي يعيشون فيها بكل مظاهرها الواقعية الصحراء بشعابها وجبالها وأغوارها ولياليها المظلمة الرهيبة وحيوانها الشارد ووحوشها وحشراتها وبصدق ودقة ومهارة فنية . كما أنهم اعتمدوا على فن التشبيه في صنعتهم الفنية واستكمال الصورة الفنية والمعنوية .

س : دكتور محمد تشيع في قصائد الشعر الجاهلي ظاهرة المقدمة الطللية , فما سبب ذلك ؟

 

ج : هناك من يرى أن القصيدة الجاهلية تنقسم قسمين ذاتي وغيري , والذاتي يتحدث فيه الشاعر عن نفسه ويصور مشاعره وانفعالاته , وغيري يتناول فيه شئون القبيلة . أما سر ولوع الشعراء الجاهليين بهذه المقدمة فيجيب عنها ابن قتيبة بقوله : ” إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فشكا وبكى وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين بها .. ثم وصل بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليُميل نحوه القلوب ويستدعي به إصغاء الأسماع إليه لأن النسيب قريب من النفوس لائط بالقلوب , فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره وشكا النصب والسهر ومسرى الليل وإنضاء الراحلة والبعير فإذا علم أنه قد أوجد على صاحبه حق الرجاء بدأ في المديح فبعثه على المكافأة وهزه على السماح فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب ” .

ويرى معاصرون أن هذه المقدمة إنما كانت تأتي استجابة لأحاسيس الشاعر الذاتية وخواطره النفسية وتفاعله مع بيئته الصحراوية .

س : دكتور محمد يقول الأصمعي : ” الشعر نكد يقوى في الشر ويسهل , فإذا دخل في باب الخير لان وضعف , هذا حسان فحل من فحول الجاهلية , فلما جاء الإسلام سقط شعره ”

ج : الأصمعي نفسه يتراجع عن هذه النظرة حينما يعترف في مكان آخر بفحولة حسان , وينفي عنه كل لين وضعف , حيث يقول : ” حسان بن ثابت أحد فحول الشعراء فيقول له تلميذه أبو حاتم : ” تأتي له أشعار لينة ” فيرد الأصمعي مبرئاً شعر حسان من اللين والضعف : ” تنسب له أشياء لا تصح عنه ” .

ويقول ابن سلام : ” قد حمل عليه ما لم يحمل على أحد , ولما تعاضهت قريش واستبت وضعوا عليه أشعارا كثيرة لا تنقّى ” . وفي الحقيقة يجمع معظم الدارسين على أن شعر حسان قد هبط مستواه الفني بعد الإسلام , وضعف شعره لأسباب منها : أنه رائد لمضمون جديد في الشعر , وقد تطلّب منه منهجاً شعرياً جديداً لم يكن واضح المعالم , وطلب منه التعبير في تجارب جديدة لم يكن له عهد بها , فحين يرثي الشهداء مثلاً فهذا أمر جديد عليه فليس لديه رصيد يتكئ عليه , أما الوقائع والحروب والنعرات والأنساب فلها رصيد في الجاهلية يتموّل بها . ومنها ما يتصل بحسان في ذاته : فهو رائد لمضمون جديد ولا بد للرائد من هنات وعثرات لأنها بداية جديدة . وهو أدرك الإسلام وهو أقرب للشيخوخة فصعب عليه التكيف التام للوضع الجديد . وثالثها ارتجاله الشعر مما فوّت عليه فرصة الإجادة والتنقيح . ثم إنه كان مضطراً إلى الإكثار من القول في كل حادثة يتعرض لها الإسلام فهو شاعر الرسول – صلى الله عليه وسلم – والأحداث فلا يتاح له الوقت للتنقيح وكان هذا مدعاة للرقة والركاكة والضعف .

وقيل لحسان : لَاَنَ شعرُك أو هَرِم في الإسلام يا أبا الحسام , فأجاب : يا ابن أخي إن الإسلام يحجز عن الكذب , أو يمنع من الكذب , وإن الشعر يزينه الكذب .

 

ومنها كثرة ما حمل عليه واختلاط شعره بشعر معاصريه كعب وابن رواحة والسبب في ذلك أن أكثر مصادره من سيرة ابن إسحاق . ومن هنا نستطيع أن نطمئن إلى حد بعيد إلى شعره الجاهلي في مجموعه , فقد كان بمنأى عن أسباب الانتحال التي أحاطت بشعره الإسلامي .

أما شعره الإسلامي فمن الضروري أن نبالغ في الحذر من الاطمئنان إليه كله , ففيه منتحل كثير .

واتصل بالغساسنة الذين أجزلوا له العطاء بعد أن مدحهم وقال فيهم أجود شعره , يقول في البتارة :    أسألت رسم الدار أم لم تسأل *** بين الجوابي فالبضيع فحومل

                لله درّ عصابة نادمتــهم ***   يوماً بجلّق في الزمان الأول

             بيض الوجوه كريمة احسابهم *** شم الأنوف من الطراز الأول

هذه القصيدة تجري على النمط الجاهلي من وقوف على الأطلال ووصف للمحبوبة ثم الانتقال إلى وصف الراحلة والرحلة وصولاً إلى المدح .. ورغم أن هذه نظمت في الجاهلية ونسجت على منوال القصائد الطوال إلا أنها تتميز بقاموسها اللغوي الذي امتاز بتماسك الأسلوب , وبضرب من الموسيقى الداخلية والخارجية , وبأسلوب لا يخلو من الحوشية والأخيلة البدوية بل غلبت عليه جزالة اللفظ وفخامة التعبير وشموخ المعاني والاتصال المباشر بالبيئة , وبالإضافة إلى أنه كان يميل إلى اللين وعذوبة اللفظ وسلاسة التعبير .

وجودة شعر حسان الجاهلي دفعت نقدة العرب إلى استحسان شعره فقال أبو عبيدة فضّل حسان بثلاث : كان شاعر أهل المدر في الجاهلية , وشاعر النبي – صلى الله عليه وسلم – في النبوة , وشاعر اليمن كلها في الإسلام . ومما لاشك فيه أن حساناً كان من فحول الصف الثاني بين شعراء الجاهلية فهو لم يصل إلى مرتبة أصحاب المعلقات ولم يستطع الارتفاع بشعره إلى مستوى قصائدهم الطوال المشهورة فهو دونهم في الموهبة والقدرة اللغوية وسعة التجربة وصدق الملاحظة , ورغم ذلك فله قصائد تعبر عن روح الجاهلية تعبيراً صادقاً . ولعل ميميته ذات المطلع :  ألم تسأل الربع الجديد التكلما ***  بمدفع أشداخ فبرقة أظلما

                        لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

هي أكثر قصائده تمثيلاً لطبيعة القصيدة الجاهلية في بنائها وتعابيرها وصورها , ففيها نفحات قريبة من روح زهير في وصف الرحلة وصور امرئ القيس في وصف المطر والسيل وفي أسلوبها الرصانة المعهودة في الشعر الجاهلي . ولكن رغم ذلك فإن شعر حسان اتسم بمسحة مدنية ميزت أسلوبه عن أساليب الشعراء آنذاك , ومرد ذلك اتصاله بالغساسنة .

وأما القول بأن شعر حسان لان وضعف بسبب موقف الإسلام من الشعر ففيه شيء من المبالغة لأن عصر الفحول قد انقضى قبيل الإسلام ولم يبق منهم في الإسلام سوى حسان نفسه وكعب بن زهير والحطيئة وهؤلاء جميعاً من فحول الصف الثاني إضافة إلى لبيد الذي كف عن قول الشعر بعد إسلامه .

س : دكتور محمد هل أنشد حسان قصائده المبدوءة بالغزل أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ؟

 

ج : نعم . لكن ينبغي أن نفهم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يدرك تماماً أن وصف الخمرة والوقوف على الأطلال وابتداء مطالع القصائد بالغزل ليس إلا تقليداً فنياً فرضته ضرورة اكتمال الصورة الفنية . فقصيدته الهمزية من أفضل قصائده التي تجمع بين أسلوب الجاهلية ومعانيها وأسلوب الإسلام وقيمه يقول :

                         عفت ذات الأصابع فالجواء ***  إلى عذراء منزلها خلاء

                       ديار من بني الحسحاس قفر ***  تُعفّيها الروامس والسماء

                      فدع هذا ولكن من لطيف ***  يؤرقني إذا ذهب العشاء

                      كأن سبئية من بيت رأس *** يكون مزاجها عسل وماء

وكذا فعل كعب بن زهير في قصيدة البردة المشهورة :

                بانت سعاد فقلبي اليوم متبول *** متيّم إثرها لم يفد مكبول

س : دكتور محمد يقترن الحديث عن حسان بن ثابت بشاعر الدعوة الإسلامية كعب بن مالك , ولكن غفل عنه الدارسون إلى حدّ جعلت اسمه يلتبس من حيث الإلف مع كعب بن زهير , نريد منك حديثاً عنه وعن شعره ومكانته وخصائصه الفنية .

ج : كعب بن مالك التائب العابد الصحابي ذو السيرة العطرة والمواقف المشرفة مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مدرسة فنية تبوّأ منزلة عالية في عالم الشعر , نوّه به القدماء , وأشادوا به وبشعره , وأجمع الذين ترجموا له على أنه شاعر مجيد مجوّد مطبوع , وأن لشعره وقعاً كبيراً في نفوس سامعيه .

صنفه ابن سلام صاحب الطبقات في شعراء القرى إذ قال : ” شعراء القرى العربية وهي خمس : المدينة ومكة والطائف واليمامة والبحرين , وأشعرهن قرية المدينة . شعراؤها الفحول خمسة : ثلاثة من الخزرج واثنان من الأوس , فمن الخزرج من بني النجار : حسان بن ثابت , ومن بني سلمة : كعب بن مالك , ومن بني بلحارث بن الخزرج : عبد الله بن رواحة , ومن الأوس : قيس بن الخطيم من بني ظفر , وأبو قيس بن الأسلت من بني عمرو بن عوف ” .

لم يصل إلينا من شعر كعب سوى شعره الإسلامي , بل بعض شعره الإسلامي مع أنه شاعر مخضرم مجيد طارت له شهرة في الجاهلية , وعرف بالشعر , فما سمع الرسول – صلى الله عليه وسلم – اسمه من عمه العباس حتى قال : ( الشاعر ) .

وتعدت شهرته جزيرة العرب ووصلت إلى ملك غسان الذي سارع إلى إغوائه مستغلاً محنة المقاطعة الأليمة التي مرت به .

إذاً أين شعره ؟ لقد عدت عليه عوادي الأيام , فضاع معظمه , وما وصل إلينا إلا القليل . ولقد ضاع شعره الجاهلي إلا أبياتاً سبعة استشهد بمطلعها النويري في نهاية الأرب 6/ 217, والمقطوعة هي :  زعم ابن أسلت أننا لم نثّئر *** قتلى بعاث وأننا لم نزدد

                       بمذرّبات بالأكف نواهل ***  وبكل أبيض كالغدير مهند

                   ومفاضة زعف تمور فصوصها ***  صور الأضاة على القرار الجدْجد

                   وبفتية غُلْب الرقاب مغاور *** من يلقهم يوم الكريهة يبعد

                 أنسيت قومك سوّدتك رماحهم *** بعد المشيب وكنت غير مسوّد

                 ولقد رأيت أبا عقيل بالوغى *** فصددت عنه بالنجاء الأجود

               وضننت عنه بالحياة وقد ثوى *** وتركته بالمتن غير موسّد

ويبقى السؤال قائماً لماذا ضاع شعره الجاهلي ؟ قيل لأن الرواة لم يهتموا برواية شعره لأنه كان شاباً ولم تكن لشعره سيرورة كبرى , ويرد هذا القول شهرة طرفة بن العبد الفتى القتيل الذي اخترمته يد المنون في العشرينيات من عمره , فلم تغفل المصادر شعره .

وقيل : أهمله أهله البنون والحفدة إذ رأوا فيه تسجيلاً لأيام الجاهلية التي كانت بين الأوس والخزرج وما فيها من عصبية منتنة وعدوات مستحكمة مقيتة ووجدوا على النقيض من ذلك في شعره الإسلامي تسجيلاً لأخوّة الإيمان التي ألّفت بين الحيين المتخاصمين تحت اسم الأنصار . ولعله الأصوب .

نظم في الأغراض الشعرية النبيلة التي تناسب رجل الدعوة الإسلامية فتوسع في الفخر الذاتي والجماعي , ولم يكثر من المديح الذي دار معظمه حول مديح الرسول – صلى الله عليه وسلم – ونقباء العقبة . وضرب في الهجاء بسهم وافر , ورجم فيه بشهاب ثاقب لتوفر أسبابه ودواعيه فهجا اليهود والمشركين وبني لحيان وابن الزبعرى وغيرهم .

وكان لكعب بن مالك تسع نقائض تصدى فيها لضرار بن الخطاب يومي بدر والخندق ولأبي سفيان بن حرب في غزوة السويق ولهبيرة بن أبي وهب في أحد مرتين , ولعمرو بن العاص في أحد , ولضرار بن الخطاب وعمرو بن العاص في أحد أيضا , ولعبد الله بن الزبعرى في يوم الخندق ولعباس بن مرداس حين امتدح رجال بني النضير . وله أرجوزتان أولهما أجاب فيها سلمة بن الأكوع , والثانية أجاب فيها مرحبا اليهودي يوم خيبر .

وله في الرثاء ثلاث مقطعات في رثاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقصيدتان ومقطعة في رثاء حمزة , وقصيدة في رثاء شهداء أحد وفيهم حمزة , وقصيدة ومقطعتان وبيتان مفردان من قصيدتين في رثاء عثمان , وقصيدة في رثاء شهداء مؤته وجعفر بن ابي طالب , ومقطعة في رثاء عبيدة بن الحارث بن المطلب .

وبرع في الوصف , ولكنه لم يفرد له قصائد خاصة , وإنما انبث في أغراضه وهو في غرض الفخر أظهر وأغزر , ويدور حديثه فيه عن وصف الخيل ووصف المعارك والحرب وعدتها والفرسان وبلائهم . ومن روائعه يقول مذكراً المشركين في أحد بهزيمتهم الصاعقة يوم بدر :

            مجالدنا عن ديننا كل فخمة *** مُذرّبة فيها القوانس تلمع

         وكلُّ صموت في الصُّوان كأنها *** إذا لُبست نهيٌ من الماء مترع

            ومنجوفة حرمية صاعدية *** يُذرّ عليها السم ساعة تصنع

           تصوب بأبدان الرجال وتارة *** تمر بأعراض البصار تقعقع

             وخيلٌ تراها بالفضاء كأنها *** جرادُ صباً في قرة يتريع .

ويقول مازجاً عدة التقوى بعدة السلاح واصفاً موقعة الخندق :

   من سرّه ضرب يمعمع بعضه *** بعضاً كمعمعة الأباء المُحرق

    فليأت مأسدة تسن سيوفها *** بين المذاد وبين جزع الخندق

  دربوا بضرب المعَلَمين فأسلموا *** مهجات أنفسهم لرب المشرق

وتستميلنا الطرافة الفنية والإبداع التصويري في هذين البيتين حيث يقول :

   نصل سيوفنا إذا قصرن بخطونا *** قدُماً ونلحقها إذا لم تلحق

     فترى الجماجم ضاحياً هاماتها *** بله الأكفّ كأنها لم تخلق

وتناثرت في ديوانه أبيات من الحكمة والغزل والوعظ . ويمكننا بعد هذا الاستعراض أن نستجلي الخصائص العامة لشعره ونبدأ بمنهج القصيدة فكعب بن مالك لم يكن يلتزم الوقوف على الأطلال في مطالع قصائده أو التمهيد لموضوعه بالنسيب أو الوصف . وإن أبرز ما يميز القصيدة في شعره الوحدة والتلاحم والاتساق والانسجام بين أجزائها منذ مطلع القصيدة حتى الختام مع أنها قد تكون وعاء لعدد من الأغراض ومرد ذلك انطلاق الشاعر من وحدة عاطفية تربط موضوعاتها برباط نفسي واحد .

وتنثال المعاني الإسلامية في قصائده , روى أبو الفرج أن معاوية قال يوماً لجلسائه : ” أخبروني بأشجع بيت وصف به رجل قومه , فقال له روح بن زنباع : قول كعب بن مالك :

          نصل سيوفنا إذا قصرن بخطونا *** قدُماً ونلحقها إذا لم تلحق

قال له معاوية : صدقت .

وتزخر قصائده بالحلي البيانية التشبيهات والاستعارات والكنايات والأصبغ البديعية دونما اجتلاب أو تكلف أو تعمد , وإنما جاءت طبيعية على السجية , وتراكيب رصينة ومحكمة صاغها بأسلوب يتلاءم والغرض فهو جزل فخم مطبوع تارة وعذب شجي الإيقاع تارة أخرى يتراقص بها على البحور الطويلة ذات المقاطع الكبيرة التي تتسع للموضوعات الجادة .

س : دكتور محمد عند دراسة الشعر الأموي نجد ظاهرة التخصص في بيئات مختلفة , نرجو تسليط الضوء على هذا الموضوع .

ج : انتقلت الخلافة من الحجاز إلى الشام بعد قيام الدولة الأموية , فأصبحت الشام هي البيئة الأساسية وأصبح القصر الأموي هدفاً للشعراء ومن هنا كان ظهور المدح وازدهاره في هذه البيئة وتهافت الشعراء الثلاثة الأخطل وجرير والفرزدق على القصر .

وعلى أيديهم تطورت قصيدة المدح من صورتها الجاهلية التي كانت عليها في العصر الجاهلي إلى صورة جديدة بما أدخله هؤلاء الشعراء على نسيجها الفني من خيوط إسلامية من ناحية وخيوط سياسية من ناحية أخرى تعبر عن نظرية الحزب الحاكم السياسية وتدافع عنها وتدعو إليها

وفي العراق ظهر لونان من الشعر : الشعر السياسي المعارض للأمويين ( كالشيعة والخوارج والزبيرين ) ولكل حزب شعراؤه فالكميت للشيعة والطرماح وقطرى بن الفجاءة وعمران بن حطان للخوارج . وعبيد الله بن قيس الرقيات شاعر الزبيرين . وازدهر فن الشعر السياسي على أيديهم .

واللون الثاني شعر النقائض في البصرة والكوفة . وهو فن يقوم على أن يقول أحد الشعراء قصيدة في موضوع ما , غالباً ما يكون في الفخر والهجاء فيهب الأخر للرد عليه والأخذ بالثأر فينظم قصيدة في الموضوع نفسه ينقض معانيه المعنى تلو الأخر يحتذي قصيدة الأول وزنا ومعنى وقافية .

وجذورها ليست جديدة في الشعر الأموي بل جذورها عميقة في الجاهلية كانت بين الأوس والخزرج وبكر وتغلب وقيس وتميم وعبس وذبيان ثم بين شعراء المسلمين والمشركين ثم أصبح فناً ثابت القواعد والأصول في العصر الأموي .

ويعود سبب ازدهاره إلى دواعي سياسية فقد شجع الخلفاء الأمويون هذا الفن وأثاروه بين الشعراء لإشغال الناس عن المطالبة بالخلافة .

ودواعي قبلية تتمثل في قرب الدولة الأموية من العصر الجاهلي , والشعراء يتفاخرون بالمناقب ويتعايرون بالمثالب .

وهناك دواعي اجتماعية فقد أدى تلاصق البطون وتجاور القبائل إلى المشاحنة والعداوة . ودواعي أدبية فالشاعر يريد أن يحرز السبق والتفوق على خصمه ويعوّض النقص . كما أن العقل العربي نما وتمرن على الحوار والجدل والمناظرة وهذا أثر على النقائض حيث يولد المعاني وينقض الأفكار ويتعامل مع خصمه بحذق ودربة .

س : هل لهذا الفن قيمة , وما خصائصه الفنية , ومن أبرز شعرائه ؟ وما الذي يؤخذ عليه ؟

 

ج : بلا شك شعر النقائض سجل حافل وصادق لكثير من الجوانب والأحداث , صوّر لنا حياة أدبية في فترة ما بخيرها وشرها قيماً وأخلاقاً . بالإضافة إلى أن شعر النقائض كشف عن شاعرية كبيرة كونها لفحول كالفرزدق وجرير والأخطل والراعي النميري .

وللنقائض خصائص وسمات نجملها في : أنها ليست خاصة بالهجاء بل خليط من الفخر والمدح والنسيب ونلحظ كثرة التهديد والافتخار بالمقدرة الشعرية والفحش والإقذاع والسخرية والتندر والقصص الهجائي وتوليد المعاني واستلهام تاريخ القبائل .

ويؤخذ عليها : الابتذال في المعاني وتكرارها , وصعوبة الفهم , كما أنها محدودية الغرض كونها بين شاعرين أحدهما يمدح والآخر يهجو . كما أن شاعر النقيضة يحشد الكثير من أيام الحروب والمعارك والأنساب ما يفقدها الفنية .

اجتمع في مجلس عبد الملك جرير والفرزدق , فقال الفرزدق : النوار بنت مجاشع طالق ثلاثاً إن لم أقل بيتاً لا يستطيع ابن المراغة أن ينقضه أبداً , ولا يجد في الزيادة عليه مذهباً . فقال عبد الملك : ما هو ؟ قال :

           فإني أنا الموت الذي هو واقع *** بنفسك ؛ فانظر كيف أنت مزاوله .

            وما أحد يا بن الأتان بوائل *** من الموت إن الموت لا شك نائله .

فأطرق جرير قليلاً , ثم قال : أم حزرة طالق منه ثلاثاً إن لم أكن نقضته وزدت عليه ! فقال : عبد الملك : هات ! فلقد طلق أحدكما لا محالة , فأنشد :

         أنا البدر يغشى نور عينيك فالتمس *** بكفيك يا بن القين هل أنت نائله

        أنا الدهر يُفني الموت والدهر خالد *** فجئني بمثل الدهر شيئاً يطاوله .

فقال عبد الملك : فضلك والله يا أبا فراس , وطلق عليك .

ومثل هذا يروى أنه اجتمع في مجلسه جرير والفرزدق والأخطل , فأحضر كيساً فيه خمسمائة دينار وقال لهم ليقل كل منكم بيتاً في مدح نفسه , فأيكم غلب فله الكيس , فبدأ الفرزدق فقال :

       أنا القطران والشعراء جربى *** وفي القطران للجربى شفاء

فقال الأخطل :  فإن تك زق زاملة فإني *** أنا الطاعون ليس له دواء

فقال جرير :  أنا الموت الذي آتي عليكم *** فليس لهارب مني نجاء

فقال عبد الملك : خذ الكيس ؛ فلعمري إن الموت يأتي على كل شيء .

وأما بيئة الحجاز فقد تخصصت للون من الغزل ازدهر بها وعرفت به وهو الغزل اللاهي أو ما يسمى بالغزل الحضاري . ولمع ثلاثة شعراء استطاعوا أن ينهضوا بهذا الفن نهضة رائعة وممتازة وأن يعبروا عن حياة مجتمعهم الجديد بكل ما تنطوي عليه من حضارة وترف وفراغ ولهو ومرح وهم عمر بن أبي ربيعة والأحوص والعرجي .

وأما بيئة البادية بادية الحجاز ونجد فقد ازدهر بها لون آخر من ألوان الغزل ظهر في المدن الحجازية وهو الغزل العذري وهو اللون المقابل للغزل اللاهي . وظلت المرأة في هذا المجتمع البدوي خاضعة للتقاليد الصارمة ولم تستطع أن تتحرر .. وقد كثر العشاق العذريون في هذه البيئة وعرف كل واحد منهم بمحبوبة له اقترن اسمه باسمها : قيس بن الملوح وليلى , وقيس بن ذريح ولبنى , وجميل وبثينة , وكثير وعزة , والصمة القشيري وريّا , وذو الرمة وميّ وغيرهم .

وفي بيئة البادية أيضا ظهر شاعر بقصة حب تدور في فلك العشاق العذريين , ولكنه لمع إلى جانب آخر وهو وصف الصحراء الذي بلغ به قمة متميزة انفرد بها ولم يشاركه فيها غيره من شعراء عصره بل ربما من كل عصور الشعر العربي على امتدادها الطويل وهو ذو الرمة .

كما ظهر لون الرجز واصبح ظاهرة تميز العصر الأموي بسبب الغرابة اللغوية المتعمدة وترتب على ذلك أن فحول الرجاز في هذا العصر أباحوا لأنفسهم التصرف في اللغة واشتقاقاتها .

ويعد الأغلب العجلي أول من أطال الأرجوزة وجعلها تنهج نهج القصيدة , وكان الرجز قبله إنما يقول الرجل منه البيتين أو الثلاثة . على أن نهضة الرجز الحقيقية إنما اكتملت في العصر الأموي على أيدي ثلاثة من فحول الرجاز وهم العجاج وأبو النجم ورؤبة

س / هل طرأ تجديد على المقدمة التقليدية للقصيدة في العصر الأموي ؟

ج / جمع شعراء هذا العصر بين الموروث القديم والجديد المستحدث وحالوا التوفيق بينهما , فهو يختار من موروثه ما أخذ صورة القداسة في نفسه , ويختار أيضا من تيارات ثقافته الحضارية والعقلية ما يتسق مع محاولاته الإحيائية للقصيدة القديمة إضافة إليها أو تعديلا فيها .

وربما كانت المقدمة الطللية ومقدمة الضعائن وما يتصل بها من حديث الرحلة أقل المقدمات التقليدية استجابة لتيارهم الإسلامي إلا أنهم ظلوا متمسكين بها كتقليد له قداسته وأصالته , فلم يفكروا في الوقوف منها موقف الرفض أو أن يعلنوا الثورة عليها لأنها كانت بالنسبة لهم رمز الصحراء العريقة التي نما هذا الشعر فوق رمالها , ولأنها ظلت تمثل الرابطة الوثيقة التي تربطهم بماضي هذا الشعر . في حين كانت المقدمة الغزلية سيدة المقدمات ؛ لأن التحول الاجتماعي الذي أصاب مكانة المرأة في ظل المجتمع الإسلامي أتاح الفرصة للشعراء ليعكسوا هذا التحول في مقدماتهم الغزلية , التي تفصح عن ذوق حضاري جديد يغاير الذوق الإحيائي القديم ويفترق عنه , فنحن لا نجد في هذه المقدمة سوى اليسير من الحديث عن مفاتن الجسد

أما الطلل الجامد الثابت في موقعه , والرحلة البدوية في أعماق الصحراء التي استعصت على التحول الجديد فلم يكونا قادرين على استيعاب المتغيرات الإسلامية الجديدة .

 

س / هناك عدة عوامل أثرت في نشأة الغزل العذري العفيف , فما هي ؟

ج / ذهب طه حسين إلى أن ظاهرة الحب العذري العفيف السامي التي عرفها مجتمع البادية في عصر بني أمية ظاهرة إسلامية خالصة , طهرت نفوس البدو وبرأتها من كل إثم , كانت نفوسهم ساذجة لم تعرف الحياة المتحضرة التي عرفتها مكة والمدينة وما يطوى فيها من لهو وعبث وتحلل فهي من أجل ذلك لم تعرف الحب الحضري المترف ولا الحب الذي تدفع إليه الغرائز .

ويضيف عبد القادر القط إلى العامل الديني عوامل أخرى اجتماعية وسياسية وحضارية , ويرى يوسف خليف أن هذا اللون من الحب القديم في الشعر العربي أن جذوره تمتد إلى العصر الجاهلي فقد عرف المجتمع الجاهلي { المتيمين } الذين لم تكن حياتهم وشعرهم إلا صورة مماثلة أشد مماثلة لحياة العذريين الأمويين فهو نبت صحراوي أصيل ممتد بين المدرستين , ففي شعر قيس لبنى إشارات إلى عبد الله بن العجلان وصاحبته هند , وفي شعر جميل إشارات إليهما أيضا , وإلى عروة بن حزام وعفراء , وكذلك إلى المرقش الأكبر وأسماء .

أما العامل الأساسي في ظهور مدرسة الغزل الحضاري في المجتمع الحجازي هو العامل الحضاري فقد كان مجتمع مكة والمدينة يكتظ بجواري الروم والفرس وكان يشيع فيه الغناء والموسيقى , وعم فيه الترف والنعيم في الملبس والمطعم وشاع معهما كثير من اللهو و أحاديث الصبابة والغزل , بالإضافة إلى السبايا والأسرى التي تحمل معها حضارتها وتقاليدها ومثلها الخلقية التي كانت تجد استجابة سريعة من شباب الحجاز الفارغ .

س : وصف الصحراء قديم في الشعر العربي , استطاع ذو الرمة أن يحقق في هذا الشعر نهضة رائعة ارتفعت به إلى قمة لم يستطع أحد غيره من الشعراء أن يصل إليها هل بالإمكان دكتور محمد أن نتناول هذا الموضوع بشي من التفصيل ؟

ج : الحديث عن ذي الرمة حديث ممتع وشايق ومنذ أيام الطلب وأنا أعشق هذا الشاعر , وهناك دراسة علمية دكتوراه وافية للدكتور يوسف خليف تحدث فيها عن شاعر الحب والصحراء . عموماً نجمل الحديث حول النقاط التالية : هو غيلان بن عقبة ( 78-117) شاعر بدوي ولد وعاش في صحراء الدهناء شرقي نجد . ولقبه ذو الرمة قيل : إن ميّة التي أحبها وتغنى بها في شعره هي التي لقبته بهذا اللقب , وذلك أنه مرّ بخبائها وهي جالسة إلى جنب أمها فاستسقاها ماء فقالت أمها : قومي فاسقيه , وكانت على كتفه رُمّة وهي قطعة من حبل , فأتته بالماء وقالت : اشرب يا ذا الرمة , فلقب بذلك .

وقيل : لقب بذلك لقوله : ( أشعث باقي رمة التقليد ) وقيل : تعويذة علقت بحبل على يساره . والموضوعان الأساسيان في شعره هما الحب والصحراء , فقد اتخذ من وصف الصحراء موضوعاً تخصص له إلى جانب شعر الحب الذي كان موضوعه الآخر الذي تخصص له أيضاً  ومن هنا تداخل الموضوعان في شعره وامتزجا في قصائده , وتحول وصف الصحراء عنده من صورته التقليدية إلى صورة جديدة مستقلة يفرد له القصائد , ويهب له فنه وكل ما يملك من وسائل تعبيرية وتصويرية يصفها كما يصف العاشق محبوبته ” فهو وصف يمتزج به الحب امتزاجا تاما , وتتداخل الخيوط العاطفية في نسيجه الفني , ويتراءى ذو الرمة من خلاله عاشقاً للصحراء تفيض أعماقه بمشاعر لا حدود لها من الحب والفتنة , راح يخلعها على كل ما فيها , فإذا كل ما فيها حبيب إلى قلبه : مناظرها الطبيعية ومظاهر الحياة فيها وحيوانها ونباتها ومن هذا المزج بين الحب والصحراء اكتسب شعر ذي الرمة هذا الطابع الفريد في الشعر العربي الذي تحولت معه الصحراء من لوحة جامدة صامتة إلى لوحة حية مواجة بالحركة دفاقة بالحياة ”

يقول متغزلاً بالصحراء ويجعل صورتها وصورة مية أو خرقاء تتقاربان وتمتزجان امتزاجاً جعله يرى في كثبان الرمال المنتشرة في الصحراء صورة من أجساد العذارى :

            ورمل كأوراك العذارى قطعته *** إذا جلّلته المظلمات الحنادس .

ومن يتتبع ديوان ذي الرمة يجده لا ينتقل بين المقدمات الطللية أو الغزلية أو الخمرية , بل قصيدته مقسمة بين الحب والصحراء فالمقدمة عنده جزء لا يتجزأ من التجربة الفنية فهناك وحدة نفسية وجدانية إذ يعبر من وصف الأطلال والصحراء إلى الحبيبة أو من الغزل بالحبيبة إلى وصف الصحراء مندمجا في التجربة معبرا عنها .

ذو الرمة كان صاحب مذهب فني فهو ينقح ويهذب ويقوّم قصائده لذا كان عماد صنعته الصورة الفنية الكلية , يتأنى في رسمها , ويحرص على إيراد تفاصيلها وجزئياتها مما يذكرنا بزهير في مقدمته الطللية لمعلقته . والألوان المركبة من أهم عناصر الصورة عنده .

كذلك من الملامح الفنية تحريك الطبيعة الصامتة والجامدة والقدرة على الربط بين الصور المتباعدة والتشبيه وخاصة التشبيه التمثيلي – والتشخيص والتجسيم ألوان بارزة في شعره . فالأصمعي يقول : ” كان ذو الرمة أشعر الناس إذا شبه ” ويقول ابن سلام : ” كان لذي الرمة حظ من حسن التشبيه لم يكن لأحد من الإسلاميين ” ويقول ابن قتيبة : ” ذو الرمة أحسن الناس تشبيهاً ” ويقول حماد الراوية : ” أحسن الجاهلية تشبيهاً امرؤ القيس وذو الرمة أحسن أهل الإسلام تشبيهاً ” كما نلاحظ الوحدة العاطفية عاطفة الحب التي تربط بين أجزاء القصيدة . وهو يجنح إلى الغرابة اللغوية والصورة الغريبة وهي غرابة جاءته من طبيعة موضوعه البدوي .

وهذه جملة أبيات أختارها لكم تتوافر فيها الملامح الفنية السابقة ويمكنك التطبيق والتذوق من خلالها , يقول :  عشية ما لي حيلة غير أنني *** بلقط الحصى والخط في الترب مولع

                    أخط وأمحو الخط ثم أعيده *** بكفي والغربان في الدار وقع .

ويقول :      ما بال عينيك منها الماء ينسكب *** كأنها من كلي مفرية سرب .

ويقول :       ذكرتك إذ خطرت أم شادن *** أمام المطايا تشرئب وتسنح

               هي الشبه أعطافاً وجيداً ومقلة *** وميّة أحلى منها وأملح .

ويقول :   ولما رأين الليل والشمس حية *** حياة الذي يقضي حشاشة نازع .

ويقول :  وردت وأرادف النجوم كأنها *** وراء السماكين المها واليعافر .

ويقول : ترى رعنه الأقصى كأن قموسه *** تحامل أحوى يتبع الخيل ظالع .

ويقول :   كأن مطايانا بكل مفازة *** قراقير في صحراء دجلة تسبح .

ويقول : ورمل عزيف الجن في عقداته *** هدوءاً كتضراب المغنين بالطبل .

ويقول :  له أزمل عند القذاف كأنه *** نحيب الثكالى تارة واعتوالها .

ويقول : وليل كجلباب العروس قطعته *** بأربعة والشخص في العين واحد .

ويقول : كأن حرباءها في كل هاجرة *** ذو شيبة من رجال الهند مصلوب .

س : دكتور محمد ذكرت أن الدارسين والمؤرخين بالغوا في تقسيم العصر العباسي إلى قسمين , وهو عصر ممتد طويل , وبالتالي فهناك ظواهر تجديدية صاحبت هذه الفترة الطويلة في كافة المجالات والمستويات , هلا حدثتنا عن ذلك .

ج : عزيزي يمكننا القول بأن العصر العباسي يعد انقلاباً ثورياً على العصرين السابقين في كافة المستويات , إذ انتقل المجتمع المثقف من مجتمع بداوة إلى مجتمع مدينة وتحضر , ومن مجتمع عربي إلى مجتمع إسلامي . وقبل هذا أحب أن أشير إلى أن سبب الاضطراب في تقسيم العصر العباسي يرجع إلى فكرة الربط بين التاريخ السياسي والتاريخ الأدبي , عموماً قد سبق الحديث عن هذا التقسيم . نعود إلى ثورة الانقلاب , كما تعلمون أن الأمويين ظلوا مشدودين إلى تقاليد العصور القديمة التي سبقته خاصة على المستويين الاجتماعي والوجداني يكيفون واقعهم النفسي في هذا الإطار ؛ لذلك لم يواجه الشعراء الأمويون أي أزمة مع أنفسهم إذ كان الطريق واضح المعالم أمامهم , فعبروا عن قيمهم بقيم العصر الجاهلي وزادوها رسوخاً , يقيسون هاماتهم بهامات الفحول فقد كان لكل شاعر أموي شاعر جاهلي يتخذه قدوة له يتمثله ويسير سيره فالفرزدق يسير سير امرئ القيس وجرير يسير سير النابغة والأخطل يقرنونه بالنابغة وذا الرمة بلبيد , وابن أحمر بزهير , وابن مقبل بطرفة والكميت بعمرو بن كلثوم . ولعل الذي ساعدهم غلبة الطابع العربي على الدولة الأموية سياسياً واجتماعيا وأدبياً , وبقاء كثير من آثار البداوة والقيم في نفوس الناس .

كما قلت لكم , كان العصر العباسي أخصب العصور إذ شهد تطوراً وتغييراً على كافة المستويات السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية انعكست جميعها على الحياة والنتاج , وأصبح الإنسان العباسي يواجه صراعاً صعباً بين التاريخ والواقع , فهل يتمسك بالتراث الماضي أم يتكيف مع الواقع الجديد ممثلاً في الحياة الجديدة المتحضرة ؟ يعبر عن تجاربه ويستجيب لذوق مجتمعه وثقافته , فقد نشأ بينه وبين الأشكال التقليدية أشكال من الصراع وكذلك الذوق , وألفينا الشعراء العباسيين قسمين :

شعراء وجدوا أنفسهم مشدودين إلى الماضي يعيشون تراثه ويحتذون حذو أسلافهم في القيم والتعبير , ومن أولئك : محمد بن مناذر ومروان بن أبي حفصة والأحيمر السعدي وابن ميادة ومحمد بن ذؤيب العماني والبهدلي وبكر النطاح وعبد الملك الحارثي والحكم الخضري وغيرهم ولكن هؤلاء غفلوا عن أمرين رئيسين : الأول أن أي تقليد لا يمكن أن تبلغ درجته درجة إتقان مستوى الأصل . والثاني : أنهم بهذا التقليد والتمسك بالقديم قد عزلوا أنفسهم عن عصرهم وذوقه . يؤكد ذلك قول الأصمعي : ” حضرنا مأدبة وأبو محرز الأحمر وابن مناذر معنا فقال ابن مناذر : يا أبا محرز إن يكن امرؤ القيس والنابغة وزهير ماتوا فهذه أشعارهم مخلدة فقس شعري إلى شعرهم , فأخذ خلف صفحة مملوءة مرقاً فرمى بها عليه ” وهذا إنكار منه أن يتطلع ابن مناذر إلى مسامته أولئك الفحول .

ودار حوار بين أبي العتاهية وابن مناذر فقال له أبو العتاهية : ” إن كنت أردت بشعرك العجاج ورؤبة فما صنعت شيئاً , وإن كنت أردت شعر أهل زمانك فما أخذت مآخذهم .. ..

وفي الموشح للمرزباني أن أبا حاتم السجستاني قال للأصمعي : أبشار أشعر أو مروان ؟ قال : بشار أشعرهما , قلت وكيف ذاك ؟ قال : لأن مروان سلك طريقاً كثر سلاكه فلم يلحق بمن تقدمه , وإن بشاراً سلك طريقاً لم يسلكه أحد فانفرد به وأحسن فيه , وهو أكثر فنون شعر , وأقوى على التصرف , وأغزر بديعاً – أي الجديد المخترع – ومروان آخذ بمسالك الأوائل .

والقسم الثاني : شعراء أخلصوا لتجارب عصرهم واستقوا معانيهم من واقعهم الحضاري , كبشار وأبي نواس وأبي العتاهية , وهم قادرون على النسج على المنوال القديم , فلم تكن المسألة مسألة ضعف وقوة , وإنما مسألة ذوق وتكيف وتجربة , اقرأ أرجوزة بشار , فقد روي أن بشار بن برد حضر مجلس عقبة بن سلم وحضر معه عقبة بن رؤبة بن العجاج وأنشد أرجوزة يمدح فيها عقبة فاستحسنها بشار , فلما فرغ قال له : يا أبا معاذ هذا طراز لا تحسنه أنت ولا نظراؤك فغضب وقال إليّ تقول هذا , والله إني لأرجز منك ومن أبيك ومن جدك , ثم غدا على عقبة وأنشده :

                 يا طلل الحي بذات الصمد *** بالله خبر كيف كنت بعدي

فأعجب به عقبة , وقال لابن رؤبة والله ما قلت أنت ولا أبوك ولا جدك مثل هذا , ووصل بشاراً وأجزل له العطية . واقرأ قوله :

         كأن مثار النقع فوق رؤوسنا *** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه .

وقوله : إذا ما غضبنا غضبة مضرية *** هتكنا حجاب الشمس أو مطرت دما .

س : دكتور محمد , هل المحافظة على القديم من قبيل التعصب له , ورفض لهذا التجديد ؟

ج : لا أظن ذلك , بل كان الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء وابن الأعرابي يتذوقون شعر المعاصرين , ويثنون على المحدثين , فهم لا ينظرون إلى الجمال بقدر ما يهمهم اللغة والمحافظة على التراث , ولحاجتهم إلى الشاهد وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون والذي دعاهم إلى هذا التمسك هو المحافظة على لغة القرآن الكريم وفهمها وتذوقها والاستشهاد بها لأنها هي المفسرة لهذا الكتاب , وأيضاً المحافظة على لغة الحديث الشريف , وخشيتهم على اللغة من ظاهرة اللحن إذ أصبحت بغداد قبلة للفرس والروم والهنود فلا بد من المحافظة على لغة القديم . وإلا فإن موقفهم من المحدث واضح يقول ابن قتيبة : ” كان أبو عمرو يقول : لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته ” والمحدث في قوله هذا : ” شعر الفرزدق وجرير والأخطل ” .

ويقول : ” لو أدرك الأخطل يوماً واحداً من الجاهلية ما قدمت عليه أحداً ” .

ويقول المبرد : ” ما رأيت أشعر من هذا الرجل – يعني البحتري – لولا أنه ينشدني كما أنشدكم لملئت كتبي وأمالي من شعره ” يعني أنه معاصر وهم لا يكتبون له .

ويروى عن الطوسي أنه قال : وجّه أبي بي إلى ابن الأعرابي لأقرأ عليه أشعاراً ثم قرأت أرجوزة أبي تمام مع شعر هذيل فأعجب بها , وقال اكتب فما سمعت أحسن منها , فقلت : إنها لأبي تمام . فقال : خرق خرق .

س : بالتأكيد أن هناك مظاهر تجديدية طرأت على الأشكال التقليدية والفنية .

ج : نعم . نتيجة لتطور الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية ظهرت مظاهر التجديد في أغراض الشعر كافة المديح والهجاء والرثاء والوصف والغزل والفخر والطرد وظهرت الخمريات والمجون والزهد والزندقة . وظهر أيضا الشعر التعليمي وشعر الفكاهة والشكوى من المرض ومن الزمن وشعر المجالات الاجتماعية والمناسبات السعيدة .

أما المظاهر الفنية فوجدنا الأوزان الخفيفة والتجديد في نظام القافية حيث استحدثوا المزدوج والمسمطات والمخمسات , وظهرت الموشحات , ونظموا على البحر المجتث والمضارع والمقتضب والمتدارك , واستخدموا الدوائر العروضية , واستغلوا الأوزان الشعبية كالمواليا . وأسرفوا في استعمال الصنعة الشعرية اللفظية والمعنوية .

أما أبرز مظاهر التجديد فهو يتمثل في رفض بعض الشعراء الالتزام بالمقدمة الطللية لأنها لا تمت إلى حياته في المدينة بأية صلة , وليست هناك عاطفة تربطه بماضيه يقول أبو نواس :

               مالي بدار خلت من أهلها شغل *** ولا شجاني لها شخص ولا طلل

             لا الحزن مني برأس العين أعرفه *** وليس يعرفني سهل ولا جبل

              لا أنعت الروض إلا ما رأيت به *** قصراً منيفاً عليه النخل مشتمل .

ويقول أيضاً :  قل لمن يبكي على رسم درس *** واقفاً ما ضرّ لو كان جلس .

ويقول بشار : كيف يبكي لمحبس في طلول *** من سيبكي لحبس يوم طويل .

ويقول مطيع بن إياس : لأحسن من بيد يحار بها الفتى *** ومن جبلي طيّ ووصفكما سلعا

                            تلاحظ عيني عاشقين كلاهما *** له مقلة في وجه صاحبه ترعى

هذا وقد استعاضوا عن هذه المقدمة الطللية بمقدمة خمرية وغزلية بالمذكر , يقول أبو نواس :                 صفة الطلول بلاغة الفدم *** فاجعل صفاتك لابنة الكرم .

ويقول أيضاً :       أحسن من منزل بذي قار *** منزل خمارة بالأنبار

 

                        شم ريحانة ونرجسة *** أحسن من أينق بأكوار .

س : هناك خصومة محتدمة ظهرت في العصر العباسي بين أبي تمام والبحتري , فما سببها ؟

ج : الخصومة احتدمت بعد وفاتهما وكانت بين أنصارهما في القرن الثالث والرابع , والخصومة لم تحتدم إلا حول مذهب أبي تمام البديعي , لأن هناك مذهبين متقابلين : الأول مذهب المطبوعين الذين لا يتكلفون الشعر بل يرسلونه على سجيتهم ويمثلهم البحتري الذي يؤثر صحة التأليف وسلامة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق وحسن التخلص وانكشاف المعاني . يقول الحاتمي : كان لا يستدعي من الكلام نافرا , ولا يؤنس وحشيا , وكانت ألفاظه فوق معانيه , وأعجازه غير منفكة عن هواديه ” ولذلك قال الناس : لشعره ديباجة .

وقد صرح الآمدي صاحب الموازنة بين الطائيين أن البحتري كان أعرابي الشعر مطبوع وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر وطريقته المعهودة مع ما نجده كثيراً في شعره من الاستعارة والتجنيس والمطابقة . وشايعه الأعراب والكتاب وأهل البلاغة كالأصمعي وأبي العلاء وابن الأعرابي والشيباني والمبرد . وكان لا ينساق وراء البديع انسياق أبي تمام إلى حد التكلف , بل يأخذ منه في رفق وهوادة ومهارة , وفي يسر وسهولة بلا عنت ولا مشقة فطرية سمحة , يقف عند ظاهر هذا العمل فينقل الشكل , وقلما نفذ إلى الباطن , وما يتغلغل فيه من تفكير بعيد كما كان أبو تمام يصنع .

وامتاز البحتري بظاهرة استغلال الإيقاع الموسيقي للألفاظ , واقرأ إن شئت سينيته في وصف الإيوان . وكانت ثقافته الفلسفية ضعيفة فلم يتح له ما أتيح لأستاذه من الاطلاع على الفيض الغزير من الثقافات التي اطلع عليها أبو تمام , وبذلك لم يستطع أن يصل إلى المستوى الرائع الراقي العقلي الذي وصل إليه أبو تمام , ولذلك فهو لا يخضع شعره للمنطق , ومن هنا أخذ عليه أنه لا يحسن التخلص من موضوع إلى موضوع . يقول :

             كلفتمونا حدود منطقكم *** والشعر يغني صدقه عن كذبه .

          ولم يكن ذو القروح يلهج *** بالمنطق ما نوعه وما سببه .

         والشعر لمح تكفي إشارته *** وليس بالهذر طولت خطبه .

يقول ابن الأثير عن ألفاظه : ” نساء حسان عليهن غلائل مصبغات , وقد تحلين بأصناف الحلي ” وسئل أبو العلاء : أي الثلاثة أشعر أبو تمام أم البحتري أم المتنبي ؟ فقال : المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري . وقد برع في الوصف . وتجدر الإشارة إلى أن البحتري كان يتشبه بأبي تمام في شعره ويحذو مذهبه , وقلّ معنى لأبي تمام لم يعمل البحتري في نحوه كما ذكر ذلك ابن المعتز .

والمذهب الثاني مذهب المتكلفين الذين يبعدون في المعنى ويغمضون فيه , ويميلون نحو الصنعة والفلسفة والخروج عن عمود الشعر والتجديد في الصياغة واتخاذ البديع مذهبا ويمثلهم أبو تمام . يقول الآمدي عن أبي تمام : ” أما أبو تمام فقد خرج عليه – يقصد عمود الشعر – ويقول البحتري عن أستاذه أبي تمام : ” كان أغوص على المعاني مني وأنا أقومُ بعمود الشعر منه ” .

أبو تمام أكبر شاعر عربي أنجب في البشرية من الرأس إلى القدم , وأكبر شاعر تغنى بأعمال المعتصم , والدارس لأبي تمام يجد أن شعره زاخر بجميع معارف عصره كالتاريخ والفلسفة والمنطق وعلم الكلام , فضلاً على اطلاعه الواسع على التراث العربي القديم اطلاعا لا نظير له , وأن أبا تمام كان ذا ثقافة واسعة وعميقة , يشهد له بذلك حفظه أربعة عشر ألف أرجوزة غير المقاطع والقصائد , كما تشهد له اختياراته وحماسته , قال عنه البحتري : أبو تمام عالم غلب عليه الشعر . وأنه كان أيضاً ذا ذكاء متقد فقد مدح المعتصم بقوله :

           إقدام عمرو في سماحة حاتم *** في حلم أحنف في ذكاء إياس .

فقال الفيلسوف الكندي : ما زدت على أن شبهت الأمير بصعاليك العرب , الأمير فوق ما وصفت , فأطرق قليلاً ثم رفع فانشد :

              لا تنكروا ضربي له من دونه *** مثلاً شروداً في الندى والبأس

               فالله قد ضرب الأقل لنوره *** مثلاً من المشكاة والنراس .

وأنشد قصيدته المشهورة في قصر عبد الله بن طاهر في خراسان :

         هن عوادي يوسف وصواحبه *** فعزماً فقدماً أدرك النجح طالبه

فقال له أبو العميثل : لم لا تقول ما يفهم ؟ فقال : ولم لا تفهم ما يقال .

ولقد انتهى مذهب التصنيع عنده إلى غايته , وتفوق على أستاذه مسلم بن الوليد . والناظر في شعره يجد فيه غرابة وغموضا فنيا , وإشارات تاريخية وفلسفية , وغوصاً وراء معانيه الجديدة والمبتكرة , أو معانيه القديمة المكسوة حلة جديدة من أصباغ البديع وألوانه .

وقد برع في الرثاء , كما أنه يكثر من استخدام الأدلة المنطقية والأضداد المتنافرة يقول :  

             خذها مغربة في الأرض آنسة *** بكل فهم غريب حين تغترب .

ويقول :   كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر *** فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

         تردى ثياب الموت حمراً فما دجى *** لها الليل إلا وهي من سندس خضر

       مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة *** غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر .

ويقول :  لا تنكري عطل الكريم من الغنى *** فالسيل حرب للمكان العالي .

ويقول :  فإني رأيت الشمس زيدت محبة *** إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد .

 

ويقول :  اصبر على مضض الحسود *** فإن صبرك قاتله

            النار تأكل نفسها *** إن لم تجد ما تأكله .

ويقول : وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت أتاح لها لسان حسود

       لولا اشتعال النار فيما جاورت *** ما كان يعرف طيب عرف العود .

ويقول :  مطر يذوب الصحو منه وبعده *** صحو يكاد من النضارة يمطر .

ويقول : ضوء من النار والظلماء عاكفة *** وظلمة من دخان في ضحى شحب .

ويقول :  دمن ألم بها فقال سلام *** كم حلّ عقدة صبره الإلمام .

يقول الآمدي عن هذا البيت : ” أبو تمام عندي في قوله هذا أشعر من البحتري في سائر أبياته ” وله معنى جديد مبتكر , يقول في مدح المعتصم :

     هو البحر من أي النواحي أتيته *** فلجته المعروف والجود ساحله

        تعوّد بسط الكف حتى لو أنه *** ثناها لقبض لم تجبه أنامله

      ولو لم يكن في كفه غير روحه *** لجاد بها فليتق الله سائله .

س : ظهر تياران متناقضان في العصر العباسي هما : تيار المجون وتيار الزهد , فما العوامل التي أدت إلى ظهورهما ؟

ج : المجون والزهد وجهان لعملة واحدة , ولا شك أن هناك عوامل أدت إلى ظهور كل منهما يرد يوسف خليف عوامل نزعة المجون إلى اضطراب الحياة السياسية حيث فقد بعض الشباب الثقة في الحياة والحكام فاندفعوا خلف المتع يعبون من كؤوسها حتى الثمالة قبل أن تنضب وتجف . كما أن تطور الحياة الاجتماعية ووجود الطبقات المتحضرة والمترفة والأموال المتدفقة على العراق وارتفاع مستوى المعيشة كانت من أبرز عوامل نزعة المجون .

وكان لانتشار العنصر الأجنبي الفارسي أثر في صبغ المجتمع الإسلامي بالعادات والتقاليد الفارسية مثل : الأزياء والأعياد والاحتفالات والأطعمة والأشربة وغير ذلك . وأدى انتشار الجواري الأجنبيات وامتلاء قصور بغداد إلى ظهور الغناء والخمر والرقص والغواية والقيان والإماء الشواعر ومعابثة الرجال والشذوذ والتغزل بالغلمان والغلاميات . بل وكانت الحانات منتشرة كانتشار الأديرة المسيحية في العراق كل هذا كان عاملاً لظهور هذه النزعة .

وجاء الزهد رداً فعلياً لهذه النزعة رغبة من الإنسان في التغيير والتقشف وترك الملذات والانتباه إلى عالم الروح وهذا أمر طبيعي فكما كانت حانات بغداد والبصرة والكوفة وبيوت القيان تغص بالمجان والخلعاء والشذاذ كانت هذه المدن تغص بالوعظ والعباد والنساك .

والزهد لم يكن لوناً واحداً ولا صورة واحدة , إنما كان على صورتين : زهد إسلامي خالص يستمد مادته من القرآن والسنة ويذكر بالحساب والعقاب والجنة والنار. وزهد مانوي دعت إليه جماعات من الزنادقة يستقي مادته من الزرادشتية والنصرانية والبوذية , ومن أشهر شعرائه صالح بن عبد القدوس .

س : عرف عن عدد من الشعراء في العصر العباسي ما يعرف بشعر المجون والخمريات ثم نقرأ لهم شعراً آخر في الزهد والوعظ , فبم تفسر ذلك ؟ وما موقف الباحثين من أبي العتاهية وزهد أبي نواس ؟

ج : أفسر ذلك بان العصر العباسي قد استوعب هذه التيارات المجون والزندقة والشعوبية والزهد وأفسح المجال لها . ولولا هذا التيار ما ظهر التيار المناقض له , بمعنى لولا مجون أبي نواس وخلاعته ما ظهر زهد أبي العتاهية , ثم إن الزهد تيار يقابل المجون ولا يقابل الزندقة بدليل الزهد المانوي الذي نجده عند صالح بن عبد القدوس .

أما شطر السؤال فقد وقف الباحثون من زهد أبي العتاهية مواقف متباينة فيرى طه حسين أن أبا العتاهية كان منافقاً في زهده ولم يكن مخلصاً له , وأنه كان يظهر خلاف ما يبطن . وذهب شوقي ضيف إلى أن زهده كان مانوياً إسلامياً . ويقول يوسف خليف كان زهده إسلامياً خالصاً وصادقاً فيه , ويعده عز الدين إسماعيل داعية إلى الزهد أكثر منه زاهداً ؛ لأن أبا العتاهية كان لا يمدح إلا من أجل الحصول على المال ولأن سلوك أبي العتاهية الشخصي لم يكن ترجمة توافق أقواله مع أفعاله .

وعلى الرغم من أن ديوان أبي نواس يتضمن باباً في الزهد فإننا نميل إلى التحفظ إزاء معظم الشعر الذي أورده الرواة له في هذا الباب , فلم يكن مصادفة أن ينسب بعض هذا الشعر مرة إلى أبي نواس ومرة إلى أبي العتاهية لألفة النغم بينهما أو طابع الأداء الشعري أو العفوية والانسياب في اللغة أو الاعتماد على المعجم القرآني في صياغة هذه المعاني , ففي هذه الشواهد نحس بشاعر يمارس تجربة حقيقية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بواقعه النفسي وبأزمته الخاصة , ومن العسير أن نسمي هذا زهداً بل هو ضرب من يقظة الضمير لدى الإنسان بعد أن يكون قد استنفذ ملذات الحياة وإحساس في التوبة والعفو والغفران .

س : دكتور محمد هناك من يصم أدب الدول المتتابعة بعصور الانحطاط والضعف , فما قولك في هذه التسمية ؟

ج : من يقرأ تاريخ هذه الدول ناهيك عن أدبها يجد أن المسلمين قد وقفوا أمام أطماع وأحقاد وأهداف الغزاة التتريين والمغوليين والصليبين ثمانية قرون في وقت كان العدو الداخلي الشيعي ينخر في عظم الأمة وينفث سمومه في جسم الأمة المسلمة , إلا أن المسلمين وقفوا وقفة جادة ومتحدة في جبهة واحدة ضد الأعداء وضد ما سعوا إليه , وكان للتضحيات الجسيمة والجهود المتواصلة التي بذلها المسلمون قادة وشعوباً الدور الرئيس في القضاء على الأعداء .

وقد شارك في تلك الجهود المجاهد بسلاحه , والعالم بفقهه , والكاتب بقلمه , والشاعر بلسانه .. ولعبت الكلمة دوراً هاماً في كل حرب من حروب التحرير والمقاومة ضد العدوان . وقدم شعر الحرب في مواجهة الأعداء صفحات مشرقة من دور الكلمة في التحريض على القتال إذ كانت الكلمات سيوفاً مشهرة ورماحاً مشرعة في وجه الأعداء الطامعين بالإضافة إلى أنها صاغت وجدانات المقاتلين الذين حملوا السيوف ورفعوا الرماح فدفعت بهم إلى الموت أو النصر في المعارك التي خاضوها .

حقا لقد أدت الكلمة دورها في عصر الحروب الصليبية , شهد بذلك رجل كان يقف على رأس أكبر قوة إسلامية مقاتلة في ذلك العصر , ألا وهو صلاح الدين الأيوبي حيث قال لفرسانه غداة فتح القدس : ” لا تظنوا أنني فتحت البلاد بسيوفكم , بل بقلم القاضي الفاضل ” إن القاضي الفاضل لم يحمل سيفاً ولا رمحاً في تلك الحروب , ولم يوتر قوساً أو يطلق سهماً فيها , بل شرع قلمه وعبأ شعره بشحنات هائلة من الكراهية والحقد على العدو المغتصب , وقاتل بخطبه ورسائله .

أعود إلى سؤالك , نعم لقد أطلق الجائرون المتحاملون على هذا الأدب أدب الضعف والانحطاط , وهو كلام يلقى على عواهنه دون محض , إذ ذهب أحمد الجندي وعبد العزيز الأهواني وزكي المحاسني وغيرهم إلى أن شعر هذا العصر كان سطحياً يكرر نفسه في أفكاره وتعبيراته وصناعته فقيراً في صوره وأخيلته ولمحاته الفنية الأخاذة بحيث لا تجد أمامك شيئاً جديداً .

وفي موضع آخر يصف الجندي شعر هذا العصر بالانحطاط ويحدد بداية ذلك الانحطاط بأوائل القرن الخامس للهجرة , ثم يرده إلى سببين أولهما : ولع الشعراء بالمحسنات اللفظية التي تحمل في طياتها المبالغة المستكرهة , والتكلف المستهجن , والصنعة الثقيلة التي تحول دون التعبير الشعري الصادق المحبب . وثانيهما : أن الملوك والممدوحين من الرؤساء كان أكثرهم من أصل غير عربي بل وربما كان الكثيرون منهم لا يجيدون فهم اللغة العربية فهماً فنياً صحيحاً بحيث كان الشعراء يضطرون إلى تبسيط أشعارهم والتلاعب بألفاظهم لتعجب أولئك الممدوحين الذين أولعوا بالبساطة اللفظية والمعاني السطحية التي قد تصل إلى حد التفاهة , وبالتلاعب بالمحسنات البديعية .

أما وصف شعر هذا العصر بالانحطاط ففي أغلب الظن أنه راجع إلى أوائل العصر الحديث , ويرجح عمر موسى أن جرجي زيدان أول من أطلق لفظ الانحطاط على عصور الدول المتتابعة مستفيداً من المصطلح الأجنبي ( decadence ) وهو مرحلة تعقد فيها الفن ومال إلى التأنق الزائد في الصور والألوان والأشكال والزخارف . وإن من الخطأ البيّن استخدام هذا المصطلح الأجنبي المعرب لأنه لا يفي بالغرض المطلوب , ولا يجوز لنا إطلاقاً استعماله ما دمنا لم نقم بدراسة آثار هذا العصر , فما زالت محفوظة في خزائن دور الكتب في الشرق والغرب , لم تنفض عنها غبار الزمن المتراكم عبر تطاول السنين وكر الأعوام .

وأما أن شعر هذا العصر سطحي يكرر نفسه فإننا نحيل الجندي ومن لف لفه إلى كتاب واحد من الكتب التي حوت قدراً كثيراً من شعر العصر هو كتاب الروضتين , ذلك الشعر المرتبط بأحداث جسام خطيرة مرت بها الأمة الإسلامية , فكيف ينفي العمق والأصالة عن شعر صوّر أحداثاً كبرى بما احتوت من صراع عبر قرون متطاولة من الزمان بين أمتين وحضارتين ..

وأما التكرار الذي أشار إليه الجندي فهو ظاهرة لا بد من وجودها على درجة من الدرجات في شعر قيل في فترة واحدة , وعالج قضية واحدة , وعاش في ظل مؤثرات كبيرة واحدة , ومع ذلك فإنه يصعب إطلاق هذا الحكم دونما تحفظ على جميع الشعر الذي نظم في هذه الفترة ؛ لأن التنوع والفردية فيه ظاهران , مثلما أن قدراً من التماثل والتشابه موجود كذلك .

ثم إن تحديد بداية ذلك الانحطاط المزعوم بالقرن الخامس الهجري وهو القرن الذي انطلقت فيه الشرارة التي أشعلت نار الحروب الصليبية هو تحديد فيه ربط بين الأدب وبين النواحي السياسية في المشرق الإسلامي , ومعلوم أن التحولات السياسية والمادية تسبق التحولات الفكرية بمراحل , ولا يوجد دائماً ارتباط بين الضعف السياسي وضعف الأدب , وإذا وجد شيء من هذا الارتباط فإنه لا يمكن أن يظهر في النصوص الشعرية بين يوم وليلة ؛ لأن الظواهر الأدبية لا تولد مباشرة بل تحتاج إلى زمن كاف كي تولد وتتبلور .

وتحليل الضعف الأدبي بوجود البديع في شعر هذا العصر ونثره لا يقوم على استقراء دقيق لهذه الظاهرة في أدبنا العربي , إذن ظاهرة البديع لم تكن طارئة في القرن الخامس الهجري لأنها قد برزت في الشعر والنثر قبل القرن الخامس الهجري وفي أقدس كتابين , وعاشت في أدبنا حتى قدر لها الذيوع والانتشار بشكل واضح ولافت للأنظار خلال القرن الرابع الهجري .

وأما الحديث عن أعجمية الممدوحين فيمكن الرد عليه بأن العبرة في هذا الأمر ليست بالعرق أو الجنس , بل بفهم اللغة وتذوق الأدب . والدليل على ذلك أن عدداً غير قليل من أعلام الشعر والنثر في أدبنا العربي لم ينحدروا من الجنس العربي ولكن تمكنهم من اللغة العربية وشغفهم بالأدب العربي وتذوقهم له جعل منهم رواداً بارزين في أدبنا العربي , بل دعائم قامت عليها نهضة أدبية زاهرة . ثم إن الحكم على شعراء الحروب الصليبية بأنهم كانوا في دور ضعف وانخذال في اللفظ والأسلوب حكم جائر ومجاف للحقيقة التي يعلنها صراحة هذا القدر الكبير من الشعر الحربي الجزل الأسلوب الذي ما زال يملأ النفس حماسة واشتعالاً كلما قرئ حتى يومنا هذا . والركاكة لا تتناسب مع الموضوعات الحربية التي طرحها هذا الشعر , تلك الموضوعات التي تتطلب قدراً كافياً من الجزالة في اللفظ والمتانة في السبك , والقوة في التعبير .

وأما المنصفون فقد وصفوه بأنه العصر الفضي للأدب , وأنه يتميز بالإبداع والعبقرية والقوة والصدق العاطفي والبراعة في الصنعة والمهارة الفنية مثل : المستشرق جب , وعبد الطيف حمزة ومحمود أبو الخير وجودت الركابي وشوقي ضيف وأحمد بدوي .

ومن روائع القصائد : قصيدة الشمعة للقاضي الأرجاني :

             نمت بأسرار ليل كان يخفيها *** وأطلعت قلبها للناس من فيها .

وقصيدة البردة للبوصيري يقول :

           أمن تذكر جيران بذي سلم *** مزجت دمعا جرى من مقلة بدم .

وقصيدة البهاء زهير يقول :

         بك اهتز عطف الدين في حلل النصر *** وردت على أعقابها ملة الكفر

          كفى الله دمياط الحوادث إنها *** لمن قبلة الإسلام في موضع النحر

وقصيدة غوطة دمشق لابن عنين .

س : إذا نستطيع القول أن الحروب كان لها أثر كبير في موضوعات ومظاهر الأدب في تلك الفترة .

ج : بالضبط فقد تلونت موضوعات الأدب بين حزن وفرح وحسرة وبهجة وبين تمجيد للأبطال وحث على النزال وصورها الأدب وأبقاها خالدة على مر العصور , ومنها : الحث والتحريض والاستنجاد وتمجيد البطولة وتسجيل المعارك ومدح الملوك والأمراء والولاة والقادة وتمجيدهم ورثائهم , وهجاء المتخاذلين من الحكام وذم الخونة , والحماسة والفخر , وتصوير الفرنجة , والمدائح النبوية , ووصف الجيوش وأدوات الحرب كالسيوف والرماح والقسي والسهام والمجانيق والرايات والابتهالات والنشيد وتسجيل المعارك الكبرى والتهنئة بالنصر , وتسجيل المشاعر .

س : دكتور محمد أحب أن أسالك عن السمات والظواهر العامة والأشكال المستحدثة في الشعر المملوكي , وباختصار لو سمحت .

ج : قامت الدولة المملوكية من سنة ( 648 إلى 923 ) وهم سنيون حريصون على الدين الإسلامي وإقامة شعائره , ومن أشهر سلاطينه قلاوون وبيبرس وقطز قائد معركة عين جالوت . ومن الظواهر التي نرصدها في دراسة العصر المملوكي حبهم للشعر والاحتفاظ بمكانته ورعايته وتدوينه وتذاكره وكثرة عدد الشعراء بحيث يعسر على الباحثين حصرهم , بالإضافة إلى تفرغ الشعراء لنتاجهم الفني . كما نرصد السطحية والسهولة والركاكة . وظلت فنون الشعر التقليدية موجودة ويعد فن المديح أكبر وأهم الأغراض ولم يطرأ عليه جديد , والظاهرة البارزة في شعر الرثاء البكاء على الدول البائدة والمدن الزائلة , وتميز بصدق العاطفة والبعد عن التكلف . وظل الهجاء إرثاً توارثه الشعراء وسار في أنواعه مسير العباسيين ومال إلى الشعبية والهزل والضحك والتندر . ولم يتركوا شيئاً إلا وصفوه وافتنوا في وصفه فوصفوا المرأة والطبيعة والشمعة والغوطة والخمر والشراب والأسواق والضيوف والثقلاء ..

أما الأشكال الشعرية المستحدثة فوجدنا التاريخ الشعري – أو حساب الجمل , والألغاز والأحاجي والتشجير والطرد والعكس والشعر الهندسي وذوات القوافي وألوانا من البديع مثل القصيدة المهملة والقصيدة المعجمة والجناس والنثر شعر والتطريز . واستحدثوا معاني شعرية مثل الشعر الصوفي والمدائح النبوية والحشيشة وشعر الفكاهة والإخوانيات .

س : كثر الجدل حول الأدب الإسلامي وحقيقته ودوره , ولا جدال أن هذا الأدب أصبح أمراً واقعاً في حياتنا , وضرورة لا غنى لنا عنها ؛ دكتور محمد سلط الأضواء على هذا الموضوع

ج : أقرأ في سؤالك مفردتين الأدب والإسلامي , فالأدب هو الجمال والإبداع وبه يتميز ما هو أدب من غيره من ضروب القول الأخرى . وهو حق مشاع ومشروع بين أصحاب الاتجاهات الأدبية جميعها مهما كانت مشاربهم الفكرية والعقدية .

وكون الأدب إسلامياً أن يجمع إلى الإبداع والجمال الرؤية الفكرية المنطلقة من عقيدة الإسلام , وأن تكون العقيدة هي التربة التي تنمو فيها التجربة الشعورية , ويحدد عبد الرحمن رأفت الباشا تعريفاً له فيقول : الأدب الإسلامي وهو التعبير الفعلي الهادف عن واقع الحياة والكون والإنسان على وجدان الأديب تعبيراً ينبع من التصور الإسلامي للخالق ومخلوقاته ولا يجافي القيم الإسلامية .

والأديب المسلم وغيره له رسالة يؤديها لمجتمعه كما كان أسلافه يفعلون فهو بمثابة المصلح الاجتماعي يعالج أحوال الماضي لغرض الاستفادة منها , ويعالج أحوال الحاضر لإصلاح ما فسد منها , ويعمل على رسم المنهج السوي مستقبلاً ليكون أسعد وأفضل .

ووضع دارسو الأدب الإسلامي محددات وضوابط بين القائل ونتاجه , ولكي يكون الأدب إسلامياً لا بد له أن يتفق والتصور الإسلامي , إذاً فهناك خصوص وعموم , فالأدب الإسلامي بمفهومه الخاص أن ينطلق الأديب من تصور إسلامي للخالق ثم للكون وللحياة والإنسان مع توافر الخيال .

والأدب الإسلامي بمفهومه العام أن يبدع الأديب أدباً مباحاً لا يتصادم مع الإسلام وإن لم ينطلق من ذلك التصور . وأما النتاج فإما أن يكون نتاجاً غير إسلامي ويندرج تحته نتاجان :

إما أن يكون النتاج صدر من غير المسلمين , وإما أن يكون صدر من مسلم ولكن نتاجه يتصادم مع ثوابت الأمة وتعاليم الإسلام . وإما أن يكون النتاج غير إسلامي ولكنه يتوافق مع الإسلام ومع الفطرة السوية ولكن المبدع ليس من المسلمين فليس هذا بأدب إسلامي .

وطرق الأدب الإسلامي كافة الموضوعات الشعرية عبر مجالاته الثلاثة الكون والإنسان والحياة , ملتزماً بسماته وخصائصه البارزة مثل : الالتزام العقدي والخلقي والهدف والغاية والشمول والتكامل والصدق والواقعية والحيوية المتطورة .

س : دكتور محمد هل نحن اليوم بحاجة ماسة لهذا الأدب الإسلامي ؟

ج : الإجابة عن هذا السؤال ذكرها مفصلة الدكتور وليد قصاب في كتابه في الأدب الإسلامي , نذكرها هنا بإيجاز : الحاجة الأولى : الخروج من حالة انعدام الوزن التي يعيشها الأدب العربي الحديث , وتقهقر الذات , وضياع الهوية , وفقدان الوجود , وغيبة التصور . والثانية : تصحيح مسار الأدب , ورده إلى جادة الصواب , واستنقاضه من وهدة الضياع التي يحدر فيها . والثالثة : تحرير الأدب العربي من قبضة العبودية للآخر ومفاهيمه وذوقه ومدارسه المتناقضة . والرابعة : رد الأدب إلى دوره الإيجابي الفاعل في الحياة ليصبح أداة لإسعاد الإنسان وبنائه بناء سليما وتثبيت الطمأنينة والأمان في قلبه . والخامسة : ربط الإنسان بخالقه , وتذكيره برسالته في الأرض . والسادسة : ربط حاضر أمتنا في أدبها بماضيه , وإقامة جسر من التواصل والحوار بين التراث والمعاصرة . والسابعة : تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة في الأدب والنقد مما أشاعته المدارس الغربية , والاحتكام إلى ذوق الآخرين في الاستحسان والاستقباح . والثامنة : الاتجاه نحو العالمية ؛ إذ أن من ينشد عالمية الأدب من المسلمين لا تتحقق لهم إلا بالأدب الإسلامي لأمرين : الأول أن عالمية أي أدب لا تتحقق إلا من خلال محليته , والدب الإسلامي هو دعوة إلى الخصوصية والتميز وتحقيق الفرادة والأصالة , لأن العالمية لا تتحقق بالتقليد . والثاني : الأدب الإسلامي مهيأ لتحقيق تلك العالمية بسبب عموميته النابعة من عمومية العقيدة التي ينطلق منها , وإنسانية خطابه الذي يتوجه به إلى الناس كافة في كل زمان ومكان . والتاسعة : زرع بذرة من بذور توحيد المسلمين وتمتين رابطة العقيدة بينهم وذلك عن طريق تحقيق الوحدة الأدبية التي سيكون لها أثر فعال في توحيد الرؤى والمشاعر والتعبير عن الآلام والآمال المشتركة . والعاشرة : أن الأدب الإسلامي يتكامل له جانبا التطبيق والتنظير فيكون عوناً للأدباء على الابتكار والإبداع .

س : هناك أدب جديد يدرس في جامعاتنا , ألا وهو الأدب المقارن , فما المقصود به , وما شروطه وعوامله ؟ واذكر لنا نموذجاً من نماذجه .

ج : هو علم مستقل عرف في نهاية القرن 19وبداية القرن 20, واستقل عن تاريخ الأدب والنقد الحديث , وأول من استخدم هذا اللفظ فيلمان في جامعة السوربون بفرنسا سنة 1827م , ومرّ بثلاث مراحل : الأولى 156ق- م محاكاة اللاتين – الرومان لليونان – الإغريق . والمرحلة الثانية المحاكاة في العصور الوسطى , والمرحلة الثالثة عصر النهضة في القرنيين 15- 16. وساعد على ازدهار الأدب المقارن في هذه المرحلة الرومانسية والثورة على الكلاسيكية والنهضة العلمية .

والأدب المقارن بفتح الراء وكسرها يؤثر ويتأثر فهو مؤثر ومتأثر , ويعرفونه بأنه دراسة الأدب القومي – كالعرب أو الفرس أو الروم – في علاقاته التاريخية بغيره من الآداب الخارجة عن نطاق اللغة التي كتب بها هذا الأدب . إذا هناك شرطان اللغة والعلاقات التاريخية ونقصد بها ( التأثر والتأثير ) فمثلاً : رودكي أول شاعر فارسي له ديوان عند الفرس تأثر بالقرآن والحديث والشعر وخاصة بخمريات أبي نواس , وهنا يمكننا عقد دراسة مقارنة بين الشاعرين لوجود العلاقة التاريخية .

أما ملتون الفيلسوف فقد كان أعمى ومتشائما تحدث عن الجزيرة العربية والأتراك والعثمانيين , ولكنه لا يعلم شيئاً عن المعري لذا لا يمكننا عقد مقارنة أدبية بينهما لعدم وجود العلاقة التاريخية . وتأثر دانتي الإيطالي بالمصادر الإسلامية فنظم قصيدته ( الكوميديا الإلهية ) باللغة الإيطالية تحدث فيها عن رحلة قام بها إلى السماء فراراً من أهل الأرض , وعند دراسة العلاقات التاريخية يتضح أن دانتي اطلع على ترجمة باللغة الإيطالية لرسالة الغفران الخاصة بالمعري , ومن ثم تدخل هذه الدراسة في مجال الأدب المقارن . وألف الآمدي كتاباً في الموازنة بين الطائيين فهذا لا يمكن أن يدخل في دراسة الأدب المقارن لاتفاق اللغة , ومثله كتاب حافظ وشوقي لطه حسين . لكن عندما يتأثر شاعر فارسي – اطلع على الثقافة العربية – وهو نظامي الكنجوي بقصة المجنون وليلى في الأدب العربي فيجوز أن نعقد مقارنة بينهما , وكذا عندما يمتد التأثير والتأثر إلى التركية ويتأثر شاعر تركي وهو فضولي بالمنظومة الفارسية فيجوز لنا أيضاً أن نعقد مقارنة بينهما لاختلاف اللغة وعندما يتأثر الأديب الفارسي حُميدي بمقامات البديع والحريري فيجوز أن نعقد مقارنة بينهما لاختلاف اللغة .

وللباحث في مجال الأدب المقارن عدة أولها أن يكون على علم بالعلاقات التاريخية , وأن يكون على علم بأكثر من لغة وأكثر من لهجة , وأن يكون على علم بتاريخ الأدب فهناك كتاب هندي فارسي عربي يسمى ( كليلة ودمنة ) يتناول الحكاية على ألسنة الحيوانات , ومن خلال تاريخ الأدب يتضح للدارس أن هذا الكتاب يحمل غرضاً سياسياً وهو تنبيه الشعوب الغارقة من خطر الاستعمار . ويجب أن يكون الباحث على علم بالمصادر والمراجع , وهناك مجموعة من ذوي اللسانيين منهم الطبري وابن قتيبة وابن المقفع وأبي حمزة الأصفهاني والغزالي صاحب الإحياء الذين قاموا بإثراء الثقافتين العربية والفارسية معاً . والخامسة أن يكون على علم بالترجمة الدقيقة التي لا تسبب خللاً في المعنى . وتكمن أهمية الأدب المقارن في إثراء الأدب القومي عن طريق الأجناس الأدبية . كما تكمن أهميته في الالتقاء والامتزاج بين الشعوب , ومعالجة المثالب والاتقاء بالمناقب . كما ان الوصول إلى العالمية وخروج الأدب القومي من نطاق القومية إلى نطاق العالمية من الأهمية بمكان لكن يجب على الأديب الذي يسعى إلى العالمية ألاّ يغفل هويته ولا ينسى قوميته .

س : ذكرت في مطاوي حديثك الكوميديا الإلهية , فهل يمكن الحديث عن هذه الكوميديا ؟

ج : تأثر دانتي بالمعري في رسالة الغفران , ولد دانتي في فلورنسا بإيطاليا في ظل اضطراب سياسي وآخر اجتماعي بين الحزب الديمقراطي والحزب الإقطاعي . ذهب مع أبيه وهو في التاسعة عشرة من عمره إلى وليمة لأحد الأثرياء فتعلق قلبه بفتاة تسمى بياتريس وهي ابنة صاحب الوليمة وعلى الرغم أنه لم يرها سوى أربع مرات فإنه أراد أن يتزوجها لكنها ماتت قبل أن يتقدم لها بأيام , فلجأ دانتي إلى العزلة وألف كتاباً بعنوان : ( أيام الشباب والصبا ) يعد مسودة للكوميديا .

بعد تأليف هذا الكتاب تزوج دانتي من ابنة أحد زعماء الحزب الديمقراطي , وبعد انضمامه إلى هذا الحزب انقلب عليه ثم كان النصر حليفاً للحزب الديمقراطي على الحزب الإقطاعي فتجمع أعضاء الحزب الأول واتهموا دانتي بالفساد والسرقة والعديد من التهم وتمت معاقبته بالنفي إلى إكسفورد بإنجلترا ثماني عشرة سنة ألف من خلالها قصيدته التي سماها الكوميديا الإلهية .

تبدأ الرحلة بدخول دانتي الغابة عن طريق الخطأ ويدّعي أنه رأى نوراً من بعيد وهو نور المسيح وعندما اقترب منه رأى أسداً ونمراً وذئباً فاشتد به الخوف ونزل به الرعب فجاءت إليه روح صديقه فرجيل ( جبريل ) يخبره أن بباتريس ( الإله ) هي التي أرسلته ثم اغتسل دانتي بماء البحر ( زمزم ) لتبدأ هذه الرحلة مروراً بأقسامها الثلاثة :

الأول : الجحيم , فيدعي دانتي أنه ذهب إلى الجحيم فرأى الصالحين والطالحين , وشاهد من ظلموه من أهل فلورنسا . ويبدو أنه اختلط عليه الأمر بين الجحيم والمحشر .

والثاني : المطهر , يقول دانتي إنه رأى الشيطان يعذب في الدرك الأسفل من النار ورأى الخنساء تتحدث إلى أخيها صخر , وهو يقول لها عندما تنظر إليه من نافذة في الجنة : لقد صدقت يا أختاه , كأنه علم فوق رأسه نار . ثم غاص في بحر النسيان لينتقل إلى الفردوس .

والثالث : الفردوس , يدعي أنه رأى الديك العملاق ( البراق ) وصعد إلى السماء الثامنة ( السدرة ) ورأى الملائكة لها أجنحة كالنسور , ورأى الأفلاك ( السموات السبع ) ويذكر أنه رأى المريخ وعطارد والزهرة … ورأى الملائكة تصلي وتسبح حول البيت المعمور في صفوف .

وتكشف الدراسة المقارنة عن أن رحلة النبي – صلى الله عليه وسلم – كانت رحلة حقيقية وبأمره سبحانه وتعالى سرى فيها بجسده وروحه تسلية للفرار من أهل الأرض عندما أذن رب السماء , أما رحلة دانتي فهي رحلة خيالية لا روح ولا جسد قائمة على الباطل فراراً من اهل الظلم الذي تعرض له في إيطاليا .

غسلت الملائكة قلب الرسول – صلى الله عليه وسلم – بماء زمزم قبل الرحلة , واغتسل دانتي بماء البحر قبل الرحلة . وأرسل الله جبريل إلى النبي– صلى الله عليه وسلم – أما دانتي فقد جاءت إليه روح صديقه الشاعر فرجيل . وأخبر جبريل أن الله هو الذي أرسله للنبي – صلى الله عليه وسلم – أما فرجيل فقد أخبر دانتي بأن الذي أرسلته بياتريس .

تحدثت المصادر عن البراق , وتحدث دانتي عن الديك العملاق . صعد النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى السدرة التي تلي السماء السابعة , بينما يدعي دانتي أنه صعد إلى السماء الثامنة . تخبر المصادر الإسلامية أن الملائكة مخلوقات نورانية , ويدعي دانتي أنها مخلوقات كالنسور لها أجنحة , وتحدثت المصادر الإسلامية عن السموات وتحدث دانتي عن الأفلاك , وتحدثت المصادر الإسلامية عن البيت المعمور وكذا دانتي .

س / اتصل الأدب العربي بضروب شتى من آداب الأمم الأخرى ما أدى إلى بروز عدة مذاهب واتجاهات أدبية غربية كان لها تأثيرها على الأدب العربي حدثنا عن بعض هذه المذاهب .

ج / سأتخطى الكلاسيكية وأتحدث عن الرومانسية الابتداعية (( romanticisme )) ولدت في أوربا أواخر القرن الثامن عشر نتيجة للثورة على القيم الكلاسيكية التي وقفت ضد حركة التطور والحرية وتحكيم سلطة العقل والانطلاق في رحاب الخيال والإعراض عن المدنية والاتجاه إلى الأرياف والعناية بالنفس الإنسانية والبساطة في التعبير والتفكير عن التكلف والتصنع .

وقد ابتدع مصطلح الرومانسية الكاتب الفرنسي ستندال في بحثيه { راسين وشكسبير } حيث عالج إمكانيات تشخيص الأدب الجديد في عصره وتمييزه عما سماه بالأدب الكلاسيكي .

وكان لأفكار جاك رسو أثرها الذي مهد للثورة الفرنسية سنة 1889م وهي القيم التي بشرت بها الليبرالية والنزعة التحريرية في مجالات السياسة والاجتماع والفكر والأدب .

ويعد فيكتور هيجو أب الرومانسية في فرنسا وذلك من خلال تحليله القيم للمذهب الرومانسي في مقدمته الرائعة لمسرحية { كرومويل } التي تعد دستور الأدب التمثيلي الرومانسي . وكان شكسبير أول من نسج خيوط الرومانسية في مسرحياته ثم تجسدت في أعمال وردزورث وكولوردج .

لقد جاءت الرومانسية تأكيداً لإعلاء فلسفة الذات وتقديم الفرد على المجتمع وتقديم العاطفة على العقل والقلب على الدماغ والشعور على المنطق والموهبة على الصنعة .

وقد أثرت على الأدب العربي وظهر هذا الأثر في شكل كتابين { الغربال } لميخائيل نعيمة وكتاب { الديوان } لعباس العقاد وهي كتب نقدية مهمة اعتمد عليها الرومانسيون في معالجة موضوعاتهم الشعرية وفي ظل ذلك نشأت تنظيمات أدبية أهمها :

الرابطة القلمية أو جماعة المهجر 1920م بزعامة جبران ونسيب عريضة وإيليا ابو ماضي وميخائيل نعيمة .

مدرسة الديوان 1921م ويمثلها شكري والمازني والعقاد . مدرسة أبولو 1932م ويرأسها أحمد زكي أبو شادي ومن شعرائها أبو القاسم الشابي وإبراهيم ناجي .

ويتصف الشعر الرومانسي بملامح من أهمها :

*- الأدب الرومانسي هو خلق وإبداع وتعبير عن الذات الإنسانية وليس محاكاة واحتذاء ولذلك دعوا إلى تحريره من ربقة الآداب القديمة .

*- أن شعراء الرومانسية يميلون إلى الدين لانسجامه مع عواطفهم , فهم مشدودون إلى عالم الروح وغموضه وأسراره .

*- مجد الرومانسيون الشكوى والقلق والألم والحزن , وتغنوا بمشاعر اليأس والخيبة وشاع في شعرهم الشك والحيرة وأسرفوا في التشاؤم والتبرم من الماضي ومآسيه والغربة والحنين.

*- يمزجون شعرهم بالطبيعة حيث يستوحون منها صورهم المبتكرة وخيالاتهم وتأملاتهم فهي مصدر إلهامهم وملاذهم وأنيسهم وخاصة المناظر الكئيبة التي تتلاءم وأحاسيسهم كالعواصف والقمر الشاحب و الليالي المظلمة والأمواج الهائلة وسقوط أوراق الشجر والضباب وتلبد السماء بالغيوم ولذلك يجدون فيها متنفساً يستريحون إليه .

*- دعت الرومانسية إلى تحطيم سيطرة العقل الذي نادت به الكلاسيكية ونادت بتحكيم العاطفة

*- رفض الرومانسيون أن يكون الأدب تعبيراً عن المجتمع أو ربط الشعر بغايات خلقية أو توظيفية في الإصلاح والتربية أو تجنيده في خدمة القضايا الاجتماعية والسياسية , وراحوا ينادون بـ { الفن للفن } تصوير للمشاعر الفردية أغنية يسلي بها الشاعر نفسه بجرأة واندفاع لا يعرفون التحشم والاستتار .

*- ليست المرأة عند الرومانسيين صورة جسدية بل هي روح مثالية تتميز بالحيوية والجمال ولذا كانت عاطفة الحب محور الموقف من المرأة فهي وسيلة للخلاص من الاغتراب بل قد ارتفعوا بالحب إلى درجة التقديس .

وتتسم خصائصه بالتحرر من قيود الشكل , ويبدو الاهتمام بالمضمون , وتنمو الوحدة العضوية في قصائدهم , ويستقي شعراء الرومانسية معجمهم الشعري من الطبيعة ومن الأجواء الروحية , وتمثل الصورة الكلية أهم عناصر البناء الشعري , وتسيطر ذاتية الشاعر على القصيدة , ويظهر التجديد واضحاً في نتاجهم الشعري كالشعر الحر وتعدد القوافي وقصيدة النثر وغير ذلك .

2= المدرسة الرمزية :

مدرسة أدبية خلفت البرناسية في الشعر , واستقرت في الآداب الأوربية منذ عام 1880م , اتخذت من الإشارة واللمح اداة للتعبير عن الانطباعات النفسية .

والرمز عند العلماء علامة تدل على شيء له وجود قائم بذاته , وعند الدباء هو وسيلة للتعبير عن التجارب الأدبية المختلفة بواسطة الرمز .

نشأت في فرنسا نتيجة لعوامل عقدية واجتماعية وثقافية فالإنسان الغربي منغمس في المادية والبعد عن الله والإيمان به , كذلك الصراع في المجتمع وعجز اللغة عن التعبير كل ذلك دعا إلى استخدام الرمز ليعبر من خلاله الأديب عن مكنونات صدره .

ولم تعرف الرمزية مدرسة ادبية إلا في سنة 1886م حيث أصدر عشرون كاتباً فرنسياً بياناً في جريدة { الفيجارو } يعلنون فيها عن ميلاد الرمزية . وكتب الشاعر الفرنسي شارل بودلير قصيدته المشهور { المراسلات } وكانت رموزاً بحته . ويعد فرويد وبدجون وإدجار من أبرز روادها . وتتسم بخصائص عامة منها :

*- تراسل الحواس كإعطاء المسموعات ألواناً والمشمومات انغاماً وكون المرئيات عاطرة فالألوان والروائح والأصوات تتداخل وتتناوب , ورائدهم في ذلك بودلير يقول في قصيدته المراسلات : (( ثمة عطور ندية كجسد الأطفال عذبة كآلة موسيقية خضراء كالمروج )) .

*- الإيحاء كقولهم : الربيع الشاحب والفجر المتثائب والشفق البارد والضوء الخافت أو الباكي والأرض الساخنة والسكون المقمر والحلم الجميل , وتخطى ذلك إلى الألوان فاللون الأحمر يرمز إلى الحركة والحياة الصاخبة والثورة والغضب والقتال . واللون الأخضر يرمز إلى السكون والطبيعة والانطلاق والخلاص . واللون الأزرق يرمز إلى العالم الذي لا يعرف الحدود واللون الأصفر يرمز إلى المرض والحزن والضيق والضعف والتبرم , واللون الأبيض يرمز إلى الطهر والهدوء واللون البنفسجي يرمز إلى الصوفية .

*- رفض النزعة العلمية والروح الواقعية والبحث عن عالم مثالي .

*- الجرس الموسيقي الداخلي والغموض والتلميح والدعوة إلى تحرير شكل القصيدة من الوزن والقافية وكتابته مرسلاً حراً , وعلى يد الرمزية ولدت قصيدة النثر وكان بودلير من أشهر شعرائها .

*- اللجوء إلى الاساطير كأسطورة السندباد والعنقاء والتنين وعشترون وتموز والغول .

3= المدرسة البرناسية أو الفنية :

البرناسية مذهب أدبي فلسفي ظهر كحركة أدبية سنة 1870م في فرنسا ردة فعل معارضة للرومانسية الموغلة في الذاتية عن أحزان الفرد وعواطفه الخاصة دون المشاركة الجماعية لأبناء الإنسانية .

وتقوم البرناسية على اعتبار الفن والأدب غاية في ذاتيهما وأن مهمتهما الإمتاع فقط لا المنفعة وإثارة المشاعر وإلهاب الإحساس وتحطيم القديم وتدميره لبناء العالم الجديد الخالي من الضياع – حسب زعمهم – والقديم في رأيهم هو كل ما ينطوي على العقائد والأخلاق والقيم والتوجيه , وعزل الأدب عن قضايا الحياة الاجتماعية والسياسية والوطنية وهذا ما يسمى بالأدب المكشوف أو الفن لأجل الفن بخلاف الرومانسية التي ترى أن الفن والأدب وسيلة للتعبير عن الذات .

أطلق أحد الناشرين الفرنسيين على مجموعة من القصائد لبعض الشعراء الناشئين اسم البرناس المعاصر إشارة إلى جبل البرناس الشهير باليونان التي تقطنه آلهة الشعر كما كان يعتقد قدماء اليونان إلا أن الاسم ذاع وانتشر للتعبير عن اتجاه أدبي جديد .

ويعد الشاعر الفرنسي شارل لوكونت دي ليل رائد المذهب البرناسي , كما يعتبر تيوفيل جوتيه رائد نظرية الفن للفن , ومنهم أيضا : مالا راميه والكونت دي ليسل وفيرلين وفرانسوا كوبيه وسولي برودوم .

وإلى لقاء آخر يجمعنا في رحاب الأدب والنقد , طابت ليلتكم ,,,,,,

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى