المقالات

الخطأ المثمر

يؤكد فلاسفة العصر بأن من أعظم ما توصل إليه الفكر البشري هو تأكيد وإشاعة مفهوم “اللاعِصْمَة” فالخطأ أصلٌ وتلقائي أما الصواب فهو ثمرةُ الجهد والتركيز؛ فالإنسان محاطٌ باحتمالات الخطأ في كل ما يقول وما يفعل؛ لذلك فإن عالم الاجتماع الشهير فلفريدو باريتو ينبه إلى أن الأخطاء ليست سَلْبًا مطلقًا، وإنما تنطوي على بذور إيجابية عظيمة مثمرة، تتفتح بجهود محاولات التصويب فما أن يعلن باحثٌ عن اكتشافٍ حتى يبادر آخرون للتحقق، وبهذا الاستنفار يتم تخصيب العقل البشري وتنمية المعارف الإنسانية؛ لذلك يؤكد باريتو بأن (الخطأ مثمرٌ ومليءٌ ببذور التصويبات)، إن التخلف لا يأتي من أخطاء الاجتهاد، وإنما يأتي من ادعاء العصمة وتَوَهُّم الكمال والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة، إن الخطأ سمةٌ إنسانية أساسية؛ فيجب التعامل مع هذه السمة بواقعية إيجابية وعقلانية متفتحة؛ لذلك يجب التفريق الحاسم بين خطأ الاجتهاد وخطأ الإهمال.
إن الإنسان حين يدرك أصالة وأولوية وتلقائية الخطأ؛ فإنه في كل المواقف المهمة يشحذ تفكيره ويستنفر طاقته ويركز انتباهه، ويستحضر كل الاحتمالات؛ فالإمساك بالفكرة الصائبة كالإمساك بالطريدة الهاربة، إنها لا تتحقق بصورة تلقائية، وإنما تتطلب الاستعداد والاحتشاد، واستخدام أفضل الأدوات والوسائل المتاحة.
إن العلوم كلها ما هي إلا تصحيح تصورات وتراجع عن أخطاء عامة مزمنة، وأوضح نماذج هذا الخطأ البشري العام اكتشاف أن الأرض ليست مركز الكون، وإنما هي مجرد كوكب صغير يدور حول الشمس، إنه خطأ فاحش ظل سائدًا خلال القرون.
إن إنكار أولوية وأصالة وتلقائية الخطأ يؤدي إلى الإرباك والتردد والكلال والعُقْم، إنه يدفع الناس إلى الامتناع عن الفعل والإحجام عن الإقدام؛ وبذلك يتم غرس أسباب العطالة والعِي والتخلف.
قبل ربع قرن كتبت في جريدة الرياض سلسلة مقالات عن (أصالة وأولوية وتلقائية الخطأ)؛ فالعمل الصائب هو ثمرة إدراك أولوية الخطأ وتركيز الانتباه لتجَنُّبه، وأنوي بإصدار كتاب عن (أصالة النقائص البشرية)، وسيكون مبحث أصالة الخطأ ضمن مباحثه.
الخطأ قد يأتي بعد استنفاد الجهد في التحقق؛ فالأصل في الإنسان أنه كائن محدود فيحصل منه الخطأ حتى بعد أن يبذل أقصى الجهد، وقد عالج رجال القانون والفقهاء قضايا الخطأ؛ فالمكتبة تزخر بالكتب التي تتحدث عن الأخطاء التي تحصل رغم بذل أقصى الجهد كأخطاء قادة المعارك الحربية، وهنا نجد بيل فاوست متخصصًا في تتبع التاريخ، وله كتابان أحدهما باسم (أخطاء الجنرالات عبر التاريخ)، والثاني بعنوان: (مائة خطأ غيَّرت مجرى التاريخ)، وللبروفيسور لويد جيف دوماس كتاب بعنوان: (الخطأ البشري والتكنولوجيات الخطرة)، أما نيغيل بلونديل فيتتبع التاريخ البشري ليدون (الأخطاء الكبرى في العالم)، وله باللغة العربية ترجمتان يستهله بفصل عن حريق مدينة لندن بسبب نار اندلعت في البداية من مخبز، وهنا نتذكر القول الشائع:
(ومعظم النار من مستصغر الشرر)، وهنا نجد الدكتور عبد الكريم فودة يؤلف كتابًا بعنوان: (الخطأ في نطاق المسؤولية التقصيرية) أما المفكر الأخلاقي الإنجليزي برنارد مايو؛ فله كتاب بعنوان: (فلسفة الصواب والخطأ)، وعمومًا فإن أولوية وتلقائية وأصالة الخطأ قد عولجتْ باستفاضة في التاريخ، وفي الثقافة الطبية وفي الفكر الفلسفي، والفكر الأخلاقي والفكر القانوني والفكر الإداري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى