كنت في مشوار، ونادرًا ما أكون لوحدي؛ فنحن من تجاوز في العمر العقود المطولة، وإن بدينا بحمدالله في كل العافية ولكن نحتاج أن نروق؛ فقد أتعبتنا مشاوير الحياة ذاتها، وزدنا علي ذلك في أيام الصبا وما بعدها بقيادة السيارات، كم قضيت من رحلات من الرياض إلى جدة بسيارتي «الڤيات» ذات اللون العسلي هي رفيقتي وأنا لوحدي؛ فليس كل وقت شدنا الحنين إلى الأهل في جدة، أجد الصديق الذي في وقت الضيق يكون الرفيق. وكما قلت كبرنا وأصبح معنا الرفيق الموالي الدايم هو صديقنا سائق سيارتنا الطيب. فهو يقود السيارة وأنا تقودني الأفكار. إلا من بين فينة وأخرى انتبه يا فلان احذر وضع سلامتنا «وساهر» في الحسبان.
المهم في هذا اليوم أخذت سيارتي، وقلت في نفسي أعيد ذكري بعض الأيام الخوالي عندما كانت قيادة السيارة من الضروريات والمكملات الضرورية، وربما عند البعض من علامات الترف. وخاصة عندما كانت السيارة بالإضافة على أنها وسيلة التنقل فهي أيضًا بديل عن المرسال سواء كعابي أو بالبريد حتي لو من حارة حارة أو الاستعانة بصديق لو شفت فلان قل له يمرني بكره.. ففي الغالب لأجل تتحدث مع صديق لا بد أن تذهب إليه أو يأتي إليك. وكانت المتعة عندما تقود سيارتك وأنت مشغل المذياع أو شريط الكاسيت وطلال مداح ومحمد عبده يشنفان الأذنان بإبداعاتهما؛ وخاصة عندما كان الفن فيه زخم وعراك فني.. نعم ناعم ولكن مفعم بالتنافس الجميل، وتهيم معهما أكثر؛ فتغني.. يا مسلِّمين بالعيون عشنا وشفناكم عشنا وشفنا الهنى من فرح لقياكم، حركتوا فينا الشجون اللي مضت من سنين ..أيام ما كان الهوى غالي علينا سوا .. وكنَّا بأمره مسلّمي ثم تسلطن باليوم «يمكن تقولي يا نفسي أنك سعيدة، تشهد على صدق قولي دقات قلبي الجديدة».
«تسعة وعشرين عام ضاعت وسط الزحام ليلي ونهاري وقلبي أصبح يحب الظلام»، وتمضي السيارة وكأنها مأمورة وأنت مجرد سائق ما سقش حاجة. لتجد نفسك في طريق المدينة حيث يعود بك شريط الذكرى لتلك الأيام بانشراح الصدر فلا زحمة ولا ضجيج؛ فتقف على جال الطريق، وأنت تسمع المغني وتتناول ما تيسر بسكوتة وإلا حبتين مكسرات، ومعها ثلاجة الشاي إذا تيسرت أو زجاجة الميرندا البرتقالية. فطريق المدينة زمان عندما يهزك الشوق لرؤية الصحراء الموشحة أيام المطر بألوان العشب، ورائحة المطر التي تمدك بطاقة معنوية لا حدود لها؛ فكأنك قد ملكت تلك المساحات من الأرض الفضاء.
داهمتني الأفكار وأنا أسوق سيارتي ولا أدري هل أمر على صديق أو أستمر في القيادة حتي أجد مساحة تذكرني بتلك الأيام، ومن ثم أقف على جال الطريق، وأشتكي وأقول مظلوم وأنت ظلمتني، وأعني بهذا نغير مزاج الحال؛ حيث لا فسحة مد النظر، ولا هدوء كل الأماكن ليست مشتاقة لي. فكل جزء منها مشغول بمن عليه إما منزل أو بقالة أو محطة أو مول أو طريق لا يهدأ؛ فالزحام في كل مكان. نعم كثرت الأشجار في الشوارع، ولكنها للزينة أكثر من عامل طبيعة تجلي به النظر. فقد كانت عشبة هنا وشجيرة هناك نمت بعد سحابة صيف أو هتان مر ورحل كضيف. على بساطتها تغير الجو فيحلو حتي المطر بعد ما كنا من بداية الغيمة نتحراه ثم نتعمد أن يغمرنا فيثير بهجة في أنفسنا وتغسلها. ورغم صبانا الأولي ترجعنا إلى صبا أجد وأرحب هذا المطر، أصبحنا نخشاه ومن أول رشة نتحاشاه وبيتك بيتك.
استمريت في قيادة سيارتي ربما قطعت مسافات لا تقل عن عشرين أو ثلاثين كيلًا لا أدري فقد سرقتني الذكريات، ولكن أصريت على المضي ربما أجد ما يشدني هنا وهناك، وامتدت يدي إلى المذياع وإذا بالفنان «عبادي» صدفة يغني من كلماتي: قالوا ودع لك قلت يسلم ويجي قالوا يعود لك قلت الله أرتجي ما أصعب الفرقة على القلب الحزين الله يردك يا قرة العين. فهمت يا عبادي خلاص لقد عرفت أنه مالي في الطيب نصيب. نعلم أن لكل شيء وقته، وكما أن الليل ما يحلا إلا بجلاسه وأهل الهوى وناسه. فإن لنا أوقات أكيد ليس لليل ولا الهوى، إنما ذكريات خلت على ما كانت عليه من متع كنا نحسبها كذلك، والآن أصبحت عتقية بجانب ما تشهده البلاد من مختلف أنواع الترفيه الذي ربما بعد سنوات تعتبره الأجيال القادمة ترفيهات عتقية، ونظرت عليّ مد البصر عسى ولعل، ولكن الأرض قفر والمزار بعيد. وهنا توقفت فعلي أن أعود أدراجي وأنا أدندن عاتبًا. على رفات الماضي.
أنـا أحبك يـا سيفـا أسال دمي
أيـا قصة لست أدري مـا أسميها
أنـا أحبك حاول أن تسـاعدني
فإن من بـدأ المأساة ينهيهـــا