في أقصى الطرف الشرقي من حارتنا مقهى شعبيًا أتردد عليه، لكن بدون انتظام، المكان مخصص أصلًا للمستودعات وأحواش التشليح، مكان ضاجٌ نهارًا وهادئ ليلًا لدرجة الفزع.
شارعان متوازيان يوصلاني وغيري للمقهى، الأول رئيس لا أفضله بسبب كثرة “مطباته” بفعل الأمطار بشكل أقل، وبسبب طفح البيارات والمياه الجوفية بشكل أكبر، في ظل انصراف البلدية عن تعهد انبعاجاته ووجعه المزمن.
أنا أختار الشارع الثاني الموازي جنوبه، فهو أقل ضررًا على مفاصل سيارتي الشعبية، وحتى وإن كان بدأ لي في أول يوم مظلمًا لكن لا بأس، موكبي الميمون ما إن يبدأ المسير فيه حتى تتلبسني أفكار عجيبة وكلها حلوة، شعرت أنها ملهمة، تتقافز إلى دماغي عدة أفكار، واحدة تصلح تغريدة، والأخرى فكرة مقال، والثالثة لمحة لكتابة نص قصصي، كل ذلك وأنا محاط بظلام دامس في سيارتي، التي أقودها ببطء وبسرعة لا تزيد عن 40 كم/س، وأشعر حينها بانتعاش وحيوية، مكان هادئ، لا أكاد أرى فيه أحدًا، لا يمشي ولا يقف أمام باب أو يطل من نافذة، حركة سيارات قليلة جدًا، وما أن تلحق بي أحدها وتتعداني بالطبع، إلا وأتوقع أن لسان حال سائقها يتمتم بمعنى قريبًا من: (ما بال سيارة هذا المجنون .. تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل) استلهاما من بيت شعر في معلقة شاعر نجد الجاهلي العملاق الأعشى، استشف ذلك من بعضهم وهو يتجاوزني وقد (غمزني) إما (بتكشيح) مصابيح سيارته من خلفي أو بـ (بوري) أفهم منه أنه احتجاج لطيف.
عادة أجد نفسي – وأنا في شارعي المظلم ذاك – منتعشًا كأنما دفقة أوكسيجين إضافية تجتاح جسدي، ولعل مرد ذلك لطقس المكان، البعيد عن ضوضاء المدينة وصخبها وأنوارها، وضجيج سياراتها وجلبة سكانها ونيون محلاتها، التي تظل تتلامع بدون توقف.
أقطع شارعي ذاك في نحو عشر دقائق، وخلال ذلك الوقت القصير أجدني قد عببت من طقس المكان، وبعد ذلك تتراءى لي من على قرب معالم المقهى، وقد انتشرت أضواؤه المزروعة على جدرانه بأكثر من 40 مصباح نيون كهربائي، لتبدد ظلام المكان وتحيله خارجه الى بقعة ضوء، وداخله إلى عرصة ترفيه لعشاق المقاهي، مقاهي أيام زمان بطقوسها التي عاشها أولئك المترددين ردحًا من الزمن.
المقهى يتمدد على مساحة واسعة، يضم جلسات في الهواء الطلق، كل زبون أو مجموعة زبائن أصدقاء في مربع صغير وأمامهم تلفاز “يلعلع”، عشرات الجلسات وأصوات التلفازات تصدح بمباراة عند الأكثرية منهم، وبفيلم أو نشرة أخبار عند القلة منهم، وبين ممرات الجلسات تنصب أرجيلات الجراك، وبعضهم يختار المعسل، دردشات هنا بصوت عالٍ، وبجانبهم من يلعب “الضومنة” وغيرهم “الورق”، وفي مكان مقابل هناك صالة مكيفة لمن يرى أنه بحاجة للاحتماء بها من الحر والرطوبة.
شارعي العجيب ذاك ألهمني كتابة عدة نصوص قصصية وعدة تغريدات، وبعض التغريدات أدب كما قرر بعض أهل الاختصاص، ألم نسمع عن نقاشات في منتديات كبيرة تعرض لأدب تويتر(إكس لاحقا) كتدوينات مختصرة عمية، لكن ما هطل علي البارحة كان فكرة كتابة مقال – هذا المقال – ثم ظللت أسال نفسي: ماذا عسى تكون ذروة الإثارة في سطوره؟.
لم يتأخر الجواب كثيرًا …….
فما إن استقر بي المقام وأسندت ظهري والتلفاز أمامي ينقل المباراة التي للتو بدأت، حتى كان العجب أنه في الدقيقة الثانية والوقت ما زال مبكرًا إذ (بالرئيس كيسيه) (يسرق الكاميرا) فقد فجرها واحدة من قذائفه المحكمة، هدف سينمائي في سقف مرمى المنافس (بم …) بعد تمريرة من الدولي الجزائري الساحر محرز.
خيال شارعي المظلم وقذيفة كيسيه الحقيقية والتي جاءت أشبه بالخيال، شكلا طقسا مختلفا، عندما جمعا الواقع بالخيال، وتلك اشتراطات نقاد صنوف الأدب المختلفة في النص الإبداعي، الذي يراد له أن يُمتع ويصل للناس، لابد من حقيقة مخلوطة بخيال.
واستطرادًا ….
فبعض المشتغلين بالأدب تراهم – كمثال – يغوصون فرادى في الأودية والشعاب والجبال الخضراء وربما على الشواطئ ومداخل الغابات، يجدونها ملهمة لهم، يحسبهم البعض مجانين، وهناك من يراهم بالفعل على مقربة من خط التماس مع الجنون، وثمة من يؤمن أن “من الجنون فنون” بما يكفي لتوليد حالة معينة من الإبداع، وهكذا ظل الجنون صديقًا وفيًا للشعر والنثر والفلسفة في علاقة جدلية لا تنتهي، وإن شئت فاقرأ كتاب (بيت حافل بالمجانين) لباريس ريفيو حيث أجرى مقابلات صحفية مع تسعة أدباء عالميين.
آخرون تلهمهم الخرائب والقرى القديمة، وغيرهم ضجيج الحياة وحركة الناس الصاخبة، وهناك من يجد الإلهام في الخلوات وأواخر الليالي الهادئة، وفي تأمل وجوه من يغشاهم الفرح، أو من خلال معايشة “دراما” الانتكاسات والوجع والخيبة على وجوه آخرين.
0